تحليلات

تأثير الأناركية الدولية على استقرار التمركز الجيوسياسي لإيران

طباعة

ترتكز الواقعية البنيوية كما صاغها "كينيث والتز" على أن سلوك الفاعلين الدوليين تحدده البنية العامة للنظام الدولي، حيث لا توجد سلطة مركزية تعلو على الدول. هذا الطابع الأناركي أو غير الهرمي يخلق بيئة تُجبر كل دولة على الاعتماد على ذاتها لضمان بقائها، من خلال تعزيز قدراتها العسكرية والسياسية، وموازنة القوى التي تملك إمكانات صعود مؤثرة.

وفق هذا التصور البنيوي، لا ترتبط ديناميات السياسة العالمية بطبيعة الأنظمة الداخلية للدول، بل بتوزيع القدرات داخل النظام نفسه. الأمر الذي يجعل التنافس والحذر المتبادل سمتين بنيويتين تحكمان تفاعلات الفاعلين الدوليين.ويتضح أثر هذا الإطار على إيران في محاولتها الموازنة بين نفوذها الجيوسياسي وقيود الأناركية الدولية.

المعادلة الاستراتيجية لخطوط الطاقة في غرب آسيا:

من منظور "المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية"، الجهة الفكرية والاستشارية المعنية بالتخطيط الاستراتيجي في سياسة العلاقات الخارجية، والتابعة مباشرة للقائد الأعلى الإيراني علي خامنئي، قُسمت غرب آسيا إلى منطقتين رئيسيتين: القوقاز والخليج العربي، وهما جغرافيتان مختلفتان تمامًا يجمع بينهما فقط العامل الطاقوي.

وعلى نحو بارز ظهرت كيانات سياسية مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام1991، إذ سعت دول بحر قزوين إلى تحقيق استقلال كامل في مختلف مجالات حياتها السياسية. ثم شرعت هذ الدول في تخطيط وتنفيذ مجموعة من خطوط أنابيب الطاقة، من أبرزها:

1-  خط الطاقة (باكو – تبليسي – جيهان)، من أهم مسارات نقل نفط بحر قزوين إلى الأسواق العالمية، ويحظى بدعم كبير من الولايات المتحدة، وأوروبا، وتركيا.

2-  خط (باكو – سوپسا)، يمتد هذا الخط بطول 515 ميلًا، ويربط باكو بميناء سوپسا في جورجيا على البحر الأسود، بطاقة تتراوح بين 300 و600 ألف برميل يوميًا.

3-  خط (باكو – نوفوروسيسك)، من الممرات المدعومة من روسيا. ويمتد من حقول باكو مرورًا بجمهوريات ذاتية الحكم، مثل داغستان والشيشان، وصولاً إلى ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود.

4-  ممر (كازاخستان – سنكيانغ)في الصين بطول 613 ميلا، مما يعكس سعي الصين للاستفادة من موارد بحر قزوين.

5-  خطوط (أذربيجان – إيران، وكازاخستان - تركمانستان – إيران)، توقفت هذه المشروعات عند مرحلة الجدوى بسبب العقوبات الدولية.

6-  خط غاز (نابوكو)، بطول 3300 كيلومتر وبطاقة 45 مليار متر مكعب سنويًا، يهدف لنقل غاز آسيا الوسطى عبر تركيا، وبلغاريا، ورومانيا، والمجر إلى النمسا.

7-  خط غاز (ترانس–خزر)، ينطلق من ميناء تركمنباشي في تركمانستان، مارًا بأسفل بحر قزوين إلى باكو، ثم إلى أرزروم في تركيا، ومن هناك إلى أوروبا.

8-  خط غاز (باكو – تبليسي – أرزروم)، بطول 630 ميلا، لنقل غاز حقل شاه دنيز الذي يضم مخزونًا يقدر بـ460 مليار متر مكعب.

9-  خط غاز (تركمانستان – أوزبكستان – كازاخستان – الصين)، يمتد لمسافة 2000 كيلومتر، بطاقة 30 مليار متر مكعب سنويًا.

تبعًا لذلك يشير أستاذ الجغرافيا السياسية بجامعة طهران، في دراسته المنشورة بالمجلة الفصلية الدولية للجغرافيا السياسية التابعة للجمعية الجغرافية الإيرانية، إلى أن تحالفات الطاقة في القوقاز الجنوبي تمثل محاولة لتعزيز قوة منافسي إيران الحدوديين، أذربيجان وتركيا، عبر السيطرة على الطاقة ومسارات الترانزيت.

من ناحية أخرى تسعى أرمينيا، التي واجهت حصارًا جيوسياسي طويل الأمد، إلى الانضمام إلى هذا المحور لإعادة تعريف أمنها عبر الارتباط بتركيا والأسواق الغربية. في حين يُنظر إلى مشروع الممر الاقتصادي الهندي - الشرق أوسطي - الأوروبي(IMEC)  كجزء من جهود أمريكية للحد من النفوذ الجيوسياسي لإيران.

تحديات دبلوماسية الطاقة الإيرانية في جنوبي القوقاز:

تشهد منطقة القوقاز الجنوبي تحولات استراتيجية مهمة، تمثلت في المبادرة الجديدة بين أرمينيا، وأذربيجان، وتركيا في مجال الطاقة، والتي تُعد امتدادًا لمبادرات سابقة مثل ممر زنغزور ومحور الطاقة الأوسطي. بما يشير إلى مواجهة إيران تحديات مباشرة على دورها التقليدي في القوقاز الجنوبي، فيما يضع هذا التحالف الثلاثي نفوذها الترانزيتي التقليدي نحو أوروبا تحت الضغط.

هذا التحول جاء عقب حروب قره باخ الأخيرة وتراجع الدور الروسي كضامن لأمن أرمينيا، وهذا يعني أن إيران لم تعد قادرة على الاعتماد على التوازن التقليدي الذي كانت توفره موسكو. وبالتالي، أضحى أي قرار إيراني في المنطقة مرتبطًا مباشرة بقدرتها على التفاعل مع القوى الإقليمية الجديدة دون دعم خارجي تقليدي.

أما إعلان رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، استعداد يريفان للتعاون في مشروعات نقل الطاقة وترانزيت السلع عبر أراضيها، يشكل خطوة حاسمة نحو إكمال ممر طاقة متكامل من حقول الغاز الأذربيجانية مرورًا بأرمينيا وصولًا إلى تركيا وأوروبا.كما يعزز موقع باكو ويضعف قدرة إيران على استثمار موقعها الجغرافي في الترانزيت.

بينما مشروعات ربط الكهرباء بين القوقاز والبحر الأسود، مثل ربط جورجيا، ورومانيا، وأرمينيا بالشبكة التركية، تُعد أدوات إضافية لتجاوز المسارات الإيرانية التقليدية، وتقليص نفوذ طهران الإقليمي بشكل مباشر.

بناء على ذلك تُصبح إيران أمام خيارات استراتيجية محدودة تتراوح بين الموازنة النشطة أو الانخراط المحدود في التحالفات الإقليمية الجديدة، مع العلم أن كل خيار مرتبط بتكاليف عالية وحسابات دقيقة لموازنة النفوذ والحفاظ على دورها في المعادلات الإقليمية.

تداعيات مشروع آيمك على النفوذ البحري الإيراني:

بعد انضمام كازاخستان إلى اتفاقات إبراهام في 6 نوفمبر 2025، أعيد طرح مشروع الممر الاقتصادي آيمك(IMEC) على طاولة صانع القرار الإيراني.حيث يعتبر المشروع تهديدًا مباشرًا للنفوذ البحري الإيراني. ورغم وصف المدير العام لشئون أوراسيا بوزارة الخارجية الإيرانية، منوچهر مرادی، الخبر بأنه انعكاس لحالة اليأس لدى إسرائيل وداعميها، للخروج من العزلة الدولية الناتجة عن استمرار الاحتلال وجرائم الإبادة الجماعية. إلا أن المخاوف الإيرانية تجاه المشروع تظل واقعية وملموسة.

خاصة بعد تغطية وسائل الإعلام الدولية لآليات وعقبات تنفيذ آيمك، كصحيفةLeMonde الفرنسية وThe Economic Times الهندية، وإعلان وزير الخارجية الهندي قلقه من تأخر المشروع، بسبب الوضع في غرب آسيا.ازداد التوجس الإيراني تجاه إقامة شبكة متعددة الوسائط تربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، مرورًا بدول الخليج العربي، والأردن، وإسرائيل.

هذا يعنيإعادة توزيع خطوط التجارة الإقليمية، وتقليص قدرة إيران على التحكم في المضائق الاستراتيجية الحيوية، بما فيها مضيق هرمز، مما يزيد المخاطر الاستراتيجية على موقعها البحري في المنطقة.

يزيد على ذلك تضمين المشروع ببنية تحتية متكاملة تشمل السكك الحديدية، وإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر، وكابلات الألياف الضوئية، وشبكات الاتصالات الرقمية، بهدف تطوير مسارات لوجستية وتقنية استراتيجية ونقل مراكز النفوذ اللوجستي إلى إسرائيل ودول الممر. وهكذا ستواجه إيران ضغوطًا اقتصادية وتقنية على صادرات النفط والغاز، بالإضافة إلى تكاليف التأقلم مع منافسة النقل البديلة.بالتالي تقليص قدرتها على التحكم في ممرات الطاقة الإقليمية ونفوذها البحري التقليدي.

قيود الأناركية على التموضع الجيوسياسي لإيران:

في ظل تغير موازين القوى العالمية، يسعى اللاعبون الإقليميون والدوليون وراء القوة والأمن لضمان بقائهم. مما يجعل معظم التحالفات الإقليمية والدولية تحد من قدرة إيران على التمركز في المعادلات الإقليمية، خاصة بعد دخول عقوبات مجلس الأمن حيز التنفيذ. هذا الانعكاس عمليًا يقيد خيارات إيران في منطقة غرب آسيا الممتدة بين بحرين، والتي تضم أكثر من 70٪ من احتياطي النفط العالمي وأكثر من 40٪ من الغاز الطبيعي، الأمر الذي يجعلها "النطاق الجغرافي الاستراتيجي للطاقة".

وإذا ما اعتبرنا البيئة التنافسية مقيدة لسلطات الدول، فإن الأناركية الدولية تضع حدودًا لقدرة إيران على استثمار موقعها الجغرافي ومصادرها الطاقوية في المعادلات الإقليمية. ومن الأمثلة العملية على ذلك، العقوبات وحصار خطوط الطاقة، التي تقيد خيارات إيران في الترانزيت والتصدير، خاصة في القوقاز والخليج.

يضاف إلى ذلك،احتواء منطقة القوقاز على احتياطيات ضخمة من الوقود الأحفوري، الذي يجعل الدول الأخرى تتنافس على السيطرة على مسارات النقل. ومن ثم تقويض الدور الإيراني رغم موقعها المركزي.

فمن جهة تمتلك إيران مزايا كبيرة تتمثل في عمقها الاستراتيجي واحتياطياتها الطاقوية الضخمة، التي تمنحها نفوذًا في موازنة القوى الإقليمية.ومن جهة أخرى تواجه قيودًا ملموسة تشمل العقوبات الدولية، وضعف الاستثمارات الأجنبية، وتحديات التنمية الداخلية للبنية التحتية، التي تقيد فاعلية استثمارها لموقعها الاستراتيجي بشكل كامل.

خاتمة:

استنادًا لما سبق، لا تمثل التحولات في ممرات الطاقة مجرد تغييرات بنيوية، بل تعد تعديلًا فعليًا في هندسة القوة الإقليمية وتقليصًا لدور إيران في دبلوماسية الطاقة. ومع هذا تتيح هذه التحولات لإيران فرصة تعزيز وتحريك نفوذها ضمن المحور الأوراسي الشرقي (روسيا والصين)، والاستثمار في أدوات الردع الصاروخي والنووي لضمان أمنها القومي، ومواجهة تكثيف المبادرات الأمريكية-الإسرائيلية. وبهذا تستطيع إيران مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية، والحفاظ على موقعها الاستراتيجي، وقدرتها على التأثير في موازين القوى الإقليمية رغم التحديات المحيطة بها.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية