تحليلات

قراءة تحليلية في خطاب ممداني وتحوّلات الهوية السياسية الأمريكية

طباعة

يأتي خطاب زهران ممداني عقب فوزه بمنصب عمدة نيويورك كعلامة فارقة في التحوّلات السياسية والثقافية التي تشهدها المدينة، بل والولايات المتحدة بأسرها. فالرجل لا يمثّل مجرد صعود انتخابي عابر، بل يعكس تحوّلًا أعمق في طبيعة القيادة المدنية وفي الكيفية التي تُعرَّف بها الهوية السياسية داخل مجتمع حضري شديد التعقيد. وفي لحظة تتصاعد فيها الشعبوية اليمينية، ويتجدد فيها التوتر حول الهجرة والإسلام والعدالة الاجتماعية، قدّم ممداني خطابًا تحرّريًا يعيد المركز للفئات التي طالما ظلت على هامش الفعل السياسي:العمال، المهاجرون، والمجتمعات الملوّنة، والمسلمون.

يمتاز هذا الخطاب بأنه لم يُصَغ بوصفه احتفالًا بالفوز، بل بوصفه بيانًا تأسيسيًا لهوية سياسية جديدة للمدينة. إذ استخدم ممداني لغة مشبعة بالخبرة اليومية للطبقات العاملة، ودمج مفردات ثقافية متعددة تحمل حضورًا عربيًا وإسلاميًا واضحًا، لتتحول تجربته الشخصية إلى مدخل لإعادة تعريف معنى المواطنة في مدينة تقوم على التنوع لكنها لم تمنح قيادتها تاريخيًا لمن يجسد هذا التنوع. وهكذا لم يقف الخطاب عند حدود الرمزية، بل جسّد محاولة فعلية لاستعادة الشرعية السياسية من يد النخب التقليدية لصالح المجتمعات التي تُشكّل قلب نيويورك الاجتماعي والاقتصادي.

وإلى جانب ذلك، يعكس الخطاب تحوّلًا في بنية السياسة التقدمية داخل المدن الأمريكية الكبرى، حيث لم تعد التعددية الثقافية مجرد قيمة اجتماعية، بل أصبحت عنصرًا مؤسسًا في صياغة السياسات العامة ورؤية الحكم. ومن هنا تتجاوز قراءة خطابه التحليل الأسلوبي نحو فهم أعمق للعلاقة بين المدينة وهويتها، وبين القيادة وتركيبتها الاجتماعية، وبين الخطاب السياسي وشبكات التضامن التي تحمله.

ومن خلال هذا المنظور، نسعى إلى تقديم قراءة تحليلية شاملة لخطاب ممداني، نتناول سياقه السياسي، وبنيته اللغوية والرمزية، وتحولاته الهوياتية، وموقعه داخل الديناميات الأمريكية المتوترة. كما نتناول كذلك حدود هذا النموذج في ظل السياق الوطني الأوسع، والمقارنة بينه وبين نماذج سابقة أبرزها خطاب باراك أوباما، إضافة إلى التقاطعات التي أثارها الخطاب عربيًا ودوليًا.

السياق السياسي والاجتماعي لصعود زهران ممداني:

جاء صعود زهران ممداني إلى رئاسة بلدية نيويورك في لحظة تتشابك فيها التحولات السياسية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة على نحو غير مسبوق. فالبلاد كانت؛ ولا تزال؛ تعيش حالة انقسام حاد بين تيار تقدّمي صاعد يتمركز في المدن الكبرى، وتيار محافظ يميل إلى الشعبوية اليمينية ويهيمن على مساحات واسعة من الريف والضواحي. وفي هذا المناخ المتوتر، أصبح السؤال حول الهوية، والانتماء، ومستقبل التعددية من أكثر الأسئلة إلحاحًا داخل الخطاب العام.

وعلى المستوى المحلي، شهدت نيويورك خلال العقد الأخير تحولات عميقة أعادت تشكيل أولويات سكانها، إذ ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق، وتفاقمت أزمة الإيجارات والسكن، وازدادت الضغوط على الطبقة العاملة والمهاجرين الذين يُشكّلون العمود الفقري للحياة الاقتصادية في المدينة. وفي ظل هذه التحديات، ظهر فراغ واضح بين النخب السياسية التقليدية واحتياجات سكان الأحياء الفقيرة والعمال وأبناء المهاجرين. هذا الفراغ فتح الباب أمام شخصيات ترتبط فعليًا بمساحات النضال الاجتماعي، وتملك لغة تجمع بين المظلومية المشتركة والأمل الجماعي؛ وهو ما وفر بيئة مثالية لصعود ممداني.

كما لعب السياق الوطني دورًا مؤثرًا، إذ شكّلت موجات الإسلاموفوبيا المتتالية، والعداء المتصاعد للمهاجرين، وسياسات ترامب، خلفية مضادة دفعت قطاعات واسعة من المجتمعات الملوّنة للبحث عن تمثيل سياسي صريح لا يعتذر عن هويته. وفي هذا الإطار، جاء ظهور سياسي مسلم، تقدّمي، منحدر من خلفية مهاجرة كبرى مثل نيويورك، ليعكس إعادة ترتيب جديدة للتحالفات الاجتماعية داخل المدينة. لقد أصبح ممداني بالنسبة لكثيرين تجسيدًا مضادًا للسردية اليمينية حول الهوية الأمريكية، وصوتًا قادرًا على مواجهة خطاب الخوف بخطاب الاعتراف والعدالة.

ومن جانب آخر، لعبت الحركات الاجتماعية دورًا مركزيًا في صعوده، إذ شكّلت حملته امتدادًا طبيعيًا لمسار طويل من النشاط في لجان المستأجرين، وتنظيم العمال، ومبادرات مناهضة العنف الشرطي، وحركات العدالة الاقتصادية. هذا الانتماء الحركي منحه شرعية اجتماعية لا تتوفر عادة للسياسيين القادمين من داخل المؤسسة، كما أعاد صياغة علاقته بالمدينة ليس بوصفه مرشحًا، بل كفاعل اجتماعي يمثل مصالح الفئات التي ساهمت في تصعيده.

وبذلك، يمكن القول إن صعود ممداني لم يكن حدثًا معزولًا، بل نتيجة لتقاطع ثلاثة عوامل كبرى:

أولًا: التحول الديمغرافي والثقافي داخل المدن الأميركية.

ثانيًا: فشل النخب التقليدية في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية اليومية.

ثالثًا: تنامي الوعي الجمعي لدى الفئات المهمّشة بضرورة البحث عن تمثيل صريح يعكس هوياتها وتجاربها.

هذه العوامل مجتمعة وفرت الأرضية التاريخية والسياسية لخطاب ممداني كي يظهر، لا كظاهرة فردية، بل كجزء من مرحلة جديدة تُعيد فيها المدن الكبرى إنتاج هويتها السياسية بطريقة تتجاوز التراتبية التقليدية داخل النظام الأمريكي.

بنية الخطاب..اللغة والرمزية وإنتاج المعنى:

جاء خطاب زهران ممداني مشحونًا بطاقة رمزية عالية، لا تعتمد على البلاغة الإنشائية بقدر اعتمادها على تحويل التجربة اليومية للناس إلى معنى سياسي جديد. فاللغة هنا ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل أداة لإعادة بناء علاقة المدينة بسكانها، وإعادة تشكيل مفهوم “من يملك الحق في الكلام” داخل المجال العام. وقد اعتمد ممداني على ثلاث طبقات لغوية متداخلة: لغة الانتماء الاجتماعي، ولغة المقاومة الرمزية، ولغة إعادة تعريف المواطنة.

تظهر الطبقة الأولى في مقاطع يصف فيها الندوب والآثار الجسدية للعمال(Fingers bruised… knuckles scarred). هذه العبارات، رغم بساطتها، تُحوّل الألم الجسدي إلى سردية سياسية توثق موقع الطبقة العاملة في بنية الإنتاج. فهي ليست زخرفة لغوية، بل تأسيس لسردية ترى أن الشرعية السياسية تنبع من المعاناة المشتركة، لا من الامتياز الاجتماعي أو المالي. بهذا يصبح الجسد عنصرًا في الخطاب، حاملاً ذاكرة اقتصادية واجتماعية لا يمكن تجاهلها.

أما الطبقة الثانية فتتجلى في لحظات التفكيك الرمزي للسلطة التقليدية، كما في قوله:(We have toppled a political dynasty).هنا لا يتحدث ممداني فقط عن فوز انتخابي، بل عن إزاحة نموذج كامل للحكم الوراثي السياسي. اللغة هنا تُمارس فعلًا سياسيًا؛ فهي تُسقط الهيبة الرمزية للعائلات النافذة، وتعلن ميلاد شرعية جديدة قائمة على المشاركة الشعبية.

ويتعمق هذا البعد الرمزي حين يُدخل ممداني اللغة العربية مباشرة في خطاب تنصيبه (أنا منكم وعليكم). فاللغة هنا ليست علامة هوية شخصية فقط، بل إعلان صريح بأن التعددية الثقافية يمكن أن تكون جزءًا من الشرعية المدنية. استخدام العربية، في مكان اعتادت السلطة على صهر الفوارق اللغوية، يمثل مقاومة هادئة تُعيد تعريف من يحق له التواجد في مركز المشهد السياسي.

ومن أبرز الأمثلة على لغة إعادة تعريف المواطنة استحضاره للفئات المهاجرة بذكرها المباشر:(Yemeni bodega owners, Mexican abuelas, Senegalese taxi drivers…).لم يقدّمهم بوصفهم “أقليات”، بل كفاعلين أصليين يحملون المدينة على أكتافهم. هذا الاستدعاء يغيّر موقع المهاجر في الخطاب من “مستفيد” إلى “مؤسِّس”، ومن “هامش” إلى “مركز”.

كما يحمل الخطاب لحظات مواجهة محسوبة تُعيد رسم حدود القوة السياسية، خاصة عند قوله: (No more will New York be a city where you can traffic in Islamophobia and win an election).هنا تتحول اللغة إلى حدّ فاصل بين مرحلة سياسية وأخرى؛ ليس مجرد رفض للإسلاموفوبيا، بل تجريم سياسي لها باعتبارها أداة لتقسيم المجتمع.

وتأتي اللحظة الذكية حين خاطب دونالد ترامب قائلًا:(turn the volume up… to get to any of us, you’ll have to get through all of us).هنا لا يسقط ممداني في فخ الصدام الشخصي، بل يستخدم السخرية الأخلاقية لتفكيك الخطاب الشعبوي من الداخل، وإعادة وضعه في موقع دفاعي أمام “جماعة سياسية” متماسكة.

ويبلغ الخطاب ذروته في عبارته الختامية:

(If you campaign in poetry, govern in prose; let the prose we write still rhyme).
فهو يدمج بين الحلم والممارسة، ويستحضر ضرورة الحفاظ على الروح الأخلاقية داخل العمل التنفيذي. إنها دعوة لجعل الحكم امتدادًا للخيال السياسي، وليس نقيضًا له.

وبذلك، يكشف تحليل البنية اللغوية والرمزية للخطاب أن قوة ممداني لا تكمن في بلاغته فقط، بل في قدرته على تحويل اللغة إلى ممارسة سياسية تعيد توزيع المعنى والشرعية داخل المدينة، وتعيد تعريف من يُمثّلها وكيف تُدار.

إعادة تعريف الهوية السياسية في نيويورك:

أعاد خطاب زهران ممداني فتح النقاش حول من يملك الحق في تمثيل نيويورك، وكيف تتشكل الهوية السياسية لمدينة تُعدّ الأكثر تنوعًا في الولايات المتحدة. فبدلًا من التعامل مع هذا التنوع بوصفه مجرد واقع اجتماعي، نقل ممداني التعددية إلى مستوى الفعل السياسي، وجعل منها أساسًا لإعادة بناء مفهوم المواطنة ذاته داخل المدينة. وهكذا لم يكن خطابه مجرد احتفاء بالهويات المختلفة، بل إعادة صياغة لدورها في إنتاج القوة والشرعية.

لقد اعتاد النظام السياسي في نيويورك على تمثيل رمزي للتنوع، بينما ظلّت مواقع السلطة مركّزة بيد النخب البيضاء، الليبرالية أو المحافظة، على حد سواء. ومع صعود ممداني، تحوّل هذا التمثيل من رمزية مُحتواه إلى تمكين فعلي يمنح الفئات المهاجرة والطبقات العاملة موقعًا مباشرًا في صياغة القرار السياسي. فالمدينة التي طالما عُرفت بتعددها بدأت؛ من خلال هذا الخطاب؛ تعيد تعريف نفسها بوصفها "مدينة الهوامش التي أصبحت مركزًا".

ويتجلى هذا التحول في الطريقة التي وسّع بها ممداني مفهوم "الانتماء". فالمواطنة لم تعد مقصورة على من يمتلك النفوذ الاقتصادي أو الجذور التاريخية في المدينة، بل أصبحت مرتبطة بالدور الاجتماعي الذي يلعبه الأفراد والجماعات في بناء الحياة اليومية. إن استحضاره لأصحاب الدكاكين اليمنيين، وللعاملات المكسيكيات، ولسائقي التاكسي السنغاليين، يضع هؤلاء في قلب الشرعية السياسية بوصفهم أعمدة لاقتصاد المدينة، لا مجرد وافدين أو مجموعات تحتاج "إدماجًا".

كما قدم ممداني نموذجًا مغايرًا لعلاقة المدينة بتاريخها. ففي حين اعتمدت روايات الهوية في نيويورك على سردية “المدينة العالمية” المنفتحة، أعاد الخطاب تعريف هذه العالمية من منظور طبقي وثقافي جديد. فالمدينة ليست فقط مركزًا ماليًا عالميًا، بل فضاءً تُعاد فيه صياغة العدالة عبر أحياء الهجرة والعمال، لا عبر ناطحات السحاب. وهذا التحول يمنح المدينة بعدًا اجتماعيًا أكثر واقعية، ويجعل هويتها السياسية تتقاطع مع منطق “المدينة العادلة” لا "المدينة النيوليبرالية".

أيضًا، أعاد الخطاب ترتيب العلاقة بين السلطة والمجتمع. فممداني قدّم نفسه كامتداد لحركات اجتماعية عملت لسنوات على قضايا السكن، والنقل، والعدالة الشرطية، ما جعل قيادته تُقرأ كتحول من نموذج "الحاكم الإداري"إلى نموذج "الممثل المجتمعي". وبهذا أصبحت السلطة السياسية في نيويورك أكثر قربًا من شبكات التضامن المحلي، وأقل تبعية للنخب التي طالما سيطرت على أروقة صنع القرار.

وعلى مستوى أعمق، يشير الخطاب إلى انتقال في معنى "الهوية الأمريكية الحضرية". فبدلًا من الإبقاء على المركزية البيضاء كنموذج للهوية، يعيد ممداني طرح المدينة باعتبارها فضاءً لمواطنة متعددة اللغات والهويات، تكون فيها العربية والسواحلية والإسبانية جزءًا من نسيج الحضور المدني. وهذا التحول يعكس رغبة أوسع داخل المدن الأمريكية الكبرى في تجاوز نموذج "الاندماج الثقافي" لصالح نموذج "الاعتراف الكامل" الذي يمنح كل جماعة مكانًا متساويًا في المشهد السياسي.

وبذلك، لا يمثل خطاب ممداني مجرد تعبير عن صعود سياسي فردي، بل خطوة عملية نحو إعادة تعريف هوية نيويورك كمدينة تعترف بقوة سكانها الحقيقيين، وتصوغ سياساتها من منظور واقعهم المعيشي، لا من منظور النخب المهيمنة. إنها لحظة تحاول فيها المدينة أن ترى نفسها من جديد، من خلال أبنائها الذين شكّلوا حياتها اليومية لسنوات، دون أن يكون لهم صوت مكافئ في ساحة السياسة.

الهوية السياسية لزهران ممداني.. دمج القيم بالواقع:

تتشكل الهوية السياسية لزهران ممداني عبر بنية مركبة تجمع بين مرجعية فكرية واضحة، وتجذر اجتماعي طويل داخل الحركات المدنية، ورمزية ثقافية متعدّدة الجذور. وهذا المزيج يصنع شخصية سياسية يصعب تصنيفها داخل الأطر التقليدية للسياسة الأمريكية، لأنه لا ينطلق من النماذج الحزبية الراسخة، بل من تجربة يومية واقعية تشبه مجموعات اجتماعية ظلت لعقود خارج مركز السلطة. فمنذ بداياته المبكرة، قدّم ممداني نفسه بوصفه ديمقراطيًا اشتراكيًا، لا بمعنى التمسك الخطابي بنظرية يسارية، بل بوصفها رؤية أخلاقية تمنح الإنسان مركزية داخل السياسات العامة. ولذلك لا تظهر الاشتراكية الديمقراطية في خطابه كحزمة أفكار صدامية، بل كطريقة لإعادة ترتيب أولويات المدينة حول قضايا السكن والعدالة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية؛ وهي قضايا لا يستمدها من الكتب، بل من طبيعة الحياة اليومية في نيويورك.

هذا البعد الفكري يرتبط بجذر حركي أصيل شكّل الخبرة السياسية لممداني، إذ لم يأتِ من بوابة الحزب أو من شبكات التمويل السياسي، بل من ساحات التنظيم الاجتماعي: لجان المستأجرين، حملات العدالة السكنية، الحركات المناهضة للعنف الشرطي، ومبادرات الدفاع عن المهاجرين. هذه التجربة جعلته قريبًا من الفئات التي يرى أنها تشكل "قلب المدينة الحقيقي"، ووفرت له قدرة على تمثيل واقع الناس بلغة نابعة من تجاربهم لا من منطق المؤسسة. لكنه في الوقت ذاته يضعه في موقع متوتر مع البنية التقليدية للحزب الديمقراطي، التي اعتادت قادة يمكن التنبؤ بحساباتهم السياسية، وليس شخصية تأتي من خارج نظام التحالفات المالية والتنظيمية المعتادة.

أما البعد الثقافي في هويته فيشكّل أحد أبرز عناصر خصوصيته. فممداني لا يخفي تعددية جذوره الممتدة بين أوغندا والهند والعالم العربي، ولا يتحرج من تقديم هويته الإسلامية في المجال العام بوصفها جزءًا أصيلًا من شخصيته السياسية. لكنه لا يقدّم هذه الهوية كوسم ديني، بل كلغة قيمية ترتكز على العدالة والكرامة والمساواة. في السياق الأمريكي الذي يضع ضغوطًا على الأقليات لطمس اختلافها بهدف الاندماج، يمثّل وجود سياسي مسلم يتحدث العربية في خطاب تنصيبه فعلًا رمزيًا يعيد صياغة فكرة «من يحق له أن يكون في مركز المدينة». غير أن هذا البعد الثقافي، الذي يمنحه قوة كبيرة داخل المجتمعات الملوّنة والمدن التعددية، يجعله أيضًا عرضة للقراءة المزدوجة داخل الولايات الأكثر محافظة، حيث ترتبط الهوية الإسلامية بمخاوف ثقافية وسياسية عميقة.

وبذلك تبدو الهوية السياسية لممداني نتاجًا لتفاعل ثلاث طبقات: رؤية فكرية تقدّمية تنطلق من الإنسان، وتجربة حركية تمتد جذورها في الشارع الاجتماعي، ورمزية ثقافية متعددة ترفض التخفّف من الذات. هذه الطبقات تمنحه قدرة استثنائية على مخاطبة فئات واسعة داخل نيويورك، لكنها في الوقت ذاته تكشف حجم التحديات التي تواجه أي سياسي يتحدى نماذج التمثيل التقليدية. ولعلّ ما يجعل ممداني حالة سياسية لافتة ليس فقط مضمون مشروعه، بل قدرة هويته على الجمع بين القيم والأصل الاجتماعي والخلفية الثقافية في صيغة واحدة متماسكة تُحوّل الوجود الشخصي إلى مشروع سياسي مكتمل المعالم.

النقد العربي والدولي لخطاب زهران ممداني:

أثار خطاب زهران ممداني اهتمامًا واسعًا داخل العالم العربي وخارجه، ليس فقط باعتباره خطابًا لفائز بمنصب بارز، بل لأن المتحدث مسلم، تقدّمي، ومنحدر من خلفيات مهاجرة متعددة، وهو ما جعل القراءات حوله متباينة تبعًا للسياق السياسي والثقافي لكل منطقة. ففي العالم العربي، تباينت ردود الفعل بين من يرى في صعوده انتصارًا رمزيًا لجاليات لطالما عانت من التشويه والتمثيل الناقص في الولايات المتحدة، وبين من يتعامل مع تجربته بحذر شديد، معتبرًا أن النجاح داخل المؤسسة الأمريكية لا يتحقق إلا بثمن من التنازلات، سواء على مستوى الهوية أو المواقف السياسية تجاه الملفات العربية الحساسة.

وقد ظهر اتجاه نقدي عربي يرى أن خطاب ممداني، رغم جماله وإنسانيته، يقدّم هوية إسلامية "مخفّفة" لا تحمل طابعًا سياسيًا قويًا، وأن هذا الأسلوب من الخطاب ينسجم مع متطلبات القبول داخل الفضاء السياسي الأمريكي أكثر مما ينسجم مع تصوّر "هوية سياسية مسلمة" كما يتخيلها البعض في المنطقة. وينطلق هذا الاتجاه من تجربة تاريخية معقدة بين العالم العربي والولايات المتحدة، تجعل من نجاح أي شخصية مسلمة داخل النظام السياسي الأمريكي أمرًا مشكوكًا فيه بطبيعته، حتى لو لم يكن هناك ما يبرر ذلك من داخل الخطاب نفسه.

وفي المقابل، برز نقد عربي مختلف يركز على واقعية المشروع السياسي لممداني. يرى هذا التيار أن خطابه التقدّمي، مهما بلغ من قوة، يظلّ محكومًا بحدود النظام السياسي الأمريكي الذي تهيمن عليه الشركات الكبرى، واللوبيات الاقتصادية، والاعتبارات الانتخابية الصارمة. ولذلك يعتبر أن خطاب ممداني، رغم قدرته الرمزية الكبيرة، قد يصطدم بحدود عملية تحول دون تحوله إلى نموذج قابل للتعميم على المستوى الوطني. هذا النقد لا يستهدف ممداني شخصيًا، بل يُحذّر من الإفراط في بناء توقعات تتجاوز قدرة أي قائد مديني على مواجهة بنية سياسية راسخة.

وهناك أيضًا اتجاه ثالث داخل النقاش العربي يرفض تحميل ممداني رمزية عربية أو إسلامية أكبر من حجمه، ويرى أنه سياسي أمريكي أولًا، يعمل داخل سياق أمريكي محض، وأن الخطاب الذي قدّمه لا ينبغي تفسيره بوصفه تعبيرًا عن تمثيل للعرب أو للمسلمين خارج الولايات المتحدة. ويعتبر هذا الاتجاه أن التحفيز العاطفي تجاه نجاحه يعكس حاجة نفسية لدى الجمهور العربي أكثر مما يعكس فهمًا دقيقًا لأدوار وممكنات السياسيين التقدميين في أمريكا. وبذلك يعيد هذا النقد ضبط التوقعات حول طبيعة خطابه وموقعه داخل السياسة الأمريكية.

وعلى الجانب الآخر، ظهرت قراءات سلبية في دوائر عربية محافظة ترى أن ممداني جزء من موجة عالمية من "اليسار الثقافي" الذي يروّج للتعددية الجذرية والنوع الاجتماعي والتحولات الاجتماعية التي تتصادم مع منظومات القيم المحافظة. ويقرأ هؤلاء خطابه لا كخطاب تحرّري للشعوب المهمشة، بل كامتداد لأجندة ثقافية غربية لا تتوافق مع السياقات العربية. هذا النقد يصبّ في اتجاه رفض المشروع التقدمي ككل، أكثر من رفض شخصية ممداني نفسه.

أما دوليًا، فقد تلقّى خطاب ممداني اهتمامًا إيجابيًا من الصحافة الأوروبية والدوائر الأكاديمية التي رأت فيه استمرارًا لصعود اليسار المدني في المدن الكبرى حول العالم. ورأت تحليلات دولية أن صعوده يرمز إلى تحوّل في المزاج السياسي داخل المراكز الحضرية التي باتت تبحث عن نماذج قيادية أكثر ارتباطًا بالطبقة العاملة والمجتمعات المهاجرة. ومع ذلك، اتسمت بعض القراءات الدولية بالحذر، مؤكدة أن نجاحه في نيويورك لا يعني بالضرورة قابليته للتكرار في مدن أمريكية أقل تنوعًا أو داخل الساحة الوطنية التي ما تزال تعاني استقطابًا حادًا.

وبهذا تتضح ملامح نقد متعدد الطبقات: نقد يشكك في جدوى المشروع، ونقد يشكك في هوية صاحبه، ونقد يراه رمزًا أكبر مما هو عليه، ونقد يراه حلقة ضمن تحوّل أوسع في المدن الكبرى. هذا التعدد لا يعكس فقط اختلاف المواقف، بل يعكس أيضًا أن خطاب ممداني نجح في خلق لحظة نقاش حقيقية حول معنى التمثيل السياسي، ومكانة المهاجرين، وحدود التغيير داخل الديمقراطية الأمريكية. وهي لحظة بحد ذاتها تُظهر وزن الظاهرة أكثر مما تُظهر حدودها.

السياق الأمريكي المضاد وحدود تمدد خطاب ممداني:

يكشف خطاب زهران ممداني، رغم زخمه الأخلاقي وقدرته على استنهاض طاقات رمزية هائلة، أنه يتحرك داخل بيئة سياسية أمريكية معقدة تُقيّد بطبيعتها أي خطاب تقدّمي يسعى إلى إعادة توزيع القوة وإعادة تعريف الهوية الوطنية. فنجاحه في نيويورك لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الحضري الذي يتميز بتعدد ديموغرافي واسع، ووعي سياسي تقدّمي، وقدرة أكبر على تقبّل التحول الاجتماعي. لكن هذا السياق ذاته يضع حدودًا لتوسع خطابه خارج المدن الكبرى، إذ تواجه الأطروحات التي يقدمها مقاومة شديدة من الولايات المحافظة، ومن التيار اليميني الشعبوي الذي يهيمن على أجزاء واسعة من الريف الأمريكي. في هذا الإطار، يصبح خطاب ممداني مثالًا حيًا على الانقسام العميق بين "أمريكتين": أمريكا المدن المتنوعة التي تبحث عن عدالة اجتماعية جديدة، وأمريكا التقليدية التي ترى في التعدد تهديدًا للهوية.

وتتعقّد حدود التوسع أكثر بالنظر إلى مركزية المال السياسي في النظام الانتخابي الأمريكي، حيث تحتفظ الشركات الكبرى واللوبيات الاقتصادية بنفوذ ضخم على العملية السياسية، ما يجعل مشروعات العدالة الاجتماعية التي يقترحها ممداني؛ مثل تجميد الإيجارات والنقل المجاني وتوسيع شبكات الدعم؛ عرضة لتحديات مالية وسياسية كبيرة. فهذه السياسات، رغم شعبيتها، تصطدم مباشرة بمصالح الرأسمالية العقارية ودوائر النفوذ المالي التي لطالما حدّت من قدرة السياسيين التقدميين على تنفيذ برامج مشابهة. ومن هذا المنطلق، يبدو خطاب ممداني قادرًا على تعبئة الناس، لكنه ما يزال في مواجهة بنية مؤسساتية لا تمنح الأولوية إلا لمن يملك الموارد المالية والقدرة على التأثير داخل الكونغرس ومستويات الحكم العليا.

كما أن الخطاب المناهض للمهاجرين، والإسلاموفوبيا المتجذرة في قطاعات من المجتمع الأمريكي، يشكلان سياقًا مضادًا يمنح القوى اليمينية قدرة كبيرة على تعبئة الجمهور ضد أي نموذج سياسي يُعيد تمكين الأقليات. وقد شهدت السنوات الأخيرة استخدامًا متكررًا للهوية الدينية والثقافية كسلاح انتخابي، وهو ما يجعل هويّة ممداني؛ المسلم، التقدمي، متعدد الأصول؛ عائقًا أمام الانتشار الوطني، حتى وإن كانت مصدر قوة داخل نيويورك. هذا التوتر بين القوة المحلية والقيود الوطنية يعكس التعقيد البنيوي للديمقراطية الأمريكية، حيث يسمح النظام للفرد بالوصول إلى مراكز قوية داخل المدن، لكنه يفرض قيودًا صارمة على أي محاولة لتحويل هذا النجاح إلى مشروع قومي.

ويضاف إلى ذلك الانقسام داخل الحزب الديمقراطي نفسه بين الجناح الوسطي المحافظ والجناح التقدمي الراديكالي. فرغم أن نجاح ممداني يمثل انتصارًا للتيار التقدمي، إلا أن الحزب على المستوى القومي ما يزال يراهن على خطاب أقرب إلى الوسطية خوفًا من فقدان دعم الناخبين المترددين. هذا الانقسام الداخلي يجعل من الصعب تحويل خطاب ممداني إلى قاعدة حزبية واسعة، خصوصًا أن التيار الوسطي يفضّل السياسات التدريجية على التحولات الجذرية التي يدعو إليها الجناح التقدمي.

في ظل هذه المحددات، يتضح أن خطاب ممداني يمتلك قوة رمزية هائلة داخل المدن الكبرى، لكنه يواجه تحديات بنيوية وثقافية وسياسية تعيق تحوله إلى خطاب وطني شامل. ومع ذلك، فإن تأثيره لا يقتصر على قدرته على الوصول إلى مناصب أعلى، بل يتمثل في إعادة صياغة قواعد السياسة داخل الفضاء المديني، وخلق نموذج قيادي جديد قد يلهم مدنًا أخرى، حتى وإن لم يستطع تغيير الولايات المتحدة بأكملها. وهكذا يصبح نجاحه جزءًا من حركة أوسع تعيد التفكير في مستقبل الديمقراطية الأمريكية، وتضع المدن في قلب الصراع على الهوية، والمساواة، والعدالة.

الخاتمة:

يكشف الخطاب الذي قدّمه زهران ممداني في لحظة فوزه برئاسة بلدية نيويورك عن تحوّل نوعي في مسار السياسة المدينية داخل الولايات المتحدة، تحوّل يتجاوز حدود المناسبة الانتخابية ليصل إلى إعادة صياغة العلاقة بين الهوية والسلطة والفضاء العام. فقد منح الخطاب للمهمّشين صوتًا سياسيًا يعيد الاعتبار لتجارب العمال والمهاجرين والمسلمين والملوّنين، وفتح الباب أمام فكرة أن القيادة لا تُختزل في النخب التقليدية، بل يمكن أن تنبع من مساحات كانت خارج نطاق التمثيل لعقود طويلة. وفي هذا الإطار، ظهر ممداني لا بوصفه استثناءً فرديًا، بل بوصفه مؤشرًا على صعود نموذج جديد من القادة يعيدون تعريف معاني المواطنة والانتماء والعدالة في المدن الكبرى.

ويبرز من خلال التحليل أن ممداني لم يقدّم خطابًا يستهدف فقط الفوز الانتخابي، بل خطابًا تأسيسيًا يسعى إلى إعادة بناء الوعي العام حول ماهية المدينة ودورها كجماعة سياسية. فقد وضع القضايا المحلية في مركز الخطاب، وحوّلها إلى مرايا تعكس أزمة أعمق في البنية الأمريكية ذاتها، حيث تتقاطع الطبقية مع العنصرية، والهجرة مع الهوية، والسلطة مع الاحتكار الاقتصادي. وبهذا ينجح في تحويل المدينة إلى مختبر سياسي يمكن من خلاله اختبار نماذج جديدة للعدالة الاجتماعية، تكون أكثر جرأة وصدقًا ومباشرة من السياسات القومية التقليدية.

ومع ذلك، فإن الوزن الرمزي للخطاب لا يُلغي حدود التحديات التي تحيط به. فالسياق الأمريكي المعاصر، الذي يشهد تصاعدًا في الخطاب اليميني الشعبوي، وهيمنة المال السياسي، وانقسامًا حزبيًا حادًا، يمثل عقبة حقيقية أمام قدرة الخطاب التقدّمي على التمدد خارج المدن الكبرى. وهنا تتجلى المفارقة الأساسية: الخطاب الذي يملك قوة جاذبية هائلة داخل نيويورك، هو نفسه خطاب يثير مخاوف أو مقاومة في مساحات أخرى من الولايات المتحدة. لكنّ هذه المحدودية لا تُضعف قيمته، بل تؤكد أن التحوّلات الكبرى تبدأ غالبًا من الأطراف قبل أن تصل إلى المركز.

وتبدو أهمية خطاب ممداني بأنه يعيد تسييس الإنسان، ويُدخل الأبعاد الأخلاقية والوجدانية إلى قلب العملية السياسية دون أن يسقط في الشعبوية العاطفية. فهو يزاوج بين لغة الكرامة ولغة السياسات، وبين الاعتراف بالمعاناة اليومية وطرح حلول واقعية قابلة للنقاش والتنفيذ. وبذلك يمثّل نموذجًا ناضجًا لسياسةٍ لا تتخلى عن المبادئ ولا تنعزل عن الواقع، ولا تخشى مواجهة القوى المهيمنة لكنها لا تجرّد الخصوم من إنسانيتهم.

وفي المحصلة، يمكن القول إن خطاب زهران ممداني يشكّل لحظة دلالية فارقة في إعادة تعريف الهوية السياسية لنيويورك، ويقدّم نموذجًا يمكن أن يغيّر شكل القيادة المدنية في الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة. فهو يؤسس لسياسة تعترف بالتعدد، وتعيد توزيع القوة، وتفتح المجال أمام أصوات جديدة طالما وُضعت على الهامش. ورغم القيود البنيوية التي قد تحد من انتشار هذا النموذج على المستوى الوطني، فإن تأثيره الرمزي والفكري يظلّ عميقًا بما يكفي لإعادة تشكيل الخيال السياسي للمدينة، وربما للبلاد كلها في المستقبل.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة