مقالات رأى

المتحف الشريف في الوطن الشريف

طباعة

من أدق وأبدع ما سمعت أذني اليوم وصفا منصفا للمتحف المصري الكبير: هذا المتحف الشريف الذي لا يحوي إلا تاريخه ولا يضم في أركانه أو أبهائه أو قاعات عرضه، ولا قطعة واحدة مسروقة فيه من هنا أو هناك، ولا عجب فهو صناعة الوطن الشريف في زمن عز فيه الشرف وكَثُرَت فيه الرويبضة.

هذا الذي أنتظره منذ 23 عاما، ما قد يمثل نصف عمري انتظارا وصبرا وشغفا، اليوم فقط انطلقت صافرات الفرح تتحدث برموز الحضارة المصرية القديمة، والحضارة المصرية الحديثة معا، فالأمر يتخطى حدود المكان والزمان، ليتجاوزها إلى شمول مجمل الهوية المصرية مجتمعة.

تلك التي يعرفها كل مصري أبا عن جد في دمائه وعروقه، في كوبه اليومي من الشاي بلبن أو حتى الشاي السادة، مصر الهوية هي الحضارة المصرية القديمة مُوَحِدَة الإله والقطرين، هي صانعة السلام بالأمس في قادش، والأمس في سيناء، واليوم في غزة.

أحيا هذا اليوم وتفصلني عن الكنانة آلاف الكيلومترات، لكني أراها بملء عيناي، واستشعر زهوها عن بُعد، وأشتم ريحها كقميص يوسف، أشاهد سماءها وهي تتزين بالجعران ومفتاح الحياة، وقناع توت عنخ آمون، والعجلة الحربية، والمسلة المعلقة، وزهرة اللوتس، والقط باستت، مصر تجاوزت حدود أرواحنا لتحلق في السماء.

لا أصدق أن الحلم الذي كنت أحمله في حقيبتي كلما ذهبت إلى المتحف المصري بالتحرير، قد شق الحقيبة وانطلق إلى حيث الواقع الشاهد على التاريخ والعصر، أنا التي جبت الخريطة واقعا ملموسا، وزرت العديد من متاحف العالم التي تزدان بكنوزنا الأثرية المبهرة، كنت أرحل في كل مرة مسروقا مني قطعة بداخلي تنضم إلى باقي القطع المسروقة بالمتاحف، تأبي أن ترحل وتترك خلفها قطعة من أرض الوطن.

كانت أقسى التجارب، تلك التي زرت فيها متحف اللوفر بباريس مع صديق بلجيكي كان مقدرا أن يصبح زوجا مستقبليا، ولأنه يعرفني خير المعرفة، فقد ظل يربت على كتفي طوال فترة الزيارة المؤلمة وأنا أحاول حبس دموعي وأردد "كيف لي وأنا المصرية أن أدفع كل هذا المال لأرى آثار بلدي المسروقة هذا ظلم"، حتى إنني لم أستطع استكمال الجولة وأنا أري أجزاء من وطني مقطوعة ومسروقة ومعروضة للعالم في أرض غير ذي وطن.

الآن وبعد مضي سنوات من الانتظار والترقب والشغف، يقيني أن الصخرة التي وضعت بافتتاح المتحف المصري الكبير، ستكون النواة لاستعدال أوضاع ما كانت لتحدث إلا في ظل غياب الضمائر وحضور نوايا الشر، وبما أن الضمائر الطيبة قد حضرت، والأجداد قد تم استدعاء أرواحهم واستجلاب كنوزهم تحت سقف واحد في حضرة صانع حضارة مصر الحديثة، فالطريق قد بات ممهدا لما نأمله جميعا.

ولا سيما، في ضوء تلك الرسائل التي مُررت في حفل الافتتاح عمدا أو صدفةً لا يهم، لكن المهم أن مصر العليا ومصر السفلى كانتا حاضرتين بقوة يكملان بعضهما بعضا، وأن مصر القبطية مسيحية ومسلمة كانتا مجتمعتين تحتضنان مفتاح الحياة، وأن نهر النيل ينبض في شرايين كل مصري من قلبه حتى أطرافه، كما يمتد شريان النيل من جنوب مصر حتى مصبه في الشمال، وأن مصر صانعة السلام في قادش، هي التي صنعت السلام في سيناء، وهي التي صنعت السلام لغزة، فالسلام هو اللغة الوحيدة التي تتحدثها مصر بصولجان القوة.

تلك الرسائل ما كانت لتغيب عنا بأية حال، لكن ظني أنه وجب التنويه، ولزم التأكيد، على أن هذا الصرح الأثري الاستثنائي، لا يمثل فقط كونه إستراتيجية وطنية تمثل إعجازا هندسيا على مستوى البناء، والإضاءة، والزوايا، والوضعيات، والترتيب، والتسلسل الزمني، بما يتواءم مع خطوط التواصل مع الأهرامات الثلاثة، لكنه يمتد ليشمل كل ما هو أكثر من ذلك من فلسفة العقيدة المصرية القديمة ممتدة الأثر.

فإن كانت طبول إبليس قد دُقَت أو عُزِفَت منذ أيام عند سفح الأهرامات لاستخراج واستحضار أيا ما يكون من مسميات شيطانية، فاليوم قد عُطِلّت كل طاقات الشر بإنارة كل المسلات المصرية على مستوى العالم في مشهد موحد متناغم، وخروج النور في خطوط طولية متوازية من المتحف إلى الأهرامات وكأنه يحمل طاقة سلام ونور وقوة كفيلة بأن تدحض أية محاولات خبيثة بفعل الخبثاء.

لا نلتفت إلا للطيب فينا ومنّا، ولن نلتفت لكل من يحاول تعكير صفونا أو تفتيت جمعنا أو تشتيت صفنا، لا لشيء يخالف طبعنا، إلا أننا سنظل على مسيرة خطوط النور نفسها المنبعثة من قلب المتحف إلى منتصف الأهرامات الثلاثة، لا ولن يثنينا في ذلك شيء إلا بمشيئة من الله.

هنا مصر.. نقطة ومن أول السطر.

 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مها محسن

    مها محسن

    كاتبة مصرية