تمثل "الهاسبارا" الإسرائيلية (הַסְבָּרָה) ظاهرة تتجاوز في أبعادها وعمقها الاستراتيجي مجرد كونها أداة للعلاقات العامة أو الدبلوماسية الشعبية. فالتحليل الدقيق لها في إطار تطور العقيدة الأمنية الإسرائيلية، يكشف أن الهاسبارا ليست مجرد "شرح" أو "تفسير" للسياسات الإسرائيلية كما يوحي معناها الحرفي باللغة العبرية، بل هي مكون أساسي من مكونات الأمن القومي الإسرائيلي، وركيزة محورية في استراتيجيتها الكبرى. إنها منظومة متكاملة لحرب المعلومات القائمة على البروباجندا والادعاءات المضللة المتقنة تعمل بشكل دائم وممنهج، وتهدف إلى تحقيق أهداف استراتيجية محددة: تشكيل البيئة الجيوسياسية، وتأمين التحالفات الدولية، وإضفاء الشرعية على سياسات الدولة وأفعالها العسكرية، وتقويض الرواية الفلسطينية والعربية المضادة.
إن النظر إلى الهاسبارا باعتبارها "جبهة حرب مهمّة" (ג'בהתמלחמהחשובה)، كما وصفها مسئولون إسرائيليون، يعد مدخلا رئيسيا لفهم طبيعتها الوظيفية. فهذا التوصيف يخرجها من إطار الدبلوماسية الناعمة ويضعها في سياق العقيدة العسكرية، حيث تصبح السيطرة على الرواية المضادة شرطا ضروريا لتمكين العمل العسكري وتقليل تكلفته السياسية والدبلوماسية. ففي سياق الحرب على غزة، صرّح رئيس لجنة الهاسبارا في الكنيست بأن المعركة "تتوجّه نحو الرأي العام وموقف القيادة الدولية للسماح باستمرار القتال ضمن الظروف الصحيحة". هذا التصريح يكشف بوضوح أن الهاسبارا ليست مجرد رد فعل، بل هي عملية استباقية لتهيئة مسرح العمليات الدولي، تماما كما يتم تهيئة مسرح العمليات العسكري.
علاوة على ذلك، ترتبط الهاسبارا ارتباطا عضويا بما يصفه محللون إسرائيليون بـ"المشكلة الوجودية" (בעיהקיומית) للدولة، ودورها الحاسم في "حرب الروايات" (מלחמתהנרטיבים). فمهمتها لا تقتصر على تبرير سياسة آنية، بل تمتد لتشمل الدفاع عن الرواية الصهيونية التأسيسية ذاتها، وتكريسها كحقيقة تاريخية غير قابلة للجدل في الوعي العالمي. هذا البعد الوجودي هو ما يمنح الهاسبارا طابعها الشمولي والدائم، ويجعلها أداة تتجاوز الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتتحول إلى عقيدة دولة.
لذا فإن تفكيك آليات الهاسبارا لا يعد ترفا أكاديميا، بل ضرورة استراتيجية لفهم كيفية إدارة إسرائيل لصراعاتها، وكيفية تأثيرها على البيئة الإقليمية والدولية التي تعمل فيها مصر.
وفيما يلي محاولة لتقديم تحليل نقدي لهيكلية الهاسبارا، جذورها العقائدية، وبنيتها المؤسسية، وأدواتها التكتيكية، بهدف الوصول إلى فهم أعمق لهذه المنظومة المحورية في الاستراتيجية الإسرائيلية، ورسم ملامح منظومة عربية مضادة أكثر فعالية.
أولا- تفكيك "الهاسبارا" – الجذور الأيديولوجية والعقيدة الاستراتيجية:
إن فهم الطبيعة الحقيقية للهاسبارا يستلزم تجاوز الجدل الدائر حول ترجمتها –هل هي "شرح" أم "دعاية"؟– والنظر إليه باعتباره جزءا من استراتيجيتها. فالإصرار الإسرائيلي على الترجمة الحميدة "شرح" هو بحد ذاته تكتيك بلاغي يهدف إلى تحييد النقد مسبقا، ووضع أنشطة الجهاز ضمن الإطار المقبول للدبلوماسية العامة، بينما يخفي وظائفه الأكثر عدوانية وتضليلا. إن هذا التلاعب الدلالي ليس مجرد صدفة، بل هو خط الدفاع الأول في حرب الروايات.
من "البروباجندا" إلى "الهاسبارا".. إعادة صياغة استراتيجية:
لم تكن الحركة الصهيونية في بداياتها تتحرج من استخدام مصطلح "البروباجندا" (Propaganda). فقد دعا ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الثالث عام 1899 المشاركين إلى الانخراط في "البروباجندا" بشكل صريح، حيث كان المصطلح آنذاك يحمل دلالة محايدة. ومع مرور الوقت واكتساب كلمة "دعاية" دلالات سلبية مرتبطة بالتضليل والتلاعب، برزت الحاجة إلى مصطلح جديد. وهنا يأتي دور الكاتب والقيادي الصهيوني ناحوم سوكولوف، الذي يُنسب إليه صك مصطلح "هاسبرا" وإدخاله إلى القاموس الصهيوني. لم يكن هذا التغيير مجرد تبديل في المفردات، بل كان عملية إعادة صياغة استراتيجية تهدف إلى تقديم جهود التأثير الصهيونية في ثوب جديد أكثر قبولا على الساحة الدولية. والأهم من ذلك أن سوكولوف نفسه عرّف الهاسبارا بأنها منظومة تواصل "تسعى لشرح الأفعال، سواء كانت مبررة أم لا"، وهو اعتراف ضمني بأن وظيفتها لا تقتصر على توضيح الحقيقة، بل تشمل تبرير ما قد لا يكون مبررا.
"الهاسبارا" في سياق استعماري-استيطاني:
لا يمكن فهم الهاسبارا بشكل صحيح من خلال مقارنتها بالدبلوماسية العامة للدول القومية المستقرة. فالتحليلات الأكاديمية النقدية تضعها في سياقها الحقيقي كمشروع استعماري-استيطاني (Settler-Colonialism). وفي هذا السياق لا تكون وظيفة البروباجندا مجرد تحسين صورة الدولة، بل تصبح أداة ضرورية لإدامة المشروع الاستيطاني نفسه. وتتمثل وظيفتها الأساسية في "تصنيع القبول" بالهيمنة الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه "تصنيع الاستياء" من طموحات الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. هذا الإطار التفسيري يوضح التناقضات الكامنة في خطاب الهاسبارا، الذي يجمع بين المظهر الدفاعي (نحن ندافع عن أنفسنا) والواقع العدواني (توسيع الاستيطان ومصادرة الأراضي). إنها أداة مصممة لإدارة التنافر المعرفي لدى الجماهير الغربية بين صورة إسرائيل التي ترغب في تصديرها كدولة ديمقراطية، وواقع سياساتها كقوة احتلال.
عقيدة السيطرة على الرواية:
تقوم الهاسبارا على عقيدة استراتيجية واضحة: السيطرة على الرواية المضادة كسلاح فعال في الحرب الحديثة. وتهدف هذه العقيدة إلى تحقيق عدة أهداف متداخلة، منها:
1- تحديد سياق الأحداث:تسعى الهاسبارا إلى فرض إطار تفسيري مهيمن(Cognitive Filter) يجعل الجمهور الغربي يرى الأحداث من خلال المنظور الإسرائيلي حصرا.
2- فرض "الصوابية السياسية":تعمل على خلق معايير لما هو مقبول وغير مقبول في النقاش العام حول الصراع، بهدف دفع النقاد إلى ممارسة الرقابة الذاتية(Self-Censorship) خوفا من اتهامهم بالتحيز أو بمعاداة السامية.
3- تقليص الطلب على الرواية الأخرى:فهي لا تسعى بالضرورة إلى حجب المعلومات المضادة(Censorship)، وهو أمر أصبح صعبا في العصر الرقمي، بل تهدف إلى جعل الجمهور غير راغب في الاستماع إليها أو تصديقها من خلال التشكيك المسبق في مصداقية مصادرها.
الادعاءات التأسيسية:
لتحقيق هذه السيطرة، تعمل الهاسبارا على حماية وترسيخ مجموعة من الادعاءات التأسيسية التي تشكل حجر الزاوية في شرعيتها الدولية، منها:
· ادعاء "الدفاع عن النفس": تصوير إسرائيل كدولة صغيرة وشجاعة تدافع عن نفسها باستمرار ضد "العنف والإرهاب الفلسطيني"، هذا الادعاء تحول كل عمل عسكري، مهما كان مفرطا في القوة، إلى رد فعل مبرر.
· ادعاء "الواحة الديمقراطية": تقديم إسرائيل كنموذج للديمقراطية والقيم الغربية في محيط من "الاستبداد والتخلف". هذا الادعاء هدف إلى خلق تماهٍ قيمي مع الدول الغربية، وجعل دعم إسرائيل يبدو وكأنه دفاع عن هذه القيم المشتركة.
· ادعاء "المظلومية التاريخية": الاستخدام المنهجي للمحرقة اليهودية (الهولوكوست) ليس فقط كحدث تاريخي، بل كإطار تفسيري للحاضر، حيث يتم تصوير أي تهديد لإسرائيل على أنه بداية لمحرقة جديدة، وأي نقد لسياساتها على أنه شكل من أشكال معاداة السامية.
إن التركيز المهووس للهاسبارا على السيطرة على الرواية المضادة وتشويه سمعة الآخر بشكل استباقي لا يعكس ثقة، بل يكشف عن قلق عميق. إنه يشير إلى إدراك دفين بأن الروايات التأسيسية التي تقوم عليها الدولة هشة وقابلة للدحض عند فحصها تاريخيا وقانونيا. فالدولة الواثقة من شرعية وجودها وسياساتها لا تحتاج إلى مثل هذه المنظومة الضخمة والدائمة والعدوانية من "الشرح".
إن الحجم الهائل للاستثمار في الهاسبارا هو بمثابة بوليصة تأمين استراتيجية لشرعنة أفعالها، وهو نظام مصمم لإدارة التناقض الصارخ بين الصورة التي تسعى إسرائيل لتقديمها (ديمقراطية، مسالمة) وواقع سياساتها (احتلال، عنف).
ثانيا- المنظومة المؤسسية لحرب الروايات:
لا تعمل الهاسبارا ككتلة واحد، بل كشبكة معقدة ومتشعبة من الجهات الفاعلة الحكومية وشبه الحكومية والخاصة. وتستخدم كل ما يؤثر في الوعي لخفض مستوى النقد لإسرائيل وخفض مستوى القلق تجاه ممارساتها: وسائل الإعلام والصحافة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والندوات والمحاضرات، والأفلام الوثائقية والصور، والمراكز البحثية، مع استغلال خوارزميات محركات البحث، والاستعانة بالتكنولوجيا المتقدمة لنشر المعلومات المُضَلِلة، وقلب الحقائق.
هذه الهيكلية الهجينة، القائمة على نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تمنحها مرونة وقدرة على الانتشار. فهي تجمع بين التوجيه الاستراتيجي المركزي من قبل الدولة، والتنفيذ اللامركزي عبر شبكة عالمية من المنظمات والمتطوعين، مما يجعلها قادرة بشكل أكبر على التكيف مع مختلف الساحات والجماهير.
القيادة والتحكم على مستوى الدولة:
تتولى عدة هيئات حكومية رسمية مسئولية رسم استراتيجيات منظومة"الهاسبارا" وتوجيهها، أبرزها:
· وزارة الشئون الاستراتيجية: تأسست هذه الوزارة في عام 2006، وتطورت لتصبح الذراع الضاربة للدولة في مواجهة ما تسميه "حملات نزع الشرعية"، وعلى رأسها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).وتتميز هذه الوزارة بأساليب عملها التي غالبا ما تكون سرية، حيث تعتمد على شركات واجهة مثل "كالي شلومو" (קלישלמה) لإخفاء المصدر الحكومي المباشر للأموال المحولة إلى منظمات تعمل لصالح إسرائيل في الخارج. كما أنها غالبا ما تتجاوز صلاحيات وزارة الخارجية في إدارة ملفات استراتيجية حساسة، مما يعكس الأهمية القصوى التي توليها الدولة لهذه الجبهة.
· وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: خلال فترات الحروب والعمليات العسكرية، تصبح هذه الوحدة المصدر الرئيسي للادعاءات الإسرائيلية الموجهة للإعلام العالمي. وقد تطورت بشكل كبير لتصبح عملية إعلامية رقمية متطورة، تنتج محتوى مرئيا ومكتوبا بلغات متعددة، وتدير شبكة واسعة من الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام في الوقت الفعلي.
· وزارة الخارجية والهيئات الموازية: بينما تقوم وزارة الخارجية بالدور الدبلوماسي التقليدي في نشر رسائل الهاسبارا، أظهرت الأزمات الكبرى، مثل الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر 2023، لجوء الحكومة الإسرائيلية إلى إنشاء هيئات موازية ومؤقتة لتركيز الجهود. مثال على ذلك هو إغلاق وزارة الإعلام وتحويل مواردها إلى هيئة جديدة باسم "تاكوما" (תקומה)، وُضعت تحت مسئولية وزارة الخارجية بهدف مركزي هو "تفسير" أعمال إسرائيل للعالم.
التنفيذ عبر الأذرع شبه الحكومية و"المجتمع المدني":
تعتمد الهاسبارا بشكل كبير على شبكة واسعة من المنظمات التي تعمل كواجهة "للمجتمع المدني"، مما يضفي على رسائلها مصداقية أكبر مما لو صدرت مباشرة عن الحكومة، منها:
· زمالات هاسبارا (Hasbara Fellowships): تعتبر هذه المنظمة، التي تديرها "آيش هتوراه" (אשהתורה) "نار التوراة" منظمة تعليمية يهودية تدعم بقوة الحركة الصهيونية بالتعاون مع وزارة الخارجية الإسرائيلية، واحدة من أهم أدوات تجنيد وتدريب النشطاء. تستهدف المنظمة بشكل أساسي طلاب الجامعات في أمريكا الشمالية، حيث تنظم رحلات مدعومة إلى إسرائيل لتدريبهم وتلقينهم الرواية الإسرائيلية، ومن ثم يعودون إلى جامعاتهم ليكونوا "جنودا" في حرب الروايات داخل الحرم الجامعي، مزودين بالموارد والدعم المستمر.
· اتحادات الطلاب والمعلقون المأجورون: تمتد أنشطة الهاسبارا لتشمل برامج تديرها اتحادات طلابية إسرائيلية، مثل برنامج الاتحاد الوطني للطلاب الإسرائيليين الذي يقدم منحا مالية (تصل إلى 2000 دولار) للطلاب مقابل تخصيص عدد من الساعات أسبوعيا لكتابة تعليقات ورسائل مؤيدة لإسرائيل على شبكات التواصل الاجتماعي. هذا الأسلوب يحول الطلاب إلى جيش إلكتروني مدفوع الأجر، مهمته خلق انطباع بوجود دعم شعبي واسع للسياسات الإسرائيلية وتخويف منتقديها.
· جماعات الضغط والمراقبة الإعلامية: تعتمد الهاسبارا على منظمات مثل "كاميرا" (CAMERA - Committee for Accuracy in Middle East Reporting in America)، وهي "لجنـة الدقـة فـي إعـداد التقاريـر فـي الشـرق الأوسـط فــي أمريــكا" التي يوصي بها "دليل الهاسبارا" التدريبي، والتي تشتهر بأساليبها العدوانية في ملاحقة الصحفيين والأكاديميين ووسائل الإعلام التي تنشر روايات تنتقد إسرائيل، وتعمل على تشويه سمعتهم واتهامهم بالتحيز أو بمعاداة السامية.
"الطابور الخامس" وشبكة المتطوعين:
يعد أحد أهم الأدوات الرئيسية للهاسبارا هو قدرتها على تجنيد شبكة واسعة من المتطوعين والمناصرين في دول مختلفة على مستوي العالم، خاصة في الدول الغربية. يصف بعض المحللين هذه الشبكة بأنها بمثابة "طابور خامس"، حيث يقوم أفراد ومنظمات مجتمعية بتضخيم الرسائل الإسرائيلية بشكل طوعي، ودحض الروايات المضادة، ومهاجمة مصداقية منتقدي إسرائيل. هذه الشراكة بين الدولة والمتطوعين تجعل من الصعب تحديد مصدر البروباجندا.
ويعد الهيكل المؤسسي للهاسبارا مصمم لتمويه الخط الفاصل بين البروباجندا الحكومية الرسمية والنشاط المدني المستقل. هذه الضبابية المتعمدة هي إحدى نقاط قوته الرئيسية، لأنها تسمح "بغسل" الروايات التي تصنعها الدولة عبر أصوات تبدو مستقلة في "المجتمع المدني"، مما يمنحها مصداقية أكبر في الديمقراطيات الليبرالية الغربية. فعندما تأتي الرسالة من طالب جامعي في الولايات المتحدة بدلا من مسئول في وزارة الخارجية الإسرائيلية، يكون وقعها وتأثيرها مختلفين تماما.
هذه الآلية تخلق حلقة مغلقة: رسالة موجهة من الدولة، ينقلها فاعل غير حكومي، ثم يُستشهد بصوته "الأصيل" في وسائل الإعلام كدليل على وجود دعم شعبي حقيقي. هذا النموذج أكثر فعالية بكثير من البروباجندا التقليدية، لأنه يستعير لغة وشكل الحركات الاجتماعية، مما يجعل كشفه ومواجهته أكثر صعوبة.
ثالثا- ترسانة الهاسبارا – الاستراتيجيات الأساسية والتكتيكات المتطورة:
تعتمد المنظومة على ترسانة متنوعة من الاستراتيجيات والتكتيكات التي يتم تكييفها وتطويرها باستمرار لتناسب مختلف الجماهير والسياقات. ويمكن تصنيف هذه التكتيكات ضمن أربعة محاور رئيسية تشكل جوهر حربها الإعلامية، وهي:
المحور الأول: التأطير الاستراتيجي للرواية:
يعتبر التأطير (Framing) السلاح الأساسي للهاسبارا، حيث يتم من خلاله بناء إطار تفسيري مهيمن يوجه فهم الرأي العالمي للأحداث. وتشمل أطرا رئيسية منها ما يلي:
· إطار الضحية والدفاع عن النفس:هذا هو الإطار الأكثر استخداما وفعالية، حيث يتم تصوير إسرائيل باستمرار كضحية محاطة بأعداء يسعون إلى إبادتها، وأن كل أعمالها العسكرية ما هي إلا دفاع مشروع عن النفس. ويتم تعزيز هذا الإطار من خلال الاستدعاء الدائم لذكرى الهولوكوست، وربط أي نقد لإسرائيل بخطر تكرار الإبادة الجماعية، مما يمنح أفعالها حصانة أخلاقية مسبقة.
· إطار "الديمقراطية الوحيدة": يتم تسويق إسرائيل كـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وتقديمها كحصن للقيم الليبرالية الغربية في منطقة تتسم بـ"التخلف والاستبداد".ويهدف هذا الإطار، إلى خلق تماهٍ قيمي مع الجمهور الغربي. وفي السنوات الأخيرة، تطورت تكتيكات فرعية ضمن هذا الإطار مثل "الغسيل الوردي" (Pink washing)أي الترويج لحقوق مجتمع الشواذ "الميم" في إسرائيل لإخفاء انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، و"الغسيل النباتي" (Vegan washing) عبر الترويج لانتشار ثقافة النباتية لإظهار وجه حضاري للدولة.
· إطار "لا شريك للسلام":تعمل "الهاسبارا" على ترسيخ فكرة أن الفلسطينيين هم الطرف الرافض للسلام، وأنهم "يربون أطفالهم على الكراهية"،هذا الإطار يلقي بكامل المسئولية عن استمرار الصراع على الجانب الفلسطيني، على غير الحقيقة، ويشرعن الاستيطان الإسرائيلي وضم الأراضي تحت ستار "الدفاع".
المحور الثاني: الحرب الدلالية والتلاعب وخلط المصطلحات:
تدرك الهاسبارا أن من يسيطر على اللغة يسيطر على الفكر. لذا فإنها تخوض حربا دلالية شرسة (Semantic Warfare)لفرض مصطلحاتها وتشويه مصطلحات الخصم، منها:
· سلاح "معاداة السامية": من خلال الخلط المتعمد والاستراتيجي بين نقد سياسات دولة إسرائيل وبين كراهية اليهود كدين أو عرق، تحاول الهاسبارا إسكات العديد من الأصوات المنتقدة. فهذا الربط يضع تكلفة اجتماعية ومهنية باهظة على أي شخص أو مؤسسة تتجرأ على انتقاد إسرائيل، مما يؤدي إلى رقابة ذاتية واسعة النطاق.
· الانتقاء المعجمي: يتم اختيار الكلمات بعناية فائقة لخدمة الرواية الإسرائيلية. على سبيل المثال، يتم وصف المقاتلين الفلسطينيين بـ"الإرهابيين"، بينما يوصف جنود الاحتلال بـ"المقاتلين". يسمى جدار الفصل العنصري بـ"السياج الأمني"، وتوصف الاحتجاجات الشعبية بـ"أعمال الشغب"، والقتل المستهدف بأساليب الاغتيالات بـ"ضربة دقيقة"، وغيرها من المصطلحات.
المحور الثالث: نزع الإنسانية ومحاولة محو "الآخر":
لكي يصبح العنف ضد الفلسطينيين مقبولا أو مبررا في نظر الجمهور العالمي، لا بد من تجريدهم من إنسانيتهم أولا. وتستخدم الهاسبارا عدة أساليب لتحقيق ذلك، منها:
· الشيطنة والتعميم:يتم تصوير الفلسطينيين ككتلة واحدة متجانسة يحركها العنف والكراهية، كما في مقولة "يربون أطفالهم على كراهية اليهود". هذا التعميم يلغي الفردية والتنوع داخل المجتمع الفلسطيني، ويجعل من السهل شيطنة الشعب بأسره.
· حجة "الدروع البشرية":تعد هذه الحجة من أكثر التكتيكات خبثا، حيث يتم اتهام الفصائل الفلسطينية باستخدام المدنيين كـ"دروع بشرية". هذه الحجة لا تبرر قتل المدنيين فحسب، بل تنقل المسئولية الأخلاقية عن مقتلهم من الجانب الإسرائيلي الذي يضغط على الزناد إلى الضحايا أنفسهم.
· إنكار الهوية الوطنية: تسعى الهاسبارا إلى ترسيخ إنكار وجود هوية وطنية فلسطينية مميزة، وتقديم الفلسطينيين على أنهم مجرد "عرب" استقروا في المنطقة، وذلك لمحاولة تقويض مطالبتهم التاريخية والقانونية في الحق بالأرض الفلسطينية المحتلة.
المحور الرابع: "هاسبرا 2.0" – ساحة المعركة الرقمية:
مع بزوغ العصر الرقمي، طورت الهاسبارا أدواتها لتتكيف مع البيئة الإعلامية الجديدة، فيما يعرف بـ"هاسبرا 2.0"، منها ما يلي:
· حرب وسائل التواصل الاجتماعي: استخدام منصات مثل تويتر (X)، وفيسبوك، ويوتيوب لنشر محتواها بشكل مكثف، وإنشاء هويات مزيفة، وتنظيم "هجمات إلكترونية جماعية" (Flash Mobs) لإغراق حسابات المنتقدين بالتعليقات المسيئة والتبليغات بهدف حظرها.
· التلاعب الخوارزمي:حيث تمتلك خبرة تقنية متقدمة في التلاعب بخوارزميات محركات البحث ومتصفحات الإنترنت، لضمان ظهور المحتوى المؤيد لإسرائيل في صدارة نتائج البحث، ودفن المحتوى النقدي في الصفحات الخلفية.
· "دليل الهاسبارا" (Hasbara Handbook):هو دليل تدريبي مقدم برعاية الوكالة اليهودية، يقوم بتعليم المتطوعين حول العالم تقنيات البروباجندا والجدل، بما في ذلك أساليب الخطاب المضلل، والرد على الحجج المضادة، واستخدام "الوصم" أو "السباب" (Name-calling) لربط الأفراد أو الأفكار برموز سلبية.
المحور
|
ادعاءات الهاسبارا الإسرائيلية
|
الرواية الفلسطينية
|
1948
|
حرب الاستقلال: انتصار بطولي في حرب دفاعية فرضها العرب لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي.
|
النكبة: عملية تطهير عرقي ممنهجة ومخطط لها، أدت إلى تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني وتدمير مئات القرى لإقامة دولة ذات أغلبية يهودية.
|
الأمن
|
الحق في الدفاع عن النفس: إسرائيل محاطة بأعداء إرهابيين (مثل حماس) يسعون لتدميرها، وأعمالها العسكرية هي ردود فعل ضرورية لحماية مواطنيها.
|
الحق في مقاومة الاحتلال: العنف هو نتيجة حتمية للاحتلال العسكري المستمر منذ عقود، والمقاومة بكافة أشكالها التي يقرها القانون الدولي هي حق مشروع للشعب الواقع تحت الاحتلال.
|
القدس
|
العاصمة الأبدية والموحدة: القدس هي العاصمة التاريخية والدينية للشعب اليهودي، وهي مدينة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية.
|
عاصمة محتلة: القدس هي أرض محتلة وفقا للقانون الدولي، وعاصمة دولة فلسطين التاريخية والمستقبلية. الإجراءات الإسرائيلية فيها (استيطان، تهجير) هي جرائم حرب.
|
المقاومة/ حماس
|
منظمة إرهابية: حركة إرهابية إسلامية متطرفة هدفها تدمير إسرائيل وقتل اليهود، وتستخدم المدنيين كدروع بشرية.
|
حركة تحرر وطني/سلطة حاكمة:حركة مقاومة إسلامية (معترف بها كحزب سياسي فاز في الانتخابات) تقاوم الاحتلال، وهي جزء من النسيج السياسي الفلسطيني.
|
القانون الدولي
|
الالتزام بالقانون: إسرائيل دولة قانون تحترم القانون الدولي، وجيشها هو "الأكثر أخلاقية في العالم".
|
دولة مارقة:(Apartheid State) إسرائيل تنتهك القانون الدولي بشكل منهجي عبر الاحتلال، والاستيطان، والحصار، وتطبق نظام فصل عنصري (أبارتهايد) ضد الفلسطينيين.
|
جدول 1: يوضح نماذج أولية لمنظومة المصطلحات في الهاسبارا لتشويه الحقائق التاريخية وإنكار الروايات المضادة.
رابعا- دراسة حالة – الهاسبارا في بوتقة حروب غزة (ما بعد 2008):
مثلت الحروب المتكررة على قطاع غزة، وخاصةً بعد عام 2008، مختبرا حقيقيا وساحة اختبار قاسية لمنظومة الهاسبارا. في هذه المواجهات، تصل الفجوة بين الخطاب والصورة إلى أقصى مدى، حيث تجد آلة البروباجندا نفسها في مواجهة مباشرة مع الواقع الدموي الذي تخلقه الآلة العسكرية الإسرائيلية. إن هذه الحروب تكشف عن التناقض الجوهري في الاستراتيجية الإسرائيلية: حيث تكون منظومة الهاسبارا في أمس الحاجة إليها للتدريب على تبرير العنف المفرط، لكنها في الوقت نفسه تكون في أضعف حالاتها لأن هذا العنف ذاته يدمر مصداقية أي خطاب عن "الأخلاق" و"الدفاع عن النفس".
حرب المعلومات بعد 7 أكتوبر 2023:
شكلت أحداث 7 أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب إبادة على غزة ذروة هذا التناقض. ويمكن تقسيم منظومة"الهاسبارا" في هذه المرحلة إلى طورين رئيسيين:
· الطور الأول: نجاح "دعاية الفظائع" الأولي:في الأيام والأسابيع الأولى التي تلت هجوم حماس، ركزت الهاسبارا بشكل كامل على "دعاية الفظائع" (Atrocity Propaganda). تم نشر روايات،ثبت لاحقا أنها مفبركة، عن أعمال وحشية مروعة بهدف صدم الرأي العام الغربي وتأمين دعم سياسي وعسكري غير مشروط للحملة العسكرية الانتقامية. نجحت هذه المنظومة في البداية نجاحا باهرا، حيث تبنت الحكومات ووسائل الإعلام الغربية الرواية الإسرائيلية دون تمحيص، وتم تأطير الحرب القادمة على غزة كمعركة بين "أبناء النور" (إسرائيل) و"أبناء الظلام" (الفلسطينيين)، كما صرح بنيامين نتنياهو.
· الطور الثاني: انهيار البروباجندا أمام "الإبادة المنقولة على الهواء مباشرة":مع بدء القصف الإسرائيلي المكثف على غزة، بدأت البروباجندا الإسرائيلية في التآكل والانهيار. وكان السبب الرئيسي لهذا الانهيار هو عجز إسرائيل عن السيطرة على تدفق المعلومات والصور من داخل القطاع. فلأول مرة في تاريخ الصراع، تمكن الفلسطينيون العاديون، عبر هواتفهم المحمولة، من بث "إبادة جماعية منقولة على الهواء مباشرة" (Livestreamed Genocide) إلى العالم. الصور المروعة للمستشفيات والمدارس المدمرة، والأطفال القتلى، والأحياء السكنية التي سويت بالأرض، خلقت سردية بصرية مضادة بالغة القوة، لم تتمكن أي جهود دعائية إسرائيلية من مواجهتها أو دحضها.
الهاسبارا الدفاعية وأزمة المصداقية:
أمام هذا الطوفان من الأدلة البصرية، اضطرت الهاسبارا إلى التحول إلى موقف دفاعي يائس، محاولة تبرير ما لا يمكن تبريره. وتجلت هذه الأزمة في عدة حملات ممنهجة فاشلة، منها:
· قضية مستشفى الشفاء:من أبرز الأمثلة على فشل منظومة الهاسبارا الدفاعية كانت الحملة الإعلامية التي زعمت وجود "مركز قيادة وسيطرة" لحماس تحت مستشفى الشفاء. ورغم الحملة المكثفة التي شملت نشر خرائط ورسومات ثلاثية الأبعاد، إلا أن الأدلة التي قدمها الجيش الإسرائيلي بعد اقتحام المستشفى بدت هزيلة وغير مقنعة للعالم، مما ألحق ضررا بالغا بمصداقية إسرائيل.
· التلاعب بالأدلة: لجأت السلطات الإسرائيلية إلى أساليب التضليل الرقمي والتلاعب بالأدلة، مثل فبركة تسجيلات صوتية لمقاتلين من حماس يزعم أنهم يتحدثون عن إطلاق صاروخ فاشل تسبب في مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني، وهي ادعاءات تم تفنيدها بسرعة من قبل خبراء مستقلين.
هذه الإخفاقات لم تمر مرور الكرام داخل إسرائيل نفسها. فالشعور بالفشل في معركة الرأي العام كان كبيرا لدرجة دفعت نتنياهو إلى حل جهاز الهاسبارا الذي كان قائما وإقالة المسئولين عنه، وسط دعوات من منظمات إسرائيلية لمتابعتهم قضائيا. وهذا يعكس حجم الرهان على هذه الجبهة، وأن الفشل فيها لا يقل خطورة في نظر صانع القرار الإسرائيلي عن الفشل في الميدان العسكري.
إن حرب غزة كشفت عن مفارقة استراتيجية عميقة: فكلما زادت إسرائيل من استخدام قوتها الصلبة المتمثلة في آلتها العسكرية، تآكلت قدرتها على ممارسة القوة الناعمة المتمثلة في الهاسبارا. فالواقع الذي تخلقه القوة الصلبة الإسرائيلية (الدمار والقتل الجماعي) يصبح من القوة والوضوح بحيث يفند بشكل مباشر وقطعي الادعاءات التي تحاول القوة الناعمة الإسرائيلية نسجها (الدفاع عن النفس، استهداف الإرهابيين). هذا التناقض الهيكلي قد يمثل نقطة ضعف قاتلة في عقيدة الاتصال الاستراتيجي الإسرائيلية، ويشير إلى أنه رغم تطور المنظومة فقد تكون وصلت إلى حدود قدرتها على "تبرير وشرعنة" واقع أصبح أكثر وحشية من أي دعاية.
معركة معبر رفح نموذجا: انتصار الدبلوماسية المصرية على التضليل الاستراتيجي:
شكلت قضية معبر رفح خلال الحرب على غزة مثالا صارخا على استراتيجية منظومة الهاسبارا في "لي الحقائق" ومحاولة التنصل من المسئولية، وفي المقابل، أظهرت نجاح الدبلوماسية المصرية في إحباط هذا التضليل. فمع اشتداد الكارثة الإنسانية في القطاع، شنت إسرائيل حملة دعائية منظمة تهدف إلى إلقاء اللوم على مصر في إغلاق المعبر ومنع دخول المساعدات. وقد صرح وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأن "مفتاح منع حدوث أزمة إنسانية في غزة أصبح الآن في أيدي أصدقائنا المصريين"، داعيا دولا، مثل بريطانيا وألمانيا إلى "إقناع مصر بإعادة فتح المعبر".
كان الرد المصري حاسما ومتعدد الأبعاد. فعلى المستوى الدبلوماسي رفضت وزارة الخارجية المصرية رفضا قاطعا ما أسمته "سياسة لي الحقائق والتنصل من المسئولية"، مؤكدة أن إسرائيل، باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، هي المسئولة الوحيدة عن الكارثة الإنسانية، وأن سيطرتها العسكرية على الجانب الفلسطيني من المعبر وعملياتها العسكرية في محيطه هي السبب الحقيقي لعدم القدرة على إدخال المساعدات.
وعلى المستوى الرئاسي أكد فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، في مناسبات عدة أن المعبر لم يغلق يوما من الجانب المصري، وأن العائق هو الإجراءات والعمليات العسكرية الإسرائيلية في الجانب الآخر. وقد عززت مصر موقفها برفض أي تنسيق مع الجانب الإسرائيلي لإدارة المعبر طالما بقيت قواته هناك، لمنع إضفاء الشرعية على احتلاله.
تزامنت مع ذلك جهود مصرية حثيثة ومستمرة على مسار التفاوض، حيث استضافت القاهرة وشرم الشيخ جولات ماراثونية من المفاوضات غير المباشرة سعيا لوقف إطلاق النار. وقد تُوجت هذه الجهود الشاملة بالنجاح، حيث لعبت الوساطة المصرية دورا محوريا في التوصل إلى اتفاق هدنة. وقد جاءت اللحظة الحاسمة عندما وجه الرئيس السيسي نداءً خاصا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لبذل كل الجهود لإنهاء الحرب. وبالفعل أعلن الرئيس ترامب لاحقا عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، مُوجها الشكر بشكل خاص لمصر على دورها في إنجاح المفاوضات، وداعيا كافة الأطراف للالتزام بالهدنة.
لقد مثّل هذا الإعلان انتصارا واضحا للموقف المصري، الذي أثبت بالأفعال وليس بالأقوال فقط الالتزام بدعم الحق الفلسطيني والسعي لوقف نزيف الدماء، وأحبط بنجاح المحاولة الإسرائيلية ودول وجهات أخرى في تشويه دور مصر وتحميلها مسئولية الوضع الإنساني المتأزم بسبب الاحتلال الإسرائيلي والعدوان على غزة.
خامسا- واقع الرواية العربية المضادة – تجزئة وعدم تناسق المواقف:
في مواجهة منظومة الهاسبارا المنظمة والمركزية، تبدو جبهة الاتصال الاستراتيجي العربية غير متكافئة ومجزأة. ومع ذلك فإن هذه الصورة لا تعكس الديناميكيات الكاملة لحرب الروايات، التي شهدت في السنوات الأخيرة صعود قوى سردية جديدة وفعالة، وإن كانت تفتقر إلى إطار استراتيجي موحد.
صعود "الرواية" الفلسطينية الشعبية من صحافة المواطن:
يمكن القول إن المنافس الحقيقي للهاسبارا الإسرائيلية، كانت الرواية الفلسطينية الشعبية التي نمت وتطورت بشكل عضوي ولا مركزي مدعومة من وسائل الإعلام العربية المتضامنة. هذه الرواية لا تعتمد على وزارات أو ميزانيات ضخمة، بل على الفلسطينيين أنفسهم الذين تحولوا إلى "صحفيين مواطنين"، يوثقون حياتهم اليومية تحت الاحتلال وعدوان الحرب باستخدام أبسط الأدوات، مثل الهواتف المحمولة ومنصات التواصل الاجتماعي. وتكمن قوة هذه الرواية في عدة عوامل، منها:
· الأصالة والمصداقية:على عكس الهاسبارا التي تبدو مصطنعة وموجهة، تنبع الرواية الفلسطينية من تجارب حقيقية ومعاناة يومية. هذه الأصالة تمنحها مصداقية عالية لدى الجمهور العالمي، وخاصة فئة الشباب.
· الطابع الإنساني:تركز الرواية على واقع القصص الإنسانية، على وجوه الضحايا وأحلامهم، مما نجح في كسر الصورة النمطية التي تحاول الهاسبارا ترويجها عن الفلسطيني كـ"إرهابي" أو مجرد رقم في نشرات الأخبار.
· الانتشار الشبكي:تنتشر هذه السردية عبر شبكات التضامن العالمية، متجاوزة وسائل الإعلام الغربية التقليدية التي غالبا ما تتبنى الرواية الإسرائيلية أو تمارس الرقابة على المحتوى الفلسطيني أو العربي الداعم للحق الفلسطيني.
مشهد الإعلام العربي.. بين المقاومة والتطبيع:
يعكس الإعلام العربي الرسمي والخاص حالة من تباين المواقف، ويمكن تقسيمه إلى اتجاهين رئيسيين:
· إعلام التضامن: تبنى عدد من القنوات ووسائل إعلام أخرى خطابا مناصرا للقضية الفلسطينية بشكل واضح. تعمل هذه المنصات على توفير مساحة واسعة للأصوات الفلسطينية، وتؤطر الصراع باستمرار من منظور واقعي إنساني لشعب واقع تحت الاحتلال، وتفند الروايات الإسرائيلية بشكل منهجي، مما يجعلها لاعبا رئيسيا في مواجهة الهاسبارا على الساحة العربية.
· إعلام التطبيع: في المقابل شهدت السنوات الأخيرة ظهور خطاب إعلامي في بعض الدول العربية يروج للتطبيع مع إسرائيل. هذا الخطاب لا يكتفي بتجنب نقد إسرائيل، بل يصل أحيانا إلى تبني أجزاء من روايتها، مثل تصوير القضية الفلسطينية كـ"عبء" يعيق التقدم والازدهار الإقليمي. هذا التحول يمثل طعنة في ظهر السردية الفلسطينية، ويقدم خدمة مجانية للهاسبارا من داخل البيت العربي.
إن المعركة الإعلامية الحالية ليست متكافئة من حيث التنظيم والموارد. وتقوم على المواجهة غير المتناظرة بين نظام مركزي، وهرمي، وممول بسخاء (الهاسبارا)، وبين حركة لامركزية، وشبكية، وشعبية أحيانا (الرواية الفلسطينية). وقد أثبتت هذه الحركة الشعبية قدرتها على تحقيق اختراقات كبيرة بفضل أصالتها وقوتها العاطفية، بدعم واسع من الإعلام العربي المتضامن، ومع ذلك فإن هذا النجاح لا يغني عن الحاجة إلى فكر استراتيجي. فالتحدي الذي يواجه العالم العربي ليس بناء "هاسبارا مضادة" بالأساليب نفسها، بل في كيفية بناء هيكل استراتيجي داعم وممكّن لهذه الرواية الأصيلة، لحمايتها من القمع الرقمي، وتضخيم صوتها، وتحويل قوتها العاطفية إلى تأثير سياسي دائم على الساحة العالمية.
سادسا- خاتمة – نحو عقيدة عربية استباقية للاتصال الاستراتيجي:
يكشف التحليل النقدي لمنظومة "الهاسبارا" الإسرائيلية أنها ليست مجرد أداة علاقات عامة، بل هو سلاح استراتيجي ومنظومة حرب معلومات متكاملة، مصمم لتشكيل الوعي العالمي وتوفير غطاء الشرعية للسياسات الإسرائيلية. لقد رأينا كيف أن بنيته الهجينة التي تمزج بين الدولة والمجتمع المدني، وترسانته التكتيكية التي تتراوح بين التأطير النفسي والتلاعب الخوارزمي، تجعل منه خصماformidable . ومع ذلك أظهرت حرب غزة الأخيرة حدود هذه المنظومة، وكشفت عن تناقضها الجوهري وعجزها المتزايد عن إخفاء حقيقة الواقع الذي تخلقه القوة العسكرية الإسرائيلية. وفي المقابل برزت الرواية الفلسطينية الشعبية كقوة مضادة فعالة، لكنها تظل عفوية وتفتقر إلى الدعم الاستراتيجي المنظم.
إن الاعتماد على ردود الفعل العاطفية والسرديات العفوية، على الرغم من أهميتها، لم يعد كافيا في مواجهة حرب معلومات ممنهجة. لا بد من الانتقال من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الفعل الاستباقي، ومن التشرذم إلى التنسيق، ومن الخطاب العاطفي إلى استراتيجية اتصال متكاملة.
عناصر العقيدة المقترحة:
· البناء المؤسسي:إن الخطوة الأولى والأساسية هي إنشاء هيئة أو مجلس عربي للاتصال الاستراتيجي، يضم خبراء من مختلف التخصصات (إعلام، وقانون دولي، ودراسات استراتيجية، وتقنية رقمية). لا يجب أن تكون مهمة هذا المجلس إدارة الأزمات الآنية فحسب، بل وضع استراتيجيات طويلة الأمد، وإجراء أبحاث معمقة حول اتجاهات الرأي العام العالمي، ورصد وتفنيد روايات جهاز الهاسبارا بشكل منهجي، وتدريب كوادر عربية قادرة على خوض هذه المعركة بفعالية.
· الانتقال من الدفاع إلى الهجوم:التوقف عن التصرف كمجرد رد فعل على الاتهامات الإسرائيلية. لابد من المبادرة إلى طرح رواية عربية-فلسطينية متماسكة وإيجابية، لا تركز فقط على المعاناة، بل أيضا على الصمود والإبداع والتطلع إلى مستقبل قائم على العدل والحرية. يجب أن يتم تأطير الصراع ليس كنزاع حدودي معقد، بل كقضية تصفية استعمار لشعب واضحة المعالم، تستند إلى مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان العالمية، وهي لغة يفهمها ويتجاوب معها الرأي العام العالمي.
· تكامل الأدوات (الدبلوماسية، والقانونية، والإعلامية):أن يكون الاتصال الاستراتيجي جزءا لا يتجزأ من السياسة الخارجية، وليس مجرد ملحق بها. يجب ربط الحملات الإعلامية بالتحركات الدبلوماسية في المحافل الدولية، وبالإجراءات القانونية في المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. فالقرارات والأحكام الصادرة عن هذه الهيئات توفر مادة خام ذات مصداقية هائلة لا يمكن للهاسبارا تفنيدها بسهولة، ويجب استثمارها إعلاميا إلى أقصى حد.
· الاستثمار في البنية التحتية الرقمية والتدريب: في العصر الرقمي، من يمتلك القدرة على إنتاج المحتوى ونشره وتوزيعه هو من يمتلك زمام المبادرة. يجب الاستثمار في إنشاء منصات إعلامية رقمية متعددة اللغات، ودعم الصحفيين والمؤثرين والنشطاء الفلسطينيين والعرب بالأدوات والتدريب اللازم لإنتاج محتوى عالي الجودة، وتعليمهم آليات التحقق من الأخبار وتفنيد المعلومات المضللة، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد الحملات الممنهجة والرد عليها بذكاء وسرعة.
ختاما، كشفت حرب غزة الأخيرة عن فشل وضعف منظومة "هاسبارا"؛ فكلما زادت وحشية القوة العسكرية الإسرائيلية على الأرض، تهاوت مصداقية آلة البروباجندا التي تسعى لتجميلها. وفي مقابل هذا التصدع، بزغ فجر سردية فلسطينية شعبية، عفوية وصادقة، نجحت بقوة أصالتها في اختراق جدران التعتيم، وإن ظلت تفتقر إلى المظلة الاستراتيجية التي تحميها وتوجه زخمها.
هنا عند هذا المفترق التاريخي، لم يعد الاعتماد على ردود الفعل العفوية مقبولا. فالمواجهة لم تعد بين روايتين، بل بين فوضى الحقيقة المنبثقة من معاناة الفلسطينيين، وتنظيم التضليل الإسرائيلي الممنهج. إنها دعوة صريحة للعقل العربي للانتقال من الدفاع إلى الهجوم السردي، ومن التشرذم إلى التنسيق المؤسسي، ومن لغة الشكوى إلى بناء خطاب استباقي متكامل الأدوات؛ يجمع بين الدبلوماسية، والقانون، والإعلام الرقمي.
وفي هذا المشهد شديد التعقيد، وقفت مصر وتصدت ودافعت عن نفسها وعن القضية الفلسطينية وأصحابها. لا بوصفها وسيطا فحسب، بل بصفتها ثقلا جيوسياسي وتاريخيا، تمتلك من الأدوات الدبلوماسية والشرعية الدولية ما يؤهلها لقيادة هذا التحول. فمصر، التي رعت السلام لعقود ورفضت على الدوام المساس بأمنها القومي أو سيادة أشقائها العرب، هي الأقدر على مخاطبة العالم بلغة المصالح والاستقرار، مُحذرةً من أن استمرار العدوان الإسرائيلي ومحاولات تزييف الوعي الممنهجة لا يهدد الحق الفلسطيني فحسب، بل ينسف أسس الأمن الإقليمي برمته.
إن المعركة القادمة، ليست فقط معركة لاسترداد الحق والأرض وحدهما، بل هي صراع على الوعي للأجيال الحالية والقادمة. وفي هذا العصر، لذلك لم تعد الكلمة الصادقة والصورة الحية مجرد أدوات للتوثيق فحسب، بل أصبحت، حين توضع في إطار استراتيجية واعية، سلاحا قادرا على تحقيق ما قد تعجز عنه أحيانا أدوات القوة الخشنة.
المصادر:
محمد فوزي، كيف تم توظيف الصورة كسلاح في حرب غزة؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. https://acpss.ahram.org.eg/News/21093.aspx
د. إسراء أحمد إسماعيل، "الهاسبارا الإسرائيلية.. هل تتمكن من تحقيق أهدافها؟"، آفاق مستقبلية العدد (4)، يناير 2024، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء.
https://share.google/xwpN70BPzvDKqedZ5
إنجي عبد الوهاب، الـ«هاسبارا» بين «إسرائيل الكبرى» و«محو العماليق».. هل تغسل آلة الدعاية الإسرائيلية يد «نتنياهو» من الدماء؟، المصري اليوم، https://www.almasryalyoum.com/news/details/3223196
د. طلال عود، جهاز الـ«هاسبارا» الإسرائيلي وحرب الوعي.. نظرة تاريخية، المصري اليوم. https://www.almasryalyoum.com/news/details/3223195
همت سلامة، "همت سلامة تكتب: הַסְבָּרָהهاسبارا.. إمبراطورية بث الأكاذيب والافتراءات في تل أبيب.. رأس الحربة الإسرائيلية في معركة «اللعب في العقول».. إسرائيل تُجمل جرائمها بحرب المعلومات لتبرير مجازرها"، اليوم السابع. https://share.google/bujezOQdOktdZ4iQu
محمد رضا، "كل ما تريد معرفته عن منظمة هاسبارا الإسرائيلية ودورها التخريبى.. إنفوجراف"، اليوم السابع. https://share.google/hvZQdCyoSyErnIhsk
عصام عبدالخالق، عودة لحديث «الهاسبارا» «1 ــ 2».. قوة إسرائيل الناعمة، الأهرام. https://gate.ahram.org.eg/daily/News/962704.aspx
عاصم عبد الخالق، عودة لحديث الهاسبارا «2 ــ 2».. قواعد الكذب العشر، الأهرام. https://gate.ahram.org.eg/daily/News/963423.aspx
محمد عبدالعزيز، أداة تبرير جرائم إسرائيل في غزة.. ما هي منظمة هاسبارا؟، الوطن. https://share.google/f8WRhmgdxg9OupXMa
ما هي الهاسبارا؟ أو كيف تبيّض إسرائيل الإبادة الجماعية؟https://alsifr.org/hasbara
Nachman Shai, Why Israel is winning on the battlefield but losing the global narrative war, October 2025, The Jerusalem Post.https://www.jpost.com/jerusalem-report/article-869453
Israel Is Winning the War but Losing the World, The Wall Street Journal, September 2025. https://www.wsj.com/world/middle-east/israel-is-winning-the-war-but-losing-the-world-bf7ddcb2
American Jewish Committee. (September 2025). 5 reasons why the events in Gaza are not a genocide. https://www.ajc.org/news/5-reasons-why-the-events-in-gaza-are-not-genocide
Alon Pinkas, How Do You Destroy a Country’s Reputation? Just Ask Benjamin Netanyahu, The New Republic,August 5, 2025, available at: https://newrepublic.com/article/198758/benjamin-netanyahu-destroy-israel-reputation-gaza-genocide
"Can Israel win the narrative war?", Israel hayom, published on June 6, 2025.https://share.google/w3BTiGDNSBo2AEJHz
Joe Brown, Israeli PR is broken, throwing money at the issue won’t necessarily fix it – Why is Israel’s PR so bad? opinion, The Jerusalem Post, January 2025. https://www.jpost.com/opinion/article-836067
ICAHD. (2024, October 30). Challenging Israeli Hasbara and conventional wisdom on Palestine: An anti-colonial reframing. https://icahd.org/2024/10/30/challenging-israeli-hasbara-and-conventional-wisdom-on-palestine-an-anti-colonial-reframing/
Alain Gresh, Hasbara: the dark art of spinning a war, Le Monde diplomatique, may 2024, available at: https://mondediplo.com/2024/05/03hasbara
CNN RUNS GAZA COVERAGE PAST JERUSALEM TEAM OPERATING UNDER SHADOW OF IDF CENSOR, The Intercept, January 4, 2024, available at: https://theintercept.com/2024/01/04/cnn-israel-gaza-idf-reporting/
The Power of Digital Platforms to Support Palestine Globally, Modern Diplomacy, January 1, 2024, available at: https://moderndiplomacy.eu/2024/01/01/the-power-of-digital-platforms-to-support-palestine-globally/
Civil Public Diplomacy (Hasbara) in the Gaza War: Potential in the Influence Arena, The Institute for National Security Studies, December 11, 2023.https://www.inss.org.il/publication/hasbara-war/
Gaza and the Future of Information Warfare, Foreign Affairs, December 3, 2023, available at: https://www.foreignaffairs.com/middle-east/gaza-and-future-information-warfare
Tajmajer, J. (2023, December 11). Israeli Hasbara during the war on Gaza. Brown Political Review. https://brownpoliticalreview.org/israeli-hasbara-during-war-on-gaza/
The art of deception: How Israel uses 'hasbara' to whitewash its crimes. (2021, May 17). TRT World. https://www.trtworld.com/article/12766404
Israel Can Be A Legitimate Defender, But Not Offender, Current Review, December 27, 2020, available at: https://www.currentreview.com/2020/12/27/israel-can-be-a-legitimate-defender-but-not-offender-op-ed/
Hasbara and the Control of Narrative as an Element of Strategy, Middle East Policy Council, available at: https://mepc.org/speeches/hasbara-and-control-narrative-element-strategy
Aouragh, M. (2016). Hasbara 2.0: Israel’s public diplomacy in the digital age. Middle East Critique, 25(3), 271–297. https://doi.org/10.1080/19436149.2016.1179432
War of words: Israel and the semantics of oppression. (2015, November). The Jerusalem Fund. https://thejerusalemfund.org/2015/11/war-words-israel-semantics-oppression/
Freeman, C. W., Jr. (2012, November 28). Hasbara and the control of narrative as an element of strategy. Middle East Policy Council. https://mepc.org/speeches/hasbara-and-control-narrative-element-strategy/
"Hasbara" courses at Israeli universities exposed in new report. (2012, July 13). The Electronic Intifada. https://electronicintifada.net/content/hasbara-courses-israeli-universities-exposed-new-report/12612
Hasbara Handbook, 2007, available at: https://www.middle-east-info.org/take/ghost.htm.pdf
Hasbara and the Control of Narrative as an Element of Strategy, Middle East Policy Council, Op Cit.https://share.google/uaTdWWUXVt8WAiiLt
Hasbara, post-hasbara, and the end of the two-state solution. https://vashtimedia.com/zionism-israel-palestine-gaza-hasbara-america-propaganda/