تحليلات

ما بعد الوساطة.. مصر وهندسة السلام المؤسسى فى الشرق الأوسط

طباعة

تأتي قمة شرم الشيخ للسلام في توقيت شديد الحساسية إقليميًا ودوليًا؛ إذ تتقاطع أزمات غزة، والبحر الأحمر، والملف النووي الإيراني مع حالة من إعادة التشكل في النظام الدولي، حيث تتراجع فعالية القوى الكبرى وتتصاعد أدوار الفاعلين الإقليميين. وفي قلب هذا التحول، تُعيد مصر صياغة موقعها ودورها ليس فقط كوسيط في النزاعات، بل كـمهندس لنظام إقليمي يقوم على فكرة “السلام المؤسسي”؛ أي سلام تُنتجه المؤسسات، وتدعمه التنمية، وتضمن استدامته قواعد مشتركة ومصالح متبادلة.

لم تكن قمة شرم الشيخ للسلام مجرّد اجتماع دبلوماسي، بل جاءت كمنعطف حاسم في مسار الحرب على غزة، ومحاولة جادّة لإعادة إطلاق “عملية سلام شاملة” تُعيد الاعتبار لفكرة الحل السياسي بعد عام من التصعيد الدموي غير المسبوق.وفي لحظة بات فيها النظام الإقليمي العربي مهددًا بالانقسام، أعادت مصر – بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي – تعريف وظيفة الدبلوماسية العربية من إدارة الأزمات إلى صياغة الحلول.
القمة إذًا لم تُعقد لتكرار بيانات التهدئة، بل لتكريس دور مصري محوري في تحويل التهدئة المؤقتة إلى وقف شامل لإطلاق النار، وبناء تصور جماعي لإعادة إعمار غزة وضمان الأمن الإقليمي في آن واحد. ومن ثم نهدف إلى تحليل ملامح التحول في الدور المصري من الوساطة إلى بناء "السلام المؤسسي"، من خلال قراءة أكاديمية لقمة شرم الشيخ الأخيرة، كأحد المؤشرات العملية على إعادة هندسة النظام الإقليمي العربي.

المدخل النظرى.. السلام المؤسسي كأداة  لإنهاء الحروب الممتدة:

ُيظهر التحليل الأكاديمي أن ما تطرحه مصر في قمة شرم الشيخ يمثل نموذجًا لتطبيق مفهوم السلام المؤسسي (Institutional Peace) الذي يقوم على أن الاستقرار لا يتحقق عبر القوة أو النوايا، بل عبر آليات ومؤسسات تنفّذ وتراقب وتضمن استمرار السلام.
ويقوم هذا المفهوم على ثلاث ركائز نظرية:
1. الاعتماد المتبادل المركب (Keohane & Nye): ربط الأمن بالاقتصاد والبنية التحتية يجعل تكلفة الحرب أعلى من مكاسبها.
2. المأسسة الإقليمية (Institutionalism): بناء آليات دائمة للتنسيق السياسي والأمني بين الدول.
3. السلام الإيجابي (Galtung): تجاوز فكرة وقف النار إلى بناء العدالة والتنمية كضمان للاستقرار.
بهذا المنظور يتجاوز الدور المصري فكرة “الوساطة الإنسانية” إلى تصميم بنية إقليمية تمنع إعادة إنتاج الحرب في غزة والمنطقة.

قمة شرم الشيخ – الهدف المحوري وخصوصية المقاربة المصرية:

ويتضح ذلك فى بعدين أساسيين: يتمثل البعد الأول فى  الهدف المركزي: إنهاء الحرب في غزة حيث انعقدت القمة في ظل انسداد الأفق السياسي وارتفاع الخسائر الإنسانية، وسط تراجع الثقة في المسار الدولي التقليدي. جاءت الدعوة المصرية لتأكيد أن وقف الحرب لم يعد مطلبًا إنسانيًا فقط، بل ضرورة استراتيجية لحماية استقرار الإقليم. ولهذا صيغت القمة كمنصة لثلاثة أهداف محددة:
_ التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار في غزة برعاية وضمانات عربية ودولية.
_ بلورة رؤية لإعادة إعمار غزة بمشاركة إقليمية واسعة.
_ تأسيس آلية متابعة دائمة تُحول الالتزامات السياسية إلى واقع مؤسسي.

بينما يتمثل البعد الآخر فى  القيادة المصرية – الدور الشخصي للرئيس السيسي- حيث جاءت كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي لتؤكد أن مصر لا تتحدث باسم طرف، بل باسم “الضمير الإنساني والإقليمي”.
فمنذ اندلاع الحرب تبنّى الرئيس سياسة الدبلوماسية الفاعلة لا الخطابية، عبر سلسلة اتصالات مباشرة مع واشنطن، وتل أبيب، والسلطة الفلسطينية، وإدارة الملف الإنساني من خلال معبر رفح الذي أصبح شريان الحياة الوحيد لسكان القطاع.
وقد أكّد الرئيس في كلمته أمام القمة أن “السلام ليس خيارًا ترفيًا، بل هو الشرط الأول لبقاء الإنسانية”، مشددًا على أن مصر لن تسمح بانفجار جديد يهدد استقرار سيناء أو المنطقة.
بهذا قدّمت القاهرة نموذج القيادة الواقعية الإنسانية التي تجمع بين الحسم السياسي والالتزام الأخلاقي.

البعد المؤسسي – من التهدئة إلى هندسة النظام الإقليمي:
تقوم الرؤية المصرية على أن وقف الحرب يجب أن يكون بداية لبناء نظام جديد، وليس نهاية مؤقتة لأزمة.
فالقاهرة، التي احتضنت معظم مفاوضات التهدئة خلال الحرب، تسعى عبر قمة شرم الشيخ إلى تحويل أدوات إدارة الأزمات إلى مؤسسات لإدارة السلام، عبر:
1. إطلاق آلية عربية–دولية لإعادة الإعمار تضمن شفافية التمويل وعدالة التوزيع.
2. بلورة ميثاق إقليمي للأمن الجماعي يمنع استخدام الأراضي العربية في صراعات القوى الكبرى.
3. دمج البُعد الاقتصادي في عملية السلام عبر ربط إعمار غزة بمشروعات التنمية في سيناء ومنطقة شرق المتوسط.
هذه الرؤية تعكس ما يمكن تسميته بـ المدرسة المصرية في هندسة السلام، التي لا تكتفي بوقف القتال، بل تسعى لتفكيك أسبابه الهيكلية.

وتضمنت قمة شرم الشيخ العديد من الرسائل الاستراتيجية كالتالى:
1. إلى الداخل العربي: أن الأمن القومي العربي لا يُصان إلا عبر موقف موحد ورؤية مستقلة بعيدًا عن الضغوط الخارجية.
2. إلى القوى الدولية: أن مصر تمتلك مفاتيح الاستقرار في الإقليم، وأن أي تسوية لا تمر عبرها ستظل ناقصة.
3. إلى الشعوب: أن القاهرة، بقيادة الرئيس السيسي، لا تكتفي بدور المتفرج بل تتحمل مسئوليتها التاريخية كصاحبة مبادرة وسلام.
بهذه الرسائل، استعادت مصر ما يمكن تسميته بـ الشرعية القيادية الإقليمية التي كانت أحد أعمدة سياستها الخارجية منذ سبعينيات القرن الماضي.

وبالرغم من تزايد الاعتراف الدولي بمركزية الدور المصري، فإن هذا الدور يواجه تحديات معقدة:
_  استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي، ما يعرقل تنفيذ أية تسوية.
_ غياب التوافق الإسرائيلي حول “اليوم التالي للحرب”.
_  تذبذب الموقف الأمريكي بين دعم التهدئة وحماية إسرائيل سياسيًا، غير أن قدرة مصر على الجمع بين الشرعية التاريخية، والدور الأخلاقي، والواقعية السياسية تمنحها مساحة مناورة أوسع من غيرها، وتجعلها مؤهلة لقيادة التحول من وقف النار إلى سلام شامل ومستدام.

ختاما، أعادت قمة شرم الشيخ تثبيت مصر في موقعها الطبيعي كركيزة للاستقرار العربي، وكصوتٍ عاقل يقود العالم نحو إنهاء الحروب لا إدارتها.
ففي الوقت الذي تتراجع فيه الدبلوماسية الدولية أمام صراع المصالح، تقدم القاهرة نموذجًا لقيادة مسؤولة يقودها الرئيس عبد الفتاح السيسي، يوازن بين الأمن والسيادة، وبين الأخلاق والمصلحة. إن ما يطرحه الرئيس السيسى اليوم ليس مجرد مبادرة ظرفية، بل رؤية متكاملة لبناء سلام مؤسسي دائم في الشرق الأوسط، يجعل من إنهاء الحرب في غزة خطوة أولى نحو استعادة إنسانية السياسة وفاعلية النظام العربي.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. هبة الحسينى

    د. هبة الحسينى

    مدرس العلوم السياسية-كلية اقتصاد وإدارة- جامعة ٦ أكتوبر