مقالات رأى

موقف إيران من خطة ترامب للسلام.. بين الوصاية الأيديولوجية والتكتيك البارد في إدارة الصراع

طباعة

على رقعة شطرنج إقليمية معقدة ومتعددة الأبعاد، يتحرك اللاعبون الدوليون والإقليميون ببراجماتية محسوبة وهدوء حذر. من جهة تسعى الولايات المتحدة إلى فرض سلامٍ يخدم مصالح إسرائيل، فيما تحاول إسرائيل بدورها حماية جبهتها الداخلية وتخفيف الضغوط الشعبية والسياسية على حكومتها. ومن جهة أخرى تبدي حركة حماس استعدادًا مشروطًا للتعامل مع هذا السلام، مع تمسكها بحقها في المقاومة وشرعيتها السياسية. أما إيران فتدير اللعبة بعقل استراتيجي بارد يضمن استمرار محور المقاومة دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة. بينما تتحرك مصر على خط التوازن الصعب، لمحاولة احتواء الانفلات الأمني وتقريب وجهات النظر، حفاظًا على القضية الفلسطينية من الضياع وسط شد الأطراف وتنازع المصالح.

القضية الفلسطينية وصية أيديولوجية للثورة الإسلامية:

قبل ساعات من إعلان موافقة حركة حماس على المرحلة الأولى من خطة ترامب للسلام، نشر الموقع الرسمي لمكتب المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، تعليقًا لافتًا بعنوان"خطة ترامب للسلام هي خطة لإنقاذ نتنياهو من مستنقع غزة".

وجاء في البيان، وفق الترجمة العربية:

إن ظاهر ما يسمى بخطة ترامب للسلام هو تحرير أسرى إسرائيليين مقابل إعادة إعمار غزة وإطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، بل ومن المقرر أن تطلق حماس أولًا جميع الأسرى الإسرائيليين من جانب واحد لكي يخرج نتنياهو من تحت ضغط الرأي العام والضغوط السياسية داخل كيان الاحتلال، وهو هدف لم يستطع تحقيقه عبر ثلاث سنوات من الحرب، ويراد له الآن أن يتحقق عبر سلام مفروض بصيغة ترامب.

وبموجب هذه الخطة ستُجرد المقاومة الفلسطينية من سلاحها بالكامل، ولن يكون للطرف الفلسطيني أي دور في تقرير مصير غزة المستقبلي، إذ سيُشكل ما يسمى بـ مجلس السلام برئاسة ترامب ليتولى إدارة القطاع كما يشاء. وحتى السلطة الفلسطينية التي عاشت وهم سلام أوسلو لسنوات، لن يكون لها دور في هذه الخطة، التي صرح نتنياهو بأنها لا تهدف مطلقًا إلى إقامة دولة فلسطينية ولا تؤدي إليها بأي شكل من الأشكال.

وفي المقابل ستُجهز قوة عسكرية دولية للانتشار في غزة حتى لا يضطر الجيش الإسرائيلي للبقاء في خطوط المواجهة الأمامية، مع الإبقاء على وجوده في أطراف القطاع وبعض مناطقه الداخلية. ومن ثم لا يُرى أي أفق لقيام دولة فلسطينية، بل إن الخطة نفسها تنقض مبدأ الدولتين. لذا يجب اعتبارها خطوة استباقية لمواجهة المسار الدولي الداعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، الذي تسعى فرنسا والسعودية إلى دفعه قدمًا. فقد قدم ترامب غزة بلباس السلام، ليمنع الاعتراف بفلسطين وليحرر إسرائيل من ضغط هذا المسار الدولي.

أما المقاومة فإنها تسعى إلى سلام حقيقي يحرر أهل غزة من وهدة الحرب والإبادة الجماعية. وتجريدها من سلاحها يعني بداية معاناة غزة وكسر إرادة شعبها، في حين أنها لا ترفض إعادة الإعمار أو تبادل الأسرى، بل ترفض أن يتحول ذلك إلى ثمنٍ للتنازل عن حقها في المقاومة. والحل من منظور الثورة الإسلامية واضح، أن يقرر جميع الفلسطينيين، من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، مصير أرضهم بحرية تامة عبر استفتاء عام. انتهى البيان.

لا يبدو أن تعليق مكتب المرشد على خطة ترامب مجرد بيان تضامني كما يظهر للوهلة الأولى، بل هو إعلان وصاية أيديولوجية مسبقة على الخطاب المقاوم في غزة. فالمفردات المستخدمة في البيان، مثل المقاومة، والسلام المفروض، والمكر، ونزع السلاح، وبداية معاناة غزة وكسر إرادة شعبها، نقض مبدأ الدولتين،ليست اختيارًا لغويًا بريئًا، بل تعبير عن الثوابت العقائدية التي شكلت جوهر خطاب الثورة الإسلامية منذ عام 1979. في هذا الخطاب لا تُقدم غزة كقضية فلسطينية محلية فحسب، بل كساحة من ساحات الثورة الإسلامية الكبرى، حيث تحتفظ طهران بحقها في تحديد معنى المقاومة وحدود السلام المقبول.

قاعدة السلاح أولًا والسياسة لاحقًا:

تعتبر حركة حماس امتدادًا تأسيسيًا في هوية الثورة الإسلامية الإيرانية، ومن يفهم البنية العقائدية والفكرية لطهران يدرك أن محور المقاومة ليس مجرد أداة سياسية، بل أحد أركان الهوية الثورية ذاتها. لذلك لم يكن تشابه البيان الحمساوي مع بيان مكتب المرشد الإيراني محض صدفة، بل انعكاس لوحدة الخطاب الأيديولوجي. فحماس، بعد انقسامها عن محور الإخوان الإقليمي، وجدت نفسها مضطرة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة التموضع الاستراتيجي داخل المحور الشيعي الإيراني كضمانة للبقاء. ومن هذا المنطلق فإن وضعها شروطًا معقدة لنزع السلاح -يصعب على إسرائيل القبول بها- لا يُفهم فقط كموقف ميداني، بل كاستمرار للانخراط في العقيدة الأمنية الإيرانية القائمة على قاعدة السلاح أولًا والسياسة لاحقًا.

ولذلك جاءت معارضة الحكومة الإسرائيلية على الاتفاق ككل أمرًا متوقعًا. فبعد إعلان حماس قائمة الأسرى الذين تطالب بالإفراج عنهم، نقلت صحيفة نيويورك تايمز أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير رفضا القائمة، معتبرين أن إطلاق سراح قيادات بارزة، مثل القيادي البارز في حركة فتح، مروان البرغوثي، والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، وأحد رموز العمل المسلح الفلسطيني، حسن سلامة، سيمنح المقاومة فرصة لإعادة بناء صفوفها. أما وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، فدعا صراحة إلى استمرار القتال للقضاء على حماس، واصفًا الاتفاق بأنه خطر على أمن إسرائيل.

ومع ذلك وافق الطرفان على المرحلة الأولى من الصفقة، التي تضمنت وقفًا لإطلاق النار، وتبادلًا للرهائن، وانسحابًا جزئيًا للقوات الإسرائيلية نحو النصف الشرقي من غزة. غير أن الخلافات داخل إسرائيل تجددت سريعًا بشأن المرحلة الثانية، رغم موافقتها على الإفراج عن أربعة من كبار قيادات حماس، في حين تمسكت الحركة بقائمتها الكاملة، وقد دفع ذلك المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إلى الإعلان عن استحالة تدخل واشنطن في هذه النقطة، في إشارةٍ واضحة إلى تراجع الدور الأمريكي المباشر، رغم الوعود السابقة بالتوسط لتنفيذ الصفقة.هذا التحول يعكس بوضوح بداية انحسار الحضور الأمريكي في إدارة الصراع، بفعل انشغال واشنطن بمنافساتها الكبرى مع الصين وروسيا، وانتقالها من منطق فرض التسويات إلى منطق إدارة الأزمات عبر وسطاء إقليميين، مثل القاهرة والدوحة. غير أن هذا الفراغ سرعان ما ملأته طهران بمهارةٍ استراتيجية، من خلال تعقيد خيوط التفاوض وتوظيف التناقضات الإسرائيلية الداخلية لصالحها.

وعلى صعيد موازٍ ازدادت حدة خطابات نتنياهو، إذ صرح بأن حماس وافقت على الصفقة فقط حين وُضِع السيف على رقبتها، مضيفًا أنها ستُجرد من السلاح وستُعسكر غزة، في تناقض صارخ مع بنود المرحلة الثانية من الاتفاق. مما يؤكد أن أولويات إسرائيل في هذه المرحلة تنحصر في الإفراج عن الأسرى وامتصاص الغضب الشعبي، في ظل ضغوط أحزاب اليمين المتطرف المهددة بالانسحاب من الائتلاف الحاكم. أما المرحلة الثانية، فيتوقع أن يترك مجالها مفتوحًا للمناورة والتمطيط، وآية ذلك ما قاله نتنياهو -وفق ما نقله موقع تايمز أوف إسرائيل- بشأن إمكانية تحقيق مطالب حكومته بطريقة سهلة، وإن لم يتحقق ذلك فبطريقة صعبة، في تلميح واضح إلى أن إسرائيل لا تزال تحتفظ بخيار القوة العسكرية.

تُظهر هذه المتغيرات أن طهران تدرك تمامًا طبيعة العقل الإسرائيلي وطرائق تفكيره. ولهذا، وخلال السنوات الماضية، لم يقتصر دعمها لحماس على الجانب العسكري أو المالي، بل امتد إلى توجيه استراتيجيتها التفاوضية بما يضمن عدم تقديم أي تنازلات تُضعف موقفها. وبذلك يمكن القول إن إيران تطبق في غزة سياسة الردع غير المتكافئ، التي أثبتت فاعليتها في لبنان بعد اتفاق الطائف عام 1989، حين رسخت مبدأ سلاح المقاومة فوق الدولة، ثم عمقته عبر تدخلاتها السياسية في بيروت حتى بعد محاولات حكومة نواف سلام لنزع سلاح حزب الله. والهدف في الحالتين واحد،ضمان بقاء الذراع العسكرية لمحور المقاومة كامتداد مباشر للعقيدة الأمنية والثقافة الثورية الإيرانية.

وهكذا يتبدى أن طهران لا تكتفي بمراقبة المشهد، بل تحاول المشاركة في صياغته وتوجيه مساراته، للمحافظة على مكانتها بوصفها القوة القادرة على إدارة توازنات الصراع دون أن تغادر ميدان الوصاية الأيديولوجية أو تفقد حضورها الاستراتيجي في المنطقة.

التكتيك الإيراني في مواجهة نزع سلاح حركة حماس:

تعاملت إيران مع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بوصفه فرصة استراتيجية لإعادة تموضع أذرعها الإقليمية، لا مجرد تسوية ظرفية. فعلى الرغم من تحفظاتها على بعض بنود الاتفاق، إلا أنها أعلنت دعمها الرسمي للهدنة، إذ أكدت وزارة الخارجية الإيرانية في 9 أكتوبر 2025 تأييدها لأي مبادرة تُنهي ما وصفته بالإبادة الجماعية في غزة، داعية إلى انسحاب القوات الإسرائيلية وتسهيل وصول المساعدات وضمان الحقوق الفلسطينية. في الوقت نفسه شددت طهران على ضرورة محاسبة المسئولين عن الجرائم المرتكبة، في توازن مدروس يتيح لها الحفاظ على صورة المدافع عن الفلسطينيين دون الانخراط المباشر في تفاصيل الاتفاق.

وفي اليوم التالي نشر مستشار الزعيم الإيراني للشئون الدولية، علي أكبر ولايتي، تعليقًا على منصة "إكس" قال فيه: إن وقف إطلاق النار في غزة قد يكون في الخفاء تمهيدًا لإنهاء الهدنة في مكان آخر، في إشارة ضمنية إلى احتمال تصاعد التوتر في جبهات أخرى، مثل إيران، واليمن، والعراق، ولبنان. كان ذلك تلميحًا دبلوماسيًا واضحًا بأن هدوء غزة لا يعني بالضرورة تهدئة شاملة لمحور المقاومة.

ومع ذلك لم يُلغِ الخطاب الإيراني الرسمي، الداعم لاتفاق السلام، الموقف العقائدي الثابت الذي عبر عنه مكتب الزعيم الإيراني علي خامنئي، إذ وصف الاتفاق بأنه خطة لإنقاذ نتنياهو من مستنقع غزة، ومحاولة لتجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها، وليس مسارًا نحو سلام حقيقي. وأكد البيان أن الخطة تُقصي أي دور فلسطيني مستقل في تقرير مصير غزة، وتنفي عمليًا فكرة الدولة الفلسطينية، لتبقى مجرد غطاء لتمديد الهيمنة الإسرائيلية، وقطع الطريق على أي مسار دولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية. لذلك ختم المكتب بيانه بجملة صريحة أن نزع سلاح المقاومة هو بداية معاناة غزة، ودعا إلى إجراء استفتاء وطني شامل يقرر فيه جميع الفلسطينيين مصيرهم بحرية تامة.

وتكشف هذه القراءة أن إيران تدرك تمامًا أن نتنياهو يدير ملف غزة من منطلق داخلي، يهدف إلى الظهور بمظهر المنتصر على حماس من دون حرب، وهو ما يفسر قبوله بالمرحلة الأولى من الخطة وتردده في الثانية. فالموافقة الكاملة كانت ستُعد اعترافًا ضمنيًا بالثقل السياسي لحماس، وهو ما يرفضه اليمين الإسرائيلي، لأنه يهز أسطورة الردع التي تقوم عليها العقيدة الأمنية الإسرائيلية. ومن هنا جاء البيان الإيراني الأول في توقيت محسوب بدقة، ليضع نتنياهو بين خيارين أحلاهما مر، إما خسارة اليمين إذا مضى في الخطة، أو الظهور بمظهر العاجز أمام واشنطن إذا تراجع عنها.

وفي العمق تبدو طهران كمن يدير اللعبة بمبدأ الربح البارد، فهي لا تسعى إلى مواجهة مباشرة، بل إلى استدامة التوتر تحت سقف حرب باردة إقليمية. فكلما بقيت غزة مشتعلة سياسيًا، بقيت إيران منخرطة مع خيوط الملف الفلسطيني، ومحتفظة بشرعية خطاب المقاومة. وبذلك لا تبحث طهران عن حل نهائي في ظل وجود الاحتلال الإسرائيلي، بل عن صراع يعكر صفو إسرائيل ويمنحها شرعية ثورية متجددة للدفاع عن القضية الفلسطينية، ويُبقيها لاعبًا لا يمكن تجاوزه في معادلة الشرق الأوسط.

خاتمة:

إجمالًا تبدو خطة ترامب إطارًا هدفه تحقيق مكاسب إسرائيلية دون الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران أو حماس. غير أن رفض إسرائيل المتشدد لبعض البنود، ومناورة حماس في قبولها، كشفا عن حدود القدرة الأمريكية على فرض تسوية شاملة بالقوة الدبلوماسية وحدها، خصوصًا في الملفات الحساسة مثل غزة.

في المقابل عكست مواقف إيران من الخطة إدراكًا عميقًا لدى طهران بأن أي تنازل عن المقاومة أو الدور السياسي لحماس سيقود إلى إضعاف المحور بأكمله، ويفتح الباب أمام تسويات أحادية تفرضها واشنطن وتخدم إسرائيل. لذلك أيدت إيران الاتفاق في ظاهره، وعقدت خيوط التفاوض في باطنه، محافظة بذلك على توازن دقيق بين التحرك السياسي والدبلوماسي من جهة، والاحتفاظ بخيار الردع العسكري من جهة أخرى. وبذلك تحاول أن تظل طهران لاعبًا لا يمكن تجاهله في أي محاولة لصياغة أو فرض حل يتعلق بغزة أو بفلسطين عمومًا.

وفي ظل هذا التكتيك البارد، تسعى القوى المحافظة داخليًا، كما يظهر من نشأة كيانات جديدة مثل "الحزب الإسلامي للتمدن الجديد"، إلى تأمين الساحة الداخلية وتشددها الأيديولوجي استعدادًا للمرحلة المقبلة، بعدما فشل الرهان على الأيديولوجية الإصلاحية المنفتحة على الغرب، وهذا كله في مجمله، يعزز من صعوبة التنازل الأيديولوجي في القضايا الخارجية كالقضية الفلسطينية.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية