مقالات رأى

جحيم سيناء فى الاعترافات الإسرائيلية..وصدمة الهزيمة أمام الجيش المصري

طباعة

في ذاكرة الصهاينة المهزومين، تظل حرب 6 أكتوبر المجيدة 1973 علامة فاصلة بين وهم الجيش الذي لا يقهر والصدمة في أرض الواقع عند الانكسار، قبل الحرب كانت إسرائيل تعيش في وهم الانتصار والشعارات المزيفة، أن المصريين لن يستطيعوا محاربتنا، والذي لم يكن في الحسبان، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة مباشرة مع الجيش المصري، فالدولة المزعومة التي بنت وجودها علي أساطير كاذبة، أيديولوجية الصهيونية الدينية، وأرض الميعاد، وشعب الله المختار، ونحن المنتصرون دائما، أصبحت في لحظة واحدة في انهيار وذهول نفسي عميق، الواقع الحقيقي لهم "جنود يفرون –ضباط ينهارون– خط باريف رمز الغطرسة العسكرية سقط "، في هذه اللحظة أدرك بنو صهيون أن انكسار الصهيونية لم يكن عسكريا فقط وأن القوة لا تصنع الأمن ولا التفوق التكنولوجي يضمن النصر أمام مقاتل يحارب من أجل أرضه وكرامته.

وفي سياق مشترك تبقي شهادات قدامي المحاربين الإسرائيليين في حرب أكتوبر المجيدة انتصارا آخر للجيش المصري من الناحية النفسية، انتصار يسمي "الصدمة بعد الحرب"، الانهيار النفسي للجنود والأسري الذي ظل ملازمهم لأكثر من 50 عاما، فبحسب تصريحاتهم رعب وكابوس يعيشون فيه حتي الآن، تعد هذه الشهادات أكثر الوثائق الصادمة في التاريخ العسكري لإسرائيل، حيث كشفت حجم الانهيار النفسي والرعب الميداني الذي أصاب الجنود في مواجهة الجيش المصري، تحدث كثير منهم عن شعور بالعجز الكامل أمام المفاجأة المصرية، وعن لحظات الذعر حين اخترقت القوات المصرية خط بارليف بسهولة غير متوقعة، وآخرون تحدثوا عن انهيار الثقة بالقيادة الإسرائيلية، كل هذه الشهادات تمثل انتصارا مؤلما للذاكرة الإسرائيلية أمام إرادة وعقيدة الجيش المصري.

ومن ناحية أخري كشفت جمعية ناتال وهي منظمة إسرائيلية تقدم الدعم النفسي لضحايا الحرب والصدمات، أنها تلقت 12 ألف مكالمة من قدامي محاربي حرب يوم الغفران، وان لديهم اضطراب ما بعد الصدمة والشعور بالعار وأن بعد مرور 45 عاما علي الحرب لا تزال الآثار النفسية واضحة عليهم، وذلك وفقا لتقرير الجمعية عام 2018، وفي عام 2022 كشفت بيانات الجمعية أن قبل عيد الغفران تزداد عشرات المكالمات إلي خدمات المساعدة من مقاتلي الحرب وأقاربهم وهذه الحالة تسمي " صدمة الشيخوخة" بسبب استرجاع الذكريات أو محاولة تجنبها وصعوبات في تنظيم هذا أو أنهم يعانون من صدمة ما بعد الصدمة، وفي العموم يمثل 20% من الحالات التي تطلب الدعم النفسي من قدامي مقاتلي حرب عيد الغفران.

"تمنيت أن أرى الشمس مرة أخري" شهادة جندي من المزرعة الصينية، هذه الجملة مكتوبة في مذكرات اللواء المتقاعد بيرتي أوهايون كان في الكتيبة المدرعة 196، ويعتبرها أكثر كتيبة عانت أمام الجيش المصري من حيث سقوط القتلي والجرحي، ووصف حرب يوم الغفران بعنوان " أطول ليلة في حياتي"، و"جحيم سيناء"، وأضاف، انه كان خائفا خلال معركة المزرعة الصينية وأن القذائف والرشاشات كانت في كل مكان حوله، وأن كل الدبابات الإسرائيلية احترقت أمامه بنيران الجيش المصري، وظل ساعتين يبحث عن القتلي والجرحي من الجانب الإسرائيلي.

ويروي المقدم احتياط داني بيرل وكان رقيبا سابقا في هيئة الأركان العامة الذي يظهر يبكي خلال مقابلة له في القناة 14 العبرية، عندما تذكر حرب يوم الغفران والجنود الذين سقطوا أمامه خلال المعارك مع الجيش المصري، وأنه رأي جنودا آخرين يحترقون أمامه ولم يستطع الاقتراب منهم أو مساعدتهم، وأضاف أنه عاش أياما صعبة بسبب الحرب.

وشهادة أخري، لـ المقدم أمير رؤوفيني قائد الكتيبة 68، أمام لجنة أجرانات حول إخفاقات حدثت خلال الحرب، قال: إن جنود كتيبته من الاحتياط لم يتدربوا لمدة عامين ونصف، بل جندوا قبل اندلاع الحرب بأسبوعين فقط، وأن آخر تدريب لهم كان في مايو 1971، وداخل الكتيبة لم يكن هناك ضابط مراقبة مدفعية، وأضاف أنه لم يتوقع اندلاع حرب بل خلال المراقبة كان الوضع هادئ ولم يتوقع قيام الحرب، وخلال اعترافاته قال جملة واحدة "كانوا يذبحوننا" واصفا صعوبة الحرب.

ويقول الجندي ناتان مارغاليت الذي وقع في الأسر من المصريين لمدة ثلاثة أشهر خلال حرب أكتوبر: شعرت لسنوات أنني لم أقاتل جيدا وأن الحرب تركت جرح نفسيا، وهناك العديد من الجنود يحملون أثر الحرب حتي الآن، وأضاف أن خلال خدمته بدأ هجوم مصري جوا وبرا بشكل مفاجئ وظل محاصرا ليلة كاملة ونفدت ذخيرتهم واستسلموا للجيش المصري في النهاية، وخلال تصريحاته الصحفية لموقع وأي نت العبري، قال بعد عامين من الحرب التقيت بقائد الكتيبة ولم نستطيع الحديث حول ما حدث أو مواجهة بعض.

وفي دراسة نشرها مركز شوميريم للإعلام والديمقراطية، أن مقاتلى يوم الغفران لديهم مجموعة علي الواتساب تسمي "انهزمت 73 "، وهذا يدل علي مشكلات القلق والاكتئاب التي يعيشها الجنود في الوقت الفعلي نتيجة للهزيمة أمام الجيش المصري.

وما تكشفه شهادات الجنود الإسرائيليين اليوم ليس مجرد اعتراف بالهزيمة، بل دليل على انكسار داخلي عميق في بنية الوعي الصهيوني، حيث أصبح الخوف من حرب أكتوبر جزءا من الهوية النفسية لجيل كامل من الإسرائيليين وصدمة جماعية لا تزال تتجدد مع مرور السنين، خاصة أن مصر هي الدولة الوحيدة التي استطاعت هزيمة إسرائيل.

ومن جانب تعيش إسرائيل منذ 1973 حتي اليوم آثار الصدمة النفسية والهزيمة المعنوية، وعلي عكس مصر تعيش مجد الانتصار الخالد، الذي يتجدد في كل ذكرى السادس من أكتوبر، إن ما زرعه أبطال القوات المسلحة في تلك الحرب لم يكن نصرا عسكريا فقط، بل كان نصرا للكرامة الوطنية، وللإرادة العربية، وللإنسان المصري الذي لا يقبل الهوان، لقد أثبتت حرب أكتوبر أن الجيش المصري ليس مجرد قوة عسكرية، بل هو مؤسسة عقائدية وطنية تحمل في وجدانها معنى التضحية والفداء، وأنه حين يتحرك، تتحرك معه روح الأمة كلها.

لم يكن انتصار أكتوبر مجرد عبور لقناة السويس، بل كان عبورا للعقيدة المصرية نحو المجد والكرامة، لقد واجه المقاتل المصري جيشا مسلحا بأحدث الأسلحة والتقنيات، لكنه تسلح بالإيمان بالله والوطن، وبشجاعة مستمدة من حضارة تمتد لآلاف السنين، فانكسر العدو الإسرائيلي أمامه وانهارت العقيدة  الصهيونية وهم يشاهدون بأعينهم سقوط "خط بارليف" الذي روجوا أنه رمز القوة، وهكذا يظل السادس من أكتوبر ليس فقط يوما للعبور العسكري، بل يوم لعبور النصر والكرامة، ويبقى الدرس الذي أعطاه الجيش المصري للعالم كله واضحا، من يقاتل من أجل أرضه لا يُهزم، ومن يقاتل من أجل وهم يُهزم مرتين مرة في الميدان، ومرة في الذاكرة.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    إنجي بدوي

    إنجي بدوي

    باحثة ماجستير في الشأن الإسرائيلي