منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، دخلت القضية الفلسطينية طورًا جديدًا لم تعهده من قبل. فالمعادلة التي حاول اليمين الإسرائيلي المتطرف فرضها –ثلاثية الاستيطان، والضم، والتهجير– أظهرت فشلها الاستراتيجي، وأنتجت فراغًا سياسيًا تبحث القوى الدولية والإقليمية عن آلية لملئه. وفي قلب هذا المشهد، يطلّ مقترح مجلس السلام العالمي وما يرافقه من فكرة "التدويل المؤقت" باعتباره مخرجًا استراتيجيًا يفتح الطريق أمام ميلاد الدولة الفلسطينية.
ثالوث اليمين الصهيوني المتطرف ( الاستيطان- الضم - التهجير ) قد انتهي منذ رفضت الدولة المصرية ومنذ بداية الحرب مشروع التهجير، ومنذ تحدث الرئيس المصري منذ بداية الحرب عن دولة فلسطينية علي حدود ٦٧، ليمر الوقت ويصرح الآن الرئيس الأمريكي بأن غزة لن تُضم ولن تُحتل ولن تُستوطن.
سقوط معادلة اليمين المتطرف:
لم يعد خيار الضم قابلا للحياة، ولا التهجير ممكنًا في ضوء الرفض الدولي، ولا الاحتلال قادرًا على فرض استقرارٍ دائم. فشل هذه الخيارات الاستراتيجية أفرز تحوّلًا نوعيًا: الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية أصبح أقرب من أي وقت مضى، مع قرارات صادرة من عواصم أوروبية كبرى (لندن وباريس) وتصريحات أمريكية تدفن عمليًا مشروع التهجير والضم. وهكذا سقطت ركائز المشروع اليميني الذي راهن على القوة العسكرية كبديل عن الشرعية، ولم يمنح المجتمع الإسرائيلي ما وعد به في دعايته.
التدويل المؤقت كآلية انتقالية:
المقترح الذي يتبلور اليوم يقوم على نشر قوات دولية مؤقتة تحت إشراف مجلس الأمن أو بغطاء "مجلس السلام العالمي". هذه القوات تشكل: درعًا لحماية المدنيين الفلسطينيين من الحصار والتجويع.
آلية لضمان إعادة إعمار غزة وربطها بالضفة الغربية:
أداة لترسيم الحدود، بما يحسم نزاع غزة – إسرائيل ويؤسس لمسار مماثل في الضفة الغربية على خطوط 1967.
بموجب هذا الترتيب، إما أن تنتقل السلطة الفلسطينية إلى غزة مع ضمانات دولية، أو تتولى الإدارة الدولية المؤقتة مهمة الحوكمة والإصلاحات قبل تسليمها لمؤسسات فلسطينية منتخبة.
الحدود والاعتراف الدولي:
ترسيم الحدود بين غزة وإسرائيل تحت إشراف القوات الدولية ليس تفصيلًا إداريًا؛ بل هو مفتاح المعادلة. فإذا ثبتت الحدود، سقطت ذرائع الضم والاحتلال، وأُتيح للمجتمع الدولي أن يفتح الأفق أمام السيناريو نفسه في الضفة الغربية. الاعتراف البريطاني والفرنسي بالدولة الفلسطينية يشكّل خطوة نوعية: اعتراف سياسي وقانوني، يقترن هذه المرة بآلية تنفيذية –هي الإدارة الدولية المؤقتة– مما يجعل الاعتراف طريقًا واقعيًا لا رمزى، ويفتح الهامش علي انسحاب الجيش الإسرائيلي و علي إقامة الدولة الفلسطينية لإدارة انتقالية قد تشمل الضفة.
دور الفاعلين الدوليين:
لا يُبنى هذا المسار على شخصيات فردية لم تعد تُمثل سوي نفسها مثل توني بلير، مهما علا صوتها، بل على قرار سيادي للدول الكبرى التي تدرك أن استمرار الصراع دون حل يولّد التطرف ويقوّي اليمين الإسرائيلي. في هذا السياق يكتسب "مجلس السلام العالمي" دلالة: إطار جامع يتيح للقوى الكبرى والإقليمية (العربية والإسلامية) المشاركة في صياغة الضمانات والانتقال، مع إشراك الأمم المتحدة كحاضنة شرعية نهائية.
ميكانيزم القوات الدولية قد يفتح الطريق نحو الوصول لمرحلة ترسيم الحدود وفق القانون الدولي، وحتي لو ربحت إسرائيل المنطقة العازلة هذا سيعطي الأفق عبر إدارة ذكية للصراع إلي إقامة الدولة الفلسطينية في غزة والقطاع ودفن مشروع الضم، والتهجير، والاستيطان.
وهنا ستكون صفقة القرن وكل ما أرادته دعاية اليمين المتطرف قد سقط لأن دور القمة العربية الإسلامية مع ترامب وميكانيزم القوات الدولية هما من سيديرا الوجود والحدود وإعادة الإعمار لبقاء الشعب الفلسطيني في أرضه في ظل تراجع كل مشاريع التطبيع المجاني والإبراهيمية كأهم خيار استراتيجي ضد استراتيجية الدفع بالمجان لصالح إسرائيل وذلك بتدويل الملف، لأن الإدارة الدولية هي من تستطيع أن تكون الردع ضد سياسة الإبادة الجماعية والحصار.
المقاومة والتحديات:
تبقى قضية سلاح المقاومة إحدى أعقد القضايا. لكن وجود قوات دولية يغيّر المعادلة: فهي ليست أداة لتجريد المقاومة قسرًا، بل مظلة ردع تمنع إسرائيل من مواصلة العدوان. عندها يصبح السلاح جزءًا من تفاوض سياسي طويل الأمد، أو تفاوض من داخل التفاوض يُعاد من خلاله دمج القوة المسلحة في إطار دولة ذات سيادة. هذه المرحلة تتيح للمقاومة فرصة التفاوض من داخل كيان دولي معترف به، لا من خارج الشرعية، وهذا كله مقابل أهم نقطة وهي عودة إسرائيل للحدود الدولية بعد ترسيم الحدود.
لقد كان رفض حماس لخطة ترامب هو خلاص بنيامين نتنياهو لسحق ما تبقي من غزة وقبولها كارثة عليه كما تحدث الإعلام العبري، لكن لقاء حماس مع رئيس المخابرات المصرية ساهم في صياغة قراءة ذكية لاستثمار فرصة ميكانيزم القوات الدولية.
بزوغ فجر الدولة الفلسطينية:
إن مشهد ما بعد غزة يعلن بوضوح: لا ضمّ، ولا احتلال، ولا تهجير. هذه الثلاثية التي سقطت تفتح الباب لثلاثية جديدة: التدويل، والتعمير، والدولة. فالقوات الدولية المؤقتة ليست نهاية الصراع، بل آلية انتقالية تقود إلى ميلاد الدولة الفلسطينية.
لقد راهن اليمين المتطرف على القوة، فخسر السياسة. واليوم يملك الفلسطينيون والمجتمع الدولي فرصة ذهبية لالتقاط التحول: تدويل قطاع غزة كدرع ضد الحصار والتهجير، وربطه بالضفة الغربية، تمهيدًا لإقامة دولة مستقلة على حدود 1967، معترف بها سياسيًا وواقعيًا. إنها لحظة فاصلة لا يجب أن تضيع، لأن الأفق الذي يُفتح اليوم قد لا يتكرر غدًا، تدويل القضية الفلسطينية فرصة تاريخية يجب استثمارها بعقل جيوسياسي ذكي، الجيل الجديد في أمريكا والغرب والذي رأي الإبادة بعينه هو من سيمنح الدولة الفلسطينية ضد كل أدبيات ووحشية التحالف الصهيوني الإنجيلي، هذا الجيل الذي خرج في المظاهرات من الجامعات ضد إبادة الشعب الفلسطيني وهو الجيل الذي سيحكم في المستقبل، فالأمر يتجاوز فترة حكم ترامب أو نتنياهو.
كل ما نادت به الدبلوماسية المصرية العريقة منذ بداية حرب غزة هو ما يجتمع عليه اليوم المجتمع الدولي بقيادة أربع دول داخل مجلس الأمن، ويدفع السياسة الأمريكية لتحقيقه عبر رئاسة الرئيس الأمريكي لمجلس السلام العالمي، لأن مصر هي لاعب شطرنج قديم ومحترف علي طاولة السياسة الدولية، مصر ليست عابر سبيل بل هي رقم صعب في معادلة التوازنات الإقليمية والعالمية.