أُعيدت القرارات الأممية لمجلس الأمن الدولى رقم 2231 الصادر فى 20 يوليو 2015، فى الساعة 4:30 فجرًا بتوقيت طهران، فى خطوة تُعتبر إجهاضًا عمليًا للاتفاق النووى الموقع عام 2015. هذا المشهد الراهن يعيد إلى الأذهان لحظة ما قبل حرب العراق عام 2003، حين قُدمت القرارات الأممية والضغط الدولى على أنها مسار للتسوية، بينما كانت فى الواقع تمهيدًا للصدام. الفارق أن إيران اليوم أكثر تماسكا، وأصبحت تمتلك أدوات إقليمية تضمن أن أى مواجهة مباشرة ستكون باهظة الكلفة على جميع الأطراف.
أبعاد الحرب الروسية-الأوكرانية على الثنائية القطبية:
فى السنوات الأخيرة، دخلت العلاقات بين إيران وأوروبا واحدة من أكثر مراحلها توتّرا. وقد أثار هذا الوضع جدلًا بين الأوساط السياسية الإيرانية حول أسباب هذه التوترات غير المسبوقة؛ فالبعض يرى أن السبب الرئيسى هو الدعم العسكرى الذى تقدمه إيران لروسيا، بينما يعتقد آخرون أن القضايا الحقوقية هى العامل الأبرز. وبرغم أهمية تلك العوامل، إلا أن العلاقات بين إيران وأوروبا تحمل تعقيدات أعمق لا يمكن تفسيرها بالرجوع إلى عامل أو عاملين فقط.
ومع ذلك كان للحرب الروسية الأوكرانية دور فى الانتقال نحو نظام عالمى جديد يرافقه تشكل ثنائية قطبية فى الساحة الدولية؛ حيث تتجمع روسيا، والصين، وإيران فى جبهة، وتقابلها أوروبا والولايات المتحدة فى الجبهة الأخرى. وهذا يفسر سعى أوروبا إلى احتواء الائتلاف الأوراسى الشرقى (روسيا، والصين، وإيران) وإعادة بناء دورها العالمى، فهى لا تواجه فقط طهران وروسيا، بل تواجه محور المقاومة أيضًا، وتبحث على حلفاء جدد، مثل الحكومة السورية الجديدة ودول الخليج.
وتنبع هذه الاستراتيجية من شعور متزايد بالتهديد، وهو ما يحول التوترات إلى ما هو أبعد من مجرد قضايا أمنية. ويمكن رؤية ذروة هذا التوجه فى حرب الاثنى عشر يوما، عندما قدمت أوروبا دعمًا كاملًا لإسرائيل، إلى درجة أن المستشار الألمانى شولتس صرح بشكل مثير للجدل قائلًا: هذه الحرب هى العمل القذر نفسه الذى تقوم به إسرائيل نيابة عنا جميعًا.
وفى هذا السياق تبنت أوروبا، إلى جانب الولايات المتحدة، سياسة الضغط الأقصى، التى أفضت إلى إعادة العقوبات الأممية (قرارات 2010 وما قبلها). ويبدو أن هذه الأداة تُستخدم أساسًا كوسيلة للضغط السياسى لتحقيق مكاسب، لا لتهدئة التوترات، إذ تدرك الدول الغربية أن إيران لن ترضخ لمطالبها بالكامل، ولن تتنازل عن حقها النووى. وبذلك تُهيئ هذه الإجراءات بلا شك الساحة الدولية لأزمة دبلوماسية صعبة الحل عبر المسار الدبلوماسى فى الوقت الراهن.
تأثير اللوبيات اليهودية على القرارات الأوروبية:
بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 وتصاعد النزاعات العسكرية والأمنية بين إيران وإسرائيل، وجدت أوروبا نفسها ملزمة بدعم إسرائيل، لا سيما ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، باعتبار تل أبيب حليفًا مهمًا فى منطقة الشرق الأوسط، ولضمان مصالحها الأمنية والاستراتيجية.
فى المقابل ازداد تأثير اللوبيات اليهودية القوية فى العواصم الأوروبية على صانعى القرار السياسى والإعلامى بعد عملية طوفان الأقصى، حيث مارست هذه اللوبيات ضغوطًا على الحكومات الأوروبية من أجل اتخاذ مواقف واضحة بشأن حماية المدنيين والدفاع عن إسرائيل. ونتيجة لذلك انتهجت أوروبا، تحت تأثير هذا اللوبى، سياسة تصعيدية تجاه إيران بذريعة مكافحة معاداة السامية.
ولذا لم يكن غريبًا أن يتهم رئيس وزراء أستراليا الحرس الثورى الإيرانى (IRGC) ، بالوقوف وراء هجمات معادية للسامية، مستخدمًا شبكة من الوسطاء والعناصر الإجرامية لتنفيذ العمليات وتغطية تورطه المباشر، الأمر الذى دفع العاصمة الأسترالية كانبيرا إلى تعليق العمل فى سفارتها بطهران وطرد السفير الإيرانى، إضافة إلى مناقشة إدراج الحرس الثورى الإيرانى كمنظمة إرهابية.
وقد أدى ذلك مباشرة إلى دورة جديدة من التوترات، إذ يرى الأوروبيون، وخصوصًا الألمان، والأستراليين والإيطاليين، أن دعم إسرائيل يمثل جزءًا من استراتيجيتهم فى السياسة الخارجية. وبفعل تأثير اللوبى اليهودى، تغير تصور السياسات الإيرانية ومحور المقاومة المدعوم منها، ليُعتبر تهديدًا لا يقتصر على الأمن القومى الأوروبى، بل يمتد ليُشكل تهديدًا عالميًا. وهذا ما جعل التوتر أكثر عمقًا وهيكلية.
كما أن هذه الإجراءات التصعيدية جعلت أى موقف يُعتبر متساهلًا مع إيران يُفسر فى الرأى العام والسياسى الأوروبى على أنه تجاهل لمخاطر معاداة السامية أو عدم دعم إسرائيل. وقد أدى ذلك إلى انتقادات سياسية واجتماعية داخل أوروبا. ومن ثم ترى أوروبا أن دعم إسرائيل يقلل من قدرة إيران على توسيع نفوذها العسكرى فى المنطقة، ويعزز فى الوقت نفسه حماية مصالحها الاستراتيجية.
مآلات الأزمة الدبلوماسية بين إيران والغرب:
تعززت النظرة السلبية تجاه طهران فى الرأى العام الأوروبى بعد احتجاجات مهسا أمينى عام 2022، حيث ضغطت منظمات المجتمع المدنى على الدول الأوروبية لإعادة النظر فى علاقاتها مع إيران. كما قدمت المعارضة الإيرانية داخل المؤسسات السياسية الأوروبية تحليلات معادية للقيادة الإيرانية، مما دفع أوروبا إلى تشديد التوتر وممارسة أقصى درجات الضغط.
إضافة إلى ذلك لعبت التحالفات الحاكمة -من الاشتراكيين إلى المحافظين واليمين- دورًا فى تحويل السياسة الخارجية الأوروبية من سياسات براجماتية إلى سياسات تضع القيم فى صدارة الأولويات. نتيجة لذلك باتت إيران ليست مجرد تهديد أمنى وعسكرى، بل تحديًا حقيقيًا للقيم والأيديولوجيا الأوروبية.
ونتيجة لذلك لم تُجدِ جهود التهدئة الدبلوماسية حين لجأت أوروبا عمدًا إلى المواجهة، لأن تصورها عن إيران تغير إلى دولة تهدد الأمن، والنظام العالمى، والمعايير التى تسعى أوروبا للحفاظ عليها. فى المقابل لم تهتم إيران كثيرًا بالتهدئة نتيجة تاريخ من التوتر وعدم التزامها الكامل بتعهداتها النووية بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووى عام 2018، مما أدى إلى فقدان الثقة واشتداد الشعور بالتهديد المتبادل.
من أجل هذا جرفت إيران أوراق المناورة نحو سياسة الرهان بالنار، إذ وجه أكثر من 70 نائبًا فى مجلس الشورى الإسلامى رسالة إلى المجلس الأعلى للأمن القومى ورؤساء السلطات الثلاث، طالبوا فيها بإعادة النظر فى العقيدة الدفاعية المتعلقة بالسلاح النووى. كانت هذه الرسالة مماثلة لرسالة العام الماضى، لكن عدد الموقعين ارتفع من 39 إلى 70. ووفقًا لتقرير صحيفة جماران الإيرانية، أكد النواب على ضرورة إعادة النظر فى العقيدة الدفاعية وفق فقه الإمامية، مشيرين إلى أن استخدام السلاح النووى يُعد خرقًا لفتوى قائد الثورة الإسلامية الصادرة عام 2009، بينما يختلف الأمر بالنسبة للتصنيع والاحتفاظ به لأغراض الردع.
من جهته أوضح الزعيم الإيرانى فى مقابلة متلفزة أن إيران لا تسعى إلى سلاح نووى، لكنها ستواصل تخصيب اليورانيوم باعتباره حقًا تقنيًا وسياديًا، وأن الحفاظ على هذه القدرة يُسهم عمليًا فى خلق عامل ردع يُصعب فرض الشروط والتهديدات عليه. هذا الخطاب الإعلامى يشى إلى اعتماد إيران على القدرة النووية كآلية ردع، مع إبقاء خيار الاستخدام ممكنًا فى حالات الخطر الوجودى، مما يضع البلاد على مسار سياسة حافة الهاوية النووية، حيث تصبح القدرة النووية الورقة الأبرز فى لعبة الرهان بالنار مع الغرب.
منحنى السياسات الإيرانية الرادعة تجاه المعسكر الغربى:
بعد استهداف الولايات المتحدة وإسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية، اتخذت طهران إجراءات سياسية متشددة لحماية برنامجيها الصاروخى والنووى، بدءًا من إحالة الملف النووى إلى المجلس الأعلى للأمن القومى، مرورًا بوقف التعاون الكامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتباحث حول تعديل العقيدة الدفاعية لتحويل البرنامج النووى من الاستخدام السلمى إلى الاستخدام العسكرى عند الضرورة.
وتجدر الإشارة إلى أن دستور الجمهورية الإسلامية (المادتان 4 و110) يربط القوانين والأوامر بولاية الفقيه، وفى نصوصه يُذكر البرنامج النووى دائمًا باعتباره لأغراض سلمية، لكن أى خروج صريح عن هذا الدستور يعنى الاعتراف بأن الضرورة قد تبرر الاستثناء. بينما فى المذهب الشيعى الإثنى عشرى، تعتبر فتوى الولى الفقيه ملزمة، وهى أعلى من أى نص آخر عمليًا، كونها تقدم باعتبارها تقدير مصلحة الأمة الإسلامية. وهذا ما يجعل الفتوى قابلة للتعليق أو حتى نقض نص دستورى إذا اعتبر أن البلاد أمام خطر وجودى.
ومع ذلك قد تثار تساؤلات حول تباين هذا التوجه مع تصريحات الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، التى أكد فيها أن بلاده لا ولن تسعى إلى تصنيع القنبلة النووية. لكن بيت القصيد فى هذا التباين المقصود، يعكس عقيدة الغموض المحسوب، حيث تسعى إيران إلى الإيحاء بأنها وصلت بالفعل إلى مستوى الخبرة النووية العسكرية، لكنها لا تزال تتبنى سياسة سلمية تؤمن بعالم خالٍ من الأسلحة النووية المدمرة، وفى الوقت نفسه ترسخ صورتها كدولة متمسكة بحقوقها أمام المجتمع الدولى.
ولهذا يُرجح أن إيران ستستمر فى تطوير برنامجيها النووى والصاروخى، وسد الثغرات فى مجال الردع الاستخباراتى والأمنى، مع تعزيز تحالفاتها الإقليمية والدولية، خصوصًا مع الصين، وروسيا، ومصر، ودول الخليج، إلى جانب الاستفادة من عضويتها فى تكتلات، مثل بريكس ومنظمة شنغهاى للتعاون، لتخفيف آثار العقوبات الاقتصادية ومنع تصويرها كدولة معزولة.
خاتمة:
مجمل القول، إن إعادة تفعيل العقوبات الأممية على إيران لم تكن مجرد خطوة إجرائية، بل إشارة سياسية واضحة إلى دخول المنطقة فى مرحلة صدامية جديدة تحمل ملامح مواجهة مركبة. أما رفض مجلس الأمن للمشروع الروسى-الصينى الداعى إلى تأجيل فرض العقوبات على إيران، فيؤكد سعى الغرب لفرض اتفاق جديد بعد انهيار اتفاق 2015، لكن هذا الخيار يدفع طهران إلى التشدد واعتماد سياسة حافة الهاوية النووية، بما يزيد من خطر الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، ما لم يُدرك الغرب أن الأزمة التى صنعها قد تبعده عن أهدافه بدلًا من أن تقربه منها.
وعليه يقف المشهد الدولى أمام مفترق طرق حاسم، إما الانحدار التدريجى نحو مواجهة قد تتخذ شكل حرب مركبة تستنزف جميع الأطراف، أو الوصول إلى تسوية جزئية على طاولة المفاوضات، بعد استنفاد أدوات الضغط وضيق هوامش المناورة لدى الجانبين، لتبقى كل الاحتمالات مفتوحة بين تسوية تبقى على التوازن، أو صدام يغير وجه المنطقة بالكامل.