تحليلات

قراءة نقدية تحليلية في خطاب ترامب الأممي..السلام المزعوم والفجوة بين الخطاب والسياسة

طباعة

فى 23 سبتمبر 2025، ألقى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خطابًا مطوّلًا أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك، استمر لأكثر من 65 دقيقة، وهو زمن يفوق بأضعاف المدة المألوفة التى لا تتجاوز عادةً 15 دقيقة لكل متحدث. وقد جاء الخطاب فى لحظة دولية بالغة الحساسية: تصاعد الحرب الروسية–الأوكرانية، وتفاقم الأزمة الإنسانية فى غزة، وتنامى التوترات حول قضايا الطاقة، والهجرة، والمناخ.

سعى ترامب فى كلمته إلى تقديم نفسه بصورة "صانع سلام" وقائد قادر على إعادة ترتيب أولويات النظام الدولى. وأطلق عدة ادعاءات مثيرة للجدل، أبرزها قوله إنه أنهى "سبع حروب كانت تستنزف العالم "خلال ولايته الثانية، وهو تصريح أثار جدلًا واسعًا بين المراقبين السياسيين ووسائل الإعلام، التى وصفت بعض هذه الادعاءات بأنها "مبالغ فيها" أو "تفتقر إلى التوثيق"، نظرًا لأن معظم هذه النزاعات لا تزال قائمة أو لم يكن للولايات المتحدة دور مباشر وحاسم فى تسويتها.

كما أعاد ترامب تأكيد موقفه الرافض للاعتراف بالدولة الفلسطينية، معتبرًا أن أى خطوة فى هذا الاتجاه ستكون "مكافأة لحماس". هذا الموقف جاء متناقضًا مع ما طرحه من نفسه كـ "صانع سلام"، خاصة فى ظل ما تشهده غزة من دمار واسع وسقوط آلاف الضحايا المدنيين.

فى المقابل انعقد على هامش أعمال الجمعية العامة اجتماع عربي-إسلامى موسّع بدعوة من قادة دول المنطقة، وأصدر بيانًا مشتركًا ركّز على وقف فورى لإطلاق النار فى غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية، ورفض التهجير القسرى، والتأكيد على حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم. هذا البيان مثّل رؤية مغايرة، بل مضادة، لرؤية ترامب، وأبرز الفجوة بين "السلام المزعوم" الذى يروّج له والرؤية الإقليمية التى ترتكز على العدالة وحقوق الشعوب.

بناءً على ذلك يطرح هذا المقال إشكالية مركزية: هل يعكس خطاب ترامب أمام الجمعية العامة مشروعًا حقيقيًا لصناعة السلام، أم إنه مجرد سلام دعائى يخفى وراءه أولويات داخلية وانتخابية، ويُهمّش مبادئ العدالة الدولية؟

الإطار الخطابى والسياسى:

جاء خطاب ترامب أمام الجمعية العامة بطابع استعراضى أكثر من كونه مؤسسيًا. فمنذ افتتاحه حاول أن يكسر رسمية البروتوكول الأممى عبر مزحة قال فيها "يبدو أن جهاز عرض النصوص قد تعطّل، وسأعتمد على ذاكرتى، وهو أمر يقلق بعض خصومى أكثر مما يقلقني".هذه السخرية لم تكن مجرد تفصيل عابر، بل هى جزء من أسلوبه المعتاد القائم على الدمج بين الطرافة والخطاب السياسى لجذب الانتباه، حتى وهو يتحدث من منصة يفترض أنها أكثر جدية.

فى مضمون خطابه سعى ترامب لتسويق صورة للولايات المتحدة باعتبارها تعيش "عصرها الذهبي". وقد عدّد إنجازات اقتصادية وسياسية أراد أن يجعلها دليلا على هذه الصورة، مثل انخفاض معدلات التضخم، وتراجع أسعار الوقود بفضل العودة إلى الطاقة التقليدية، وتوقيع ما سماه "اتفاقيات تجارية تاريخية" جاءت نتيجة سياسة الرسوم الجمركية التى فرضتها إدارته. هذا التصوير لا ينفصل عن شعاره الانتخابى "اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا"، حيث بدا واضحًا أن الخطاب يكرر روح الدعاية الانتخابية أكثر مما يقدم رؤية جديدة للمجتمع الدولى.

ورغم أن المناسبة أممية، إلا أن الخطاب بدا موجها بالأساس إلى الداخل الأمريكى. فبدلا من أن يعرض رؤية متكاملة لمعالجة الأزمات الدولية، انشغل ترامب بقضايا تهم قاعدته الانتخابية، مثل الهجرة والطاقة، وقدمها باعتبارها مفاتيح السلام العالمى. فقد قال مثلا "حين نحمى حدودنا فإننا نصنع السلام، وحين نستخدم مصادر طاقة تقليدية فإننا نضمن الاستقرار". مثل هذه التصريحات تكشف أن منبر الأمم المتحدة استُخدم كمنصة انتخابية أكثر من كونه فضاءً للحوار الدولى.

وإذا كان ترامب قد حاول أن يقدم نفسه كـ"صانع سلام"، فإن خطابه لم يتضمن أى خطة عملية أو مبادرة متماسكة لتحقيق هذا الهدف. اقتصر الأمر على شعارات عامة، مثل قوله: " السلام ممكن حين تكون هناك قيادة قوية"".لكن هذا النوع من العبارات الإنشائية، فى غياب آليات واضحة للتنفيذ، عزز الانطباع بأن الخطاب أقرب إلى عرض دعائى يهدف إلى ترسيخ صورته القيادية، لا إلى طرح مشروع متكامل لصناعة السلام.

فى المجمل، يعكس خطاب ترامب مزيجًا من المبالغة، والتبسيط، والاستقطاب، وهى سمات شعبوية متكررة فى أدائه السياسى. فقد بالغ فى تصوير إنجازاته، وبسّط القضايا الدولية المعقدة، وربط السلام بقضايا داخلية، مثل الهجرة والطاقة. وبذلك بدا خطابه فى الأمم المتحدة إعادة إنتاج لحملته الانتخابية، لكن بواجهة أممية لا تخفى الجوهر المحلى الضيق.

القضايا الدولية فى الخطاب:

من أبرز ما ميّز خطاب ترامب أمام الجمعية العامة هو ادعاؤه أنه نجح خلال ولايته الثانية فى "إنهاء سبع حروب" كانت، على حد وصفه، تستنزف العالم. فقد أشار إلى نزاع ناجورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، والتوترات بين صربيا وكوسوفو، والحرب الأهلية فى إقليم تيجراى بإثيوبيا، والأزمة المستمرة فى الكونغو الديمقراطية، والنزاع الأهلى فى جنوب السودان، وتصاعد العنف فى ميانمار، وأخيرًا الصراع الطائفى فى رواندا. غير أن هذا السرد جاء عامًا، إذ لم يوضح ترامب الكيفية التى لعبت بها الولايات المتحدة دورًا مباشرًا فى حل هذه النزاعات. ففى معظم الحالات لم تكن واشنطن طرفًا رئيسيًا فى المفاوضات، ولم تحقق تسويات نهائية أو مستدامة. لذلك اعتبر كثير من المراقبين أن ما قدمه ترامب أقرب إلى تضخيم دعائى، خاصة أن هذه النزاعات لا تزال قائمة أو قابلة للاشتعال فى أى لحظة.

أما الحرب الروسية–الأوكرانية، فقد تناولها ترامب بوصفها "الأكثر سهولة فى الحل". هذا الوصف أثار انتقادات واسعة، لأنه يتجاهل التعقيدات الجيوسياسية العميقة المرتبطة بالأمن الأوروبى، وموقع روسيا فى النظام الدولى، ومسألة الأراضى المتنازع عليها، مثل القرم والدونباس. تجاهل ترامب كذلك أثر العقوبات الاقتصادية على موازين القوى، ودور حلف الناتو فى الأزمة. لذلك بدا خطابه وكأنه يتعامل مع أزمة عالمية خطيرة بالمنطق نفسه الذى يخاطب به جمهوره الانتخابى: تبسيط مفرط، ووعود بحلول سريعة من دون تقديم رؤية واقعية أو أدوات دبلوماسية قابلة للتطبيق.

وفيما يخص غزة، مثّلت هذه القضية التناقض الأوضح بين الخطاب المعلن والسياسة الفعلية. فقد دعا ترامب إلى وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، لكنه فى الوقت نفسه رفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته، معتبرًا أن أى خطوة فى هذا الاتجاه ستكون "مكافأة لحماس". هذا الموقف أفرغ حديثه عن "السلام" من مضمونه، إذ تجاهل حقيقة أن النزاع الفلسطيني–الإسرائيلى لا يمكن أن يجد حلا من دون معالجة جوهرية لحقوق الفلسطينيين التى نصت عليها قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. كما تجاهل السياق الإنسانى المأساوى فى غزة، حيث يعيش المدنيون تحت القصف ونقص الغذاء والدواء، فى ظل دعوات دولية متصاعدة لوقف إطلاق النار. وفى المقابل، كان البيان العربي–الإسلامى الصادر على هامش الجمعية العامة أكثر وضوحًا، إذ طالب بوقف فورى للحرب، ورفض التهجير القسرى، والإسراع فى إعادة إعمار القطاع، والتأكيد على دعم القيادة الفلسطينية كمدخل لأى تسوية سياسية. هذا التباين كشف أن ما يطرحه ترامب ليس سوى "سلام مشروط" يخدم إسرائيل أولًا والولايات المتحدة ثانيًا، بعيدًا عن متطلبات العدالة الدولية.

كما تطرق ترامب فى خطابه إلى قضايا أخرى، مثل الهجرة والطاقة. فقد اعتبر أن فتح الحدود أمام المهاجرين يشكل تهديدًا وجوديًا لهوية الدول، قائلا:"حين تفقد الأمة حدودها، فإنها تفقد كيانها". كما انتقد السياسات البيئية المرتبطة بالطاقة المتجددة، محذرًا من أنها تجعل الدول "ضعيفة ومعتمدة على الآخرين"، داعيًا إلى العودة للاعتماد الكامل على النفط والغاز والفحم. إدخال هذه القضايا فى خطاب مخصص لمناقشة السلام العالمى يعكس مرة أخرى أن ترامب كان يخاطب ناخبيه أكثر مما يخاطب المجتمع الدولى، وأن اهتمامه انصب على إعادة إنتاج سردية "أمريكا أولًا" فى ثوب أممى.

الفجوة بين الخطاب والسياسة:

رغم أن ترامب حاول فى خطابه الأممى أن يقدّم نفسه كـ"رجل السلام"، فإن سياساته العملية تكشف عن فجوة واسعة بين ما يعلنه على المنصات الدولية وما يترجَم فعليًا على الأرض. ففى القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، دعا ترامب إلى وقف إطلاق النار فى غزة وإطلاق سراح الرهائن، لكنه رفض الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، معتبرا أن ذلك يشكل "مكافأة لحماس". هذا الموقف يعكس تناقضًا واضحًا: فهو يرفع شعار التهدئة، لكنه فى الوقت نفسه ينكر الحقوق الوطنية التى تُعد أساس أى سلام عادل. النتيجة أن خطابه بدا وكأنه دعوة إلى "سلام ناقص" يقوم على تثبيت الهيمنة الإسرائيلية بدلا من معالجة جذور النزاع.

أما فى الحرب الروسية–الأوكرانية، فقد اختصر ترامب الأزمة برمتها فى عبارة: "إنهاؤها سيكون الأمر الأسهل". لكن الواقع العملى يناقض هذا الطرح، إذ إن الأزمة تتداخل فيها عوامل معقدة تتعلق بالأمن الأوروبى، والتوازنات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، ومستقبل النظام الدولى نفسه. ورغم تأكيده على قدرته على إيقاف الحرب بسرعة، لم يقدّم ترامب أى خطة واضحة أو مبادرة عملية يمكن أن تشكل أساسًا لمفاوضات جدية. وبذلك بدا خطابه أقرب إلى استعراض إعلامى يستهدف تسجيل نقاط سياسية أمام الرأى العام، لا إلى مقاربة مسئولة لقضية تهدد الاستقرار العالمى.

حتى مفهوم السلام ذاته كما صاغه ترامب، كشف عن فجوة كبيرة بين الخطاب والواقع. فقد ربط السلام بقدرة الدول على حماية حدودها الداخلية، وباعتمادها على مصادر الطاقة التقليدية، وبالحد من الهجرة. هذا الفهم يُحوّل السلام من قيمة إنسانية كونية إلى أداة براجماتية تخدم الأمن القومى الأمريكى والمصالح الاقتصادية لقاعدته الانتخابية. النتيجة أن "سلام ترامب" ليس مشروعًا دوليًا يقوم على العدالة، بل شعار انتخابى يخلط بين الترويج الداخلى واستعراض القوة على الساحة العالمية.

إن هذا التناقض بين الخطاب الأممى والممارسة الواقعية يضعف من صدقية الدور الأمريكى فى النظام الدولى. فبينما يُفترض أن تكون الأمم المتحدة ساحة لتكريس التعاون الدولى، استغل ترامب منبرها لتسويق سردية "أمريكا أولًا" على حساب مبادئ القانون الدولى. وهكذا تحوّل خطابه إلى مجرد أداة دعائية فارغة من المضمون، تكشف محدودية الرؤية الأمريكية لصناعة سلام عادل ومستدام.

نقد مقاربة ترامب للسلام:

عند تحليل خطاب ترامب من زاوية نقدية، يتضح أن مقاربته للسلام ليست سوى إعادة إنتاج لنمط أمريكى قديم يقوم على الإملاءات بدلا من التفاوض المتكافئ، وعلى الانحياز الصارخ للمصالح الأمريكية والإسرائيلية من دون اكتراث حقيقى بالعدالة الدولية. فالسلام فى تصوره ليس عملية قائمة على الحقوق والشرعية، بل مشروع مشروط يفرض على الأطراف الضعيفة الانصياع لرغبات واشنطن مقابل وعود فضفاضة بالاستقرار والازدهار.

من منظور الواقعية فى نظريات العلاقات الدولية، يجسّد خطاب ترامب تركيزًا مفرطًا على القوة والمصلحة القومية. فقد ربط السلام بحماية الحدود الأمريكية، والسيطرة على مصادر الطاقة التقليدية، والحد من الهجرة غير الشرعية. فى هذه الرؤية يصبح السلام أداة لحماية الأمن القومى الأمريكى، وليس قيمة كونية تسعى لتعزيز السلم والأمن الدوليين. هذا المنظور البراجماتى يعكس جوهر الواقعية السياسية التى ترى أن النظام الدولى ساحة صراع مصالح، وأن الدول العظمى تفرض رؤيتها وفق توازنات القوة لا وفق القانون.

أما من منظور الليبرالية، فإن خطاب ترامب يمثل تراجعًا حادًا عن المبادئ الليبرالية التى طالما تبنّتها الولايات المتحدة فى خطاباتها الرسمية. فبدلا من تعزيز دور المؤسسات الدولية والاتفاقيات متعددة الأطراف، تجاهل ترامب تمامًا دور الأمم المتحدة وقراراتها، وحصر مفهوم السلام فى مقولات داخلية ضيقة. بل إنه ذهب أبعد من ذلك حين ربط الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الذى يُعتبر أحد أبرز مخرجات الشرعية الدولية، بكونه "مكافأة لحماس". هذا التوجه لا يتناقض فقط مع مبادئ الليبرالية الأممية، بل يفرغها من مضمونها ويعكس انسحابًا تدريجيًا من التعددية الدولية.

من الناحية التاريخية يظهر التناقض أكثر وضوحًا عند مقارنة خطاب ترامب بالمبادرة العربية للسلام (2002)، التى نصت على انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة عام 1967، وحل قضية اللاجئين وفق قرار الأمم المتحدة 194، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، مقابل تطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل. المبادرة العربية قدّمت إطارًا متوازنًا يجمع بين الأمن الإسرائيلى والحقوق الفلسطينية، لكنها لم تجد تجاوبًا أمريكيًا أو إسرائيليًا جادًا. وفى خطابه الأخير، تجاهل ترامب هذه المبادرة بالكامل، مؤكّدًا أن أى اعتراف بالدولة الفلسطينية ليس مطروحًا. بذلك فإن خطابه لا يشكّل قطيعة مع الماضى فحسب، بل يمثل تراجعًا حتى عن السقف الأدنى الذى قبلت به الأنظمة العربية منذ عقدين.

إن هذا النقد يكشف أن "السلام" فى خطاب ترامب ليس سوى شعار دعائى يهدف إلى تثبيت الهيمنة الأمريكية، وحماية إسرائيل، وتوظيف قضايا الأمن والهجرة والطاقة كأدوات لكسب الداخل الأمريكى. وبذلك فإن مقاربته للسلام تتناقض مع المبادئ الأساسية للنظام الدولى، وتضعف من ثقة الشعوب والدول فى قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الوسيط النزيه أو الشريك الموثوق فى تسوية النزاعات.

انعكاسات الخطاب على العالم العربى والإسلامى:

يُمثل خطاب ترامب أمام الجمعية العامة محطة مهمة لفهم كيفية تعاطى واشنطن مع قضايا المنطقة فى ظل استمرار الحرب على غزة وتداعياتها الإقليمية. فقد حمل الخطاب دلالات سلبية بالنسبة للعالمين العربى والإسلامى، إذ أعاد إنتاج نزعة أمريكية قديمة تسعى إلى فرض الحلول من موقع القوة، بعيدًا عن مبادئ العدالة والشرعية الدولية.

أول انعكاس مباشر يتمثل فى تآكل الثقة بالدور الأمريكى كوسيط فى الصراع الفلسطيني–الإسرائيلى. فحين يربط ترامب الاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتباره "مكافأة لحماس"، فإنه يُحوِّل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطينى إلى مسألة عقابية، متجاهلًا الإجماع الدولى والعربى على أن إقامة دولة فلسطينية شرط أساسى لتحقيق السلام. هذا الموقف ينسف الأسس التى قامت عليها مبادرات سابقة، مثل مؤتمر مدريد 1991، واتفاق أوسلو 1993، وحل الدولتين الذى تبنّته الأمم المتحدة.

ثانيًا- عمّق الخطاب الهوة بين الرؤية الأمريكية والرؤية العربية–الإسلامية للأمن الإقليمى. ففى حين ركّزت الدول العربية والإسلامية، عبر بيانها المشترك، على وقف فورى لإطلاق النار، ورفض التهجير القسرى، والتعجيل بإعادة إعمار غزة، كان خطاب ترامب مشغولًا بقضايا، مثل الهجرة والطاقة التقليدية، وهى ملفات داخلية بحتة بالنسبة للولايات المتحدة. هذا التناقض كشف أن ما يصفه ترامب بالسلام لا يتقاطع مع أولويات المنطقة، بل يخدم أجندة انتخابية داخلية.

ثالثًا- يمكن القول إن خطاب ترامب ساهم فى تقويض أى إمكانية لإطلاق عملية سلام حقيقية. فبدلًا من أن يطرح مبادرة شاملة تعالج جذور النزاع، قدّم خطابًا دعائيًا منحازًا لإسرائيل وموجّهًا إلى الداخل الأمريكى. هذه المقاربة عززت الأصوات داخل المنطقة التى ترى أن أى حل عادل لا يمكن أن يأتى من واشنطن، بل من خلال تحركات عربية–إسلامية مستقلة أو عبر أطر دولية بديلة، مثل الأمم المتحدة أو التكتلات الإقليمية.

رابعًا- كشف البيان العربي–الإسلامى الذى صدر على هامش أعمال الجمعية العامة عن تمايز واضح مع رؤية ترامب. فقد شدد القادة العرب والمسلمون على رفض التهجير القسرى باعتباره خطًا أحمر، وطالبوا بوقف إطلاق النار بشكل فورى، وأكدوا على دعم إصلاح السلطة الفلسطينية لتكون قادرة على قيادة المرحلة المقبلة. هذه البنود لم يتطرق إليها خطاب ترامب إطلاقًا، مما يعكس التباين الحاد بين الموقفين، ويؤكد أن "السلام المزعوم" الذى بشّر به لا يستجيب لمتطلبات المنطقة ولا لطموحات شعوبها.

خامسًا- من حيث التلقى الدولى، رأت بعض الصحف الأوروبية أن خطاب ترامب كان "أقرب إلى حملة انتخابية منه إلى مبادرة سلام"، فيما تجاهلت موسكو وبكين الخطاب تقريبًا، وهو ما يعكس محدودية تأثيره فى القوى الكبرى الأخرى. أما فى العالم العربى والإسلامى فقد تم استقبال الخطاب بنوع من الشك والرفض، خاصة فى ظل ما يُنظر إليه كاستمرار للانحياز الأمريكى التاريخى لإسرائيل.

وبناءً على هذه الانعكاسات يمكن القول إن خطاب ترامب لم يفتح الباب أمام أى مصالحة تاريخية، بل عمّق أزمة الثقة بين واشنطن والعالمين العربى والإسلامى، ورسّخ القناعة بأن مقاربة "السلام المزعوم" ليست سوى غطاء لمصالح داخلية وانتخابية أمريكية.

الخاتمة:

يكشف خطاب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 2025، عن فجوة واسعة بين الشعارات المعلنة والسياسات الواقعية. فرغم حرصه على تقديم نفسه كـ"صانع سلام"، فإن مضامين خطابه أظهرت أن السلام فى رؤيته ليس سوى أداة دعائية، تُستخدم لتعزيز صورته الانتخابية وتثبيت الهيمنة الأمريكية، أكثر مما هو مشروع عادل قائم على احترام القانون الدولى وحقوق الشعوب.

لقد بنى ترامب خطابه على ثلاثة محاور أساسية: الادعاء بإنهاء "سبع حروب"، التبشير بقدرته على حل الأزمة الأوكرانية "بسهولة"، والحديث عن غزة بلهجة مزدوجة تجمع بين الدعوة لوقف إطلاق النار وإنكار حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم. هذه المحاور الثلاثة، عند تفكيكها، تكشف عن سلام مشروط ومبتور: سلام يُفرغ الصراعات من جذورها التاريخية والسياسية، ويحوّل حقوق الشعوب إلى ملفات ثانوية تخضع لحسابات القوة والمصالح.

وفى المقابل قدّم الموقف العربي–الإسلامى المشترك على هامش أعمال الجمعية العامة طرحًا مغايرًا، يقوم على رفض التهجير القسرى، والمطالبة بوقف فورى لإطلاق النار، وإعادة إعمار غزة، ودعم إصلاح السلطة الفلسطينية. هذا التباين بين "السلام المزعوم" و"السلام العادل" يعكس تحوّلًا مهمًا: لم تعد المنطقة ترى فى واشنطن وسيطًا نزيهًا، بل طرفًا منحازًا يكرّس الانقسام بدل أن يسعى إلى رأب الصدع.

إن مستقبل السلام فى الشرق الأوسط لن يُبنى على خطابات دعائية أو صفقات جزئية، بل على معالجة جذرية لجوهر النزاع: الاحتلال، وحقوق الفلسطينيين، وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة. والسؤال المطروح اليوم: هل يستطيع العالم العربي–الإسلامى أن يصوغ مبادرات مستقلة للسلام، تعكس مصالحه وتستند إلى الشرعية الدولية، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية ومنطق "السلام المزعوم"؟ أم إن غياب مشروع بديل سيجعل خطابًا كهذا يواصل التأثير فى معادلات المنطقة؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل القضية الفلسطينية، بل أيضًا مكانة العالم العربى والإسلامى فى النظام الدولى، وقدرته على التحوّل من موقع المتلقى إلى موقع الفاعل فى صياغة مستقبل السلام العادل.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    د. محمد إبراهيم حسن فرج

    دكتوراه العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة