تحليلات

ماذا بعد قرار محكمة العدل الدولية بشأن الحرب على غزة؟

طباعة

أشارت محكمة العدل الدولية فى قرارها الصادر بتاريخ 26 يناير 2024 إلى ضرورة اتخاذ تدابير مؤقتة فى الدعوى التى رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل؛ حيث اتهمتها بانتهاك الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية التى صدقت عليها عام 1948، وكانت جنوب إفريقيا قد رفعت قضيتها ضد إسرائيل فى 29 ديسمبر الماضى بشأن ارتكابها انتهاكات لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين فى قطاع غزة. وطلبت جنوب إفريقيا من المحكمة إصدار تدابير مؤقتة لمنع وقوع مزيد من الضرر لحقوق الفلسطينيين وضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب الاتفاقية.

وعقدت المحكمة جلستين يومى 11 و12 يناير الماضيين للنظر فى الطلب الذى قدمته جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، وطلبت إلى المحكمة اتخاذ تدابير مؤقتة، ونظرت المحكمة فى الجلسة الأولى تلك "التدابير المؤقتة" التى طلبتها جنوب إفريقيا من المحكمة، وهى عبارة عن مجموعة من الأوامر تطلب جنوب إفريقيا أن تصدرها المحكمة قبل حكمها النهائى فى القضية، بهدف منع وقوع أضرار لا يمكن إصلاحها. وبموجب تلك التدابير تُلزم إسرائيل بالامتناع عن اتخاذ إجراءات معينة حتى تصدر المحكمة الحكم النهائى؛ حيث طلبت جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية الإشارة إلى تسعة تدابير مؤقتة فيما يتعلق بالشعب الفلسطينى بوصفه مجموعة محمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

التدابير الوقتية التى طلبتها دولة جنوب إفريقيا:

قرأ كاتب محكمة العدل الدولية فى بداية جلسة الاستماع العلنية الأولى التى عقدت يوم 11 يناير التدابير التسعة التى نلخصها فى النقاط التالية:

[أولا] على دولة إسرائيل أن تعلق فورا عملياتها العسكرية فى غزة وضدها.[ثانيا] على إسرائيل أن تضمن عدم اتخاذ أى خطوات تعزيزا لتلك العمليات العسكرية.[ثالثا] على كل من جمهورية جنوب إفريقيا ودولة إسرائيل، وفقا لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها- فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني- أن تتخذا جميع التدابير المعقولة التى فى حدود سلطاتهما من أجل منع الإبادة الجماعية.[رابعا] على دولة إسرائيل - وفقا لالتزاماتها بموجب الاتفاقية- أن تكف عن ارتكاب أى من الأفعال التى تدخل فى نطاق المادة الثانية من الاتفاقية، وعلى وجه الخصوص:(أ) قتل أعضاء من الجماعة.(ب) إلحاق أذى جسدى أو روحى خطير بأعضاء من الجماعة.(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادى كليا أو جزئيا.(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.[خامسا] على دولة إسرائيل، فيما يتعلق بالفلسطينيين، التوقف عن اتخاذ جميع التدابير، بما فى ذلك إلغاء الأوامر ذات الصلة والقيود و/أو المحظورات. كى تمنع:(أ) طردهم وتشريدهم قسرا من منازلهم؛ (ب) الحرمان من:[1] الحصول على الغذاء والماء الكافيين؛ [2] الوصول إلى المساعدات الإنسانية - بما فى ذلك الوقود الكافى والمأوى والملابس والنظافة والصرف الصحى؛ [3] الإمدادات والمساعدة الطبية؛ (ج) تدمير الحياة الفلسطينية فى غزة.[سادسا] على دولة إسرائيل، أن تضمن عدم ارتكاب أى أفعال موصوفة فى النقطتين (4) و(5) أو المشاركة فى التحريض المباشر والعلنى أو محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، أو التآمر أو التواطؤ فى ذلك.[سابعا] على دولة إسرائيل أن تتخذ تدابير فعالة لمنع إتلاف الأدلة المتعلقة بالادعاءات، وضمان الحفاظ عليها. وتحقيقا لهذه الغاية، يتعين ألا تعمل إسرائيل على منع أو تقييد وصول بعثات تقصى الحقائق والتفويضات الدولية والهيئات الأخرى إلى غزة.[ثامنا] يجب على إسرائيل أن تقدم تقريرا إلى المحكمة عن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا الأمر (بموجب التدابير المؤقتة) خلال أسبوع واحد، اعتبارا من تاريخ صدوره، وبعد ذلك على فترات منتظمة وفقا لما تأمر به المحكمة، حتى تصدر قرارها النهائى فى القضية.[تاسعا] على دولة إسرائيل أن تمتنع عن أى إجراء، وأن تضمن عدم اتخاذ أى إجراء قد يؤدى إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده، أو أن تجعل حله أكثر صعوبة.

محكمة العدل الدولية تصدر قرارا سريعا فى دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل:

جاء قرار المحكمة فى مدة زمنية بسيطة لم تتعد 15 يوما من يوم نظر الدعوى وقياسا بالكثير من الدعاوى التى رفعت أمامها فتعد تلك المدة أقصر مدة، ولا شك فى أن القرار السريع للمحكمة يعد اعترافا ضمنيا من المحكمة بتردى الوضع الإنسانى فى غزة، الأمر الذى يتطلب التدخل السريع لمواجهة القتل اليومى والتجويع الذى يحدث بمعدلات غير مسبوقة فى التاريخ الذى أودى بحياة أكثر من 26 ألف فلسطينى أغلبهم من النساء والأطفال، بالإضافة إلى تعدى المصابين 60 ألف مصاب، وهذا القرار يعد بمنزلة جرس إنذار للكيان الصهيونى والمتحالفين معه بخطورة الوضع، وضرورة الالتزام بالنظام العالمى القائم على سيادة القانون والالتزام بالاتفاقيات الدولية.

كلمة رئيسة المحكمة (الأمريكية الجنسية) فى الدعوى:

أكدت رئيسة المحكمة وهى تتحدث فى الدعوى بحق دولة جنوب إفريقيا فى مساءلة اسرائيل أمام المحكمة عما ترتكبه من جرائم إبادة جماعية، ورفض الطلب الإسرائيلى بعدم الاختصاص، وأضافت أن على إسرائيل اتخاذ جميع الإجراءات المنصوص عليها لمنع الإبادة الجماعية فى قطاع غزة، مؤكدة أن عليها أن تفعل ذلك فورا، وأضافت أن على إسرائيل أن ترفع تقريرا للمحكمة بشأن كل التدابير المؤقتة المفروضة خلال شهر، كما يجب عليها اتخاذ تدابير فورية لتحسين الوضع الإنسانى ولمنع التدمير فى قطاع غزة.وشددت على أن المحكمة تفرض التزامات قانونية دولية على إسرائيل، وأن عليها ضمان توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة فى قطاع غزة بشكل فورى. وقالت إن على إسرائيل التأكد من أن جيشها لا يرتكب انتهاكات إنسانية فى القطاع، وأن تضمن منع التحريض المباشر على الإبادة الجماعية.وقالت إن المحكمة لديها صلاحية للحكم بإجراءات طارئة فى قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، وإن الشروط متوافرة لفرض التدابير المؤقتة، وعدتها المحكمة قضية إبادة الجماعية ضد إسرائيل. وأوضحت أن المحكمة أخذت بعين الاعتبار تصريحات مسئولين إسرائيليين بشأن رفع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وأضافت أن المحكمة أخذت أيضا بعين الاعتبار البيانات الصادرة من المنظمات الإنسانية العاملة فى غزة ومنها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) عن تردى الأوضاع الإنسانية وإحباط السكان فى غزة، وما ورد من تعليقات وتأكيدات من بعض المنظمات الانسانية الدولية الأخري.

فرض تدابير وقتية على إسرائيل:

خلصت محكمة العدل الدولية فى قرارها إلى أنه من الضرورى تحديد بعض التدابير بغية حماية الحقوق التى طالبت بها جنوب إفريقيا التى وجدت المحكمة أنها معقولة، بما فى ذلك حق الفلسطينيين فى غزة فى الحماية من أعمال الإبادة الجماعية؛ حيث يفرض أمر المحكمة على إسرائيل منع تدمير الأدلة المرتبطة بالقضية والحرص على حفظها، وكذلك رفع تقرير حول تنفيذ التدابير التى انطوى عليها الأمر فى غضون شهر، وتنص التدابير الوقتية على:

أولا: على إسرائيل اتخاذ جميع التدابير اللازمة ضمن حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التى تدخل فى نطاق المادة الثانية من معاهدة منع الإبادة الجماعية، وبالأخص: قتل أفراد الجماعة (وهم الفلسطينيون فى غزة)، التسبب فى ضرر جسدى أو عقلى خطير لأعضاء المجموعة، التعمد فى فرض ظروف معيشية على الجماعة بقصد تدميرها المادى كليا أو جزئيا، فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة.

ثانيا: على إسرائيل أن تتأكد فورا من أن جيشها لا يرتكب أى إجراءات تندرج ضمن إطار الإبادة الجماعية.

ثالثا: على إسرائيل اتخاذ كل الإجراءات من أجل معاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة.

رابعا: على إسرائيل أن تتخذ إجراءات فورية لضمان توفير الاحتياجات الإنسانية والمساعدات الضرورية للفلسطينيين فى القطاع.

خامسا: على إسرائيل اتخاذ إجراءات فورية لمنع تدمير والتأكد من الحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

سادسا: على إسرائيل تقديم تقرير للمحكمة خلال شهر بشأن التدابير الفورية التى تتخذها، وأن تسلّمه أيضا لجنوب إفريقيا.

عدم صدور قرار بوقف إطلاق النار:

أشار البعض إلى أن المحكمة لم تصدر قرارا صريحا بوقف الحرب على الرغم من طلب جنوب إفريقيا تعليق إسرائيل فورا لعملياتها العسكرية ضد سكان غزة، وعدوا هذا القرار قرارا سياسيا وليس قرارا قانونيا.

ونرى أن قرار المحكمة بمنزلة التزام بوقف العدوان فهو يُلزم إسرائيل برفع الحصار الإنسانى ضد غزة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للقطاع بما فيها الغذاء والماء والعلاج، كما أن المحكمة قد أشارت إلى إلزام إسرائيل لجنودها بعدم القتل أو التحريض على ارتكاب الإبادة ومنع التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم ارتكاب إبادة الجماعية.ولا شك فى أن تنفيذ التدابير الوقتية لن يكون إلا بوقف العدوان الغاشم، كما أن قبول نظر الدعوى من قبل محكمة العدل الدولية واختصاصها وصلاحياتها فى نظر الدعوى يشكّل انتصارا لجنوب إفريقيا وتثبيتًا لحقها بمخاصمة إسرائيل فى تهم تتعلق بالإبادة الجماعية للفلسطينيين بوصفها إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة وأعلى هيئة قضائية دولية فى العالم. وكانت المحكمة قد أكدت فى عرض قرارها على اختصاصها فى النظر والبت فى هذه الدعوى القضائية، ووجدت أنه يحق لجنوب إفريقيا مساءلة إسرائيل بشأن عدم التزامها بقضية منع الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية جنيف، ورفضت المحكمة قبول طلب كانت إسرائيل قد تقدمت به لرفض النظر فى الدعوى القضائية المرفوعة ضدها، وأشارت المحكمة إلى سلطتها فى اتخاذ تدابير تحول دون وقوع أى ضرر أو خطر قائم، وبإمكانها إصدار حكم نهائى.

ختاما:

يعد قرار المحكمة ضربة قوية ضد مزاعم إسرائيل وحلفائها وانتصارا للإرادة الإنسانية وإشعارا لإسرائيل وحلفائها بضرورة اتخاذ إجراءات فورية لمنع الإبادة الجماعية والمزيد من الفظائع ضد الفلسطينيين فى غزة. وأن حياة الناس على المحك، وعلى تلك الحكومات أن تستخدم نفوذها لوقف الحرب بغية ضمان تنفيذ أمر المحكمة. هذا أقل ما يقتضيه حجم وخطورة معاناة المدنيين فى غزة من جراء جرائم الحرب الإسرائيلية، ويعد أمر المحكمة مُلزم قانونا لجميع الأطراف. مع أن جنوب إفريقيا طالبت بتدابير معينة أخرى فى الطلب الذى قدمته، ويسمح حكم المحكمة للقضاة بتحديد التدابير التى سيأمرون بها. وعلى المحكمة إرسال أمر التدابير المؤقتة تلقائيا إلى الجمعية العامة ومجلس الأمن التابعين لمنظمة الأمم المتحدة. وهذا القرار لا يمنع جنوب إفريقيا من طلب تدابير أخرى من شأنها وقف تلك الحرب، كما أنه يساعد الدول الأخرى على التداخل فى الدعوى ضد الكيان الصهيونى الغاشم.

وتنفصل هذه القضية عن القضية التى يجب أن ترفع أمام المحكمة الجنائية الدولية، فالقضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية ليست قضية ضد مرتكبين فرديين، ولا صلة لـ"المحكمة الجنائية الدولية" بها، فهى هيئة منفصلة. فالقضية هى نزاع قضائى "دولة ضد دولة" بين عضوين فى الأمم المتحدة، يخضعان للأحكام القانونية الواردة فى "ميثاق الأمم المتحدة" و"النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية" و"اتفاقية الإبادة الجماعية". ولكن المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية وإن سبق له إجراء العديد من التحقيقات بشأن الجرائم التى ترتكبها دولة الاحتلال ضد المدنيين فى غزة فإن إقامة الدعوى ضد القتلة فى إسرائيل مرهون برفعها من جانب مجلس الأمن. ونتمنى إحالة المجرمين من الكيان الصهيونى إلى المحكمة الجنائية الدولية لعقابهم عن الجرائم التى ارتكبوها ضد الشعب الفلسطينى الأعزل.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    لواء د. خالد مصطفى فهمى

    لواء د. خالد مصطفى فهمى

    أستاذ القانون بأكاديمية الشرطة والجامعات المصرية ورئيس قسم حقوق الإنسان بجامعة السلام