مقالات رأى

نقاد صندوق النقد

طباعة

لصندوق النقد الدولي، كأي مؤسسة عالمية مهمة، نقاد كثيرون أكثرهم لأسباب أيديولوجية سياسية يتعذر تقويمها بصورة تحليلية موضوعية.

أما من الناحية العلمية الاقتصادية فربما كان الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز أهم نقاد الصندوق من الاقتصاديين الغربيين.

ويعود سبب أخذ نقد هذا الاقتصادي مأخذ الجد لأسباب متعددة أهمها انه كان رئيس «المجلس الاقتصادي الوطني» في عهد الرئيس بيل كلينتون في الفترة من 1995 والى الشهر الثاني من عام 1997، وبعدها كان نائب رئيس البنك الدولي للشؤون الاقتصادية، ثم فاز مناصفة بجائزة نوبل في علم الاقتصاد عام 2001.

ويقال إن أهم دوافع نقده المستمر للصندوق هو خلافه العلني مع زميله الاقتصادي الآخر لاري سامر حينما كان سامر وزيراً للخزانة في إدارة كلينتون. وبصرف النظر عن دوافع ستيغليتز الذاتية، فالذي يهمنا هو مرتكزات وجهة نظره العلمية فقط.

ابتداء، يعتبر ستيغليتز، وهو خريج جامعة «ام. آي. تي» معقل الاقتصاديين الكينزيين (نسبة إلى عبقري علم الاقتصاد الانكليزي جون ميرند كينز) أهم المجددين لفكر كينز.

وتتلخص إضافته، والتي بسببها ظفر بجائزة نوبل، بأن فشل الأسواق الحرة في أدائها كما ينبغي أن تكون – أي حفظ التوازن بين كفتي المعروض والمطلوب آنياً وفي المستقبل – ليس حالة طارئة وفي حالات معدودة معروفة، كما كان يظن عامة الاقتصاديين من ذي قبل، وإنما هي ما صار الشائع المعتاد. ومع ان إضافة ستيغليتز هذه أتت على صورة نماذج رياضية معقدة تشبه ما تكون عليه نظريات الفيزياء، فإن أحد معانيها أن تعقد وسائل إنتاج ووسائل عرض ما يباع ويشترى في الأسواق الحرة في هذا العصر خلق تفاوتاً هائلاً بين ما يعرفه المنتج لسلعة أو خدمة (كالخدمات المالية التي لا يعرف عنها المُقَدّمَة له جزءاً يسيراً مما يعرفه مُقّدّمُها) خلق تشويهاً موضوعياً لقوى العرض والطلب آنياً والمتوقع عرضه أو طلبه في المستقبل.

ويعتقد ستيغليتز ان تشويه أسواق السلع والخدمات، يشمل ما يقدمه صندوق النقد الدولي من خدمات لأن أهم شروط الصندوق على الدول النامية التي يمنحها القروض، هو الالتزام بمبادئ الأسواق الحرة في سياساتها المالية والنقدية بعد حصولها على القروض.

ويضرب مثلاً بما فعله الصندوق، بما كان يسمى «نمور آسيا» حينما انفجرت فقاعة بالون أسواق أسهمها وسنداتها بعد ان طارت الى مستوى عالٍ تعذر عليها المحافظة عليه في عامي 1997 و 1998.

كانت أهم دول ما كان يُسمى في ذلك الوقت بنمور آسيا، هي هونغ كونغ، وسنغافورة، وتايوان، وكوريا الجنوبية. وسميت بالنمور لأن كلاً منها حقق نسبة نمو في المتوسط وصلت الى 7 في المئة في الفترة ما بين 1960 و 1990. وهي نسبة عالية جداً من النمو المضطرد، إذ إن نسبة 7 في المئة تعني مما تعني مضاعفة الناتج الكلي كل عشر سنوات.

وبما أن ما يتضاعف في كل عشر سنوات أكثر من سابقه، فقد تحولت هذه الدول الأربع من نامية فقيرة الى صناعية متقدمة غنية. وكان الصندوق قد منح هذه الدول الواعدة قروضاً تم استثمارها بكفاءة محلية عالية ساعدت على تصاعد نمو هذه الدول الأربع.

غير أن الكارثة المالية التي حلت بهذه الدول في 1997- 1998 لم تؤذها بالتساوي. فكانت كوريا الجنوبية وهونغ كونغ أشد المتضررين. ولذلك كان انقضاض هوامير المضاربين من جانب المنشآت المالية الغربية الكبرى أشد ضراوة على دولار هونغ كونغ وعملة كوريا الجنوبية الـ «وون».

فعندما يقتنع المضاربون بأن قيمة أية عملة صعبة (أي التي يمكن تحويلها الى عملات أخرى في الأسواق المالية العالمية من دون أية عوائق) ستهبط نسبة الى بقية العملات يتخلصون منها ببيعها بأسرع وقت ممكن. لكن، من أين يحصلون عليها أولاً ليتخلصوا منها؟

يحصلون عليها باقتراضها من البنوك التجارية في البلد الذي يرشحون عملته للهبوط إذا كانوا يرجحون ان هبوط العملة سيستمر بحيث يستطيعون اقتراضها بتكاليف القروض السائدة ثم يبيعونها بأسرع وقت ممكن بعد حيازتهم إياها. وبعد أن يتأكد هبوطها، يشترونها ثانية ليعيدوها الى من اقترضوها منهم بعد ان تهبط تكاليف شرائها بما فيها عمولة القروض وتكاليفها.

أي يقترضون منهم ويبيعون في وقت الحصول على العملة حينما حصلوا على ثمن أعلى نسبة الى العملات الأجنبية، ثم يشترون لاحقاً مبالغ القروض الاسمية مضافاً إليها الفوائد والتكاليف ويعيدونها إلى من منحهم القروض. كمن يستأجر منك حصاناً ويبيعه ثم يشتري الحصان نفسه بثمن أقل من ثمن البيع ثم يعيده اليك بعد هبوط قيمته. فيكون ربحه الفارق بين ما باعه به حينما كان ثمنه أعلى وثمن شرائه الحصان مرة أخرى بعد انخفاض قيمته مضافاً إليها قيمة الإيجار وتكاليف العناية بالحصان.

فماذا كانت نصيحة صندوق النقد لنمور آسيا التي انقض المضاربون على عملتها بعد أزمتها المالية في 1997 – 1998 فزادوا انخفاضها انخفاضاً؟

يزعم ستيغليتز ان الصندوق نصحهم بإخضاع أسواقهم المالية لقوى السوق الحرة من دون أي تدخل من السلطات النقدية المحلية. فبدلاً من نصحهم برفع مستويات الفوائد إلى مستويات متصاعدة إلى حد يجعل ما يرجى من ربح عند انخفاض قيمة العملات غير مجد بسبب مستوى تكاليف الاقتراض الباهظة. وبدلاً من منحهم قروضاً إضافية بالدولار الأميركي للدفاع عن قيمة عملاتهم، أوقف أية قروض جديدة إضافية. أي ان الصندوق نصحهم بترك أبواب الأسواق الحرة مفتوحة على كل مصاريعها ومن دون أي تدخل من السلطات النقدية المحلية ومن دون أية قروض إضافية من الصندوق، وكأن أسواق المال «حرة» تماماً لا يصيبها التشويه.

ستيغليتز كان ولا يزال يرى ان الأسواق المالية العالمية مشوهة تماماً ولا يخضع أداؤها لقوى المعروض والمطلوب آنياً ولا الى المتوقع عرضه وطلبه في المستقبل فقط. بل هي مشوهة الى درجة الفشل في رأيه ولا بد من تنظيمها ومراقبة أدائها من سلطات مركزية لحمايتها هي والآخرين من جشع سماسرتها ورؤسائهم. وما يفعله الصندوق في معاملاته مع الدول النامية الفقيرة لا يختلف كثيراً عما يفعله المقرضون في أسواق المال الحرة، ليس بسبب جشع سماسرة، وإنما بسبب نصائح الصندوق المضللة وفقاً لستيغليتز.

---------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية - الثلاثاء 10 يناير 2012.

طباعة

    تعريف الكاتب

    علي بن طلال الجهني

    علي بن طلال الجهني

    أكاديمي سعودي