مقالات رأى

الموقف الشعبى والإعلامى الإسرائيلى من وقف إطلاق النار فى غزة

طباعة

أدت حدة تصعيد حرب إسرائيل على غزة التى وصفت بالحرب غير الآدمية، والتى استخدمت فيها إسرائيل كل أدوات الحرب غير القانونية والإنسانية بالمرة، إلى انقلاب الرأى العام وتراجعه عن موقفه، لذلك تعرضت إسرائيل لضغوط دولية حثتها على البحث عن حل مؤقت بوقف إطلاق النار، وعقد هدنة متضمنة أيضا صفقة تبادل الأسرى، وأكد ذلك إعلان الحكومة الإسرائيلية رسميا التصديق على وقف مؤقت لإطلاق النار فى قطاع غزة بعد اجتماعين لمجلس الحرب والحكومة الموسعة، ويتضمن الاتفاق تبادل الأسرى مع حركة حماس.

شروط هدنة وقف إطلاق النار
عقدت إسرائيل وفلسطين هدنة لوقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، فى حضور كبرى الدول الغربية والعربية، دخلت هذه الهدنة حيز التنفيذ فجر يوم الجمعة الموافق 24 نوفمبر، وتضمنت الاتفاقية شروطاواضحة لكلا الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى، وستستمر الهدنة خمسة أيام، متضمنة تبادل الأسرى فيما بينهما، وتم تمديد عملية وقف إطلاق النار ثلاثة أيام أخرى.
فى السياق نفسه، أكدت صحيفة "نيويورك تايمز"، أن الهدنة تضمنت وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى من خلال الإفراج عن 50 رهينة مختطفين لدى حماس فى مقابل 150 سجينا فلسطينيا فى إسرائيل.
إضافة إلى أن هناك بعض التصريحات التى أكدت وقفا شاملا لإطلاق النار والأعمال القتالية، ووقف تحليق الطيران الإسرائيلى فى سماء قطاع غزة، باستثناء مناطق الشمال التى أعربت إسرائيل عن عدم التخلى عن المناوشات بشكل كامل، وتجلى ذلك من خلال تصريحها بأنها ستوقف الطيران الإسرائيلى من تحليقه فى سماء شمال غزة ربع يوم أى 6 ساعات فقط، وهذا ما يطلق عليه استراتيجية الحقنة المسكنة التى تتبعها السياسة الإسرائيلية.

موقف الداخل الإسرائيلى من وقف إطلاق النار
عكست اتفاقية وقف إطلاق النار تباينا كبيرا فى الآراء والمواقف فى الداخل الإسرائيلى، فهناك جزء من السكان يعارضون التسوية مع حركة حماس، ويرون أن أى اتفاق يمكن أن يؤدى إلى تعزيز قدراتها العسكرية، وزيادة التهديد على إسرائيل. فيما يرى جزء آخر أن التسوية السلمية هى الحل الأمثل لإنهاء دورة الصراع المستمر بين الجانبين.
كان لكلمات حماس أثر كبير فى إسرائيل وهو تخوفها الكبير مما يحدث عقب تنفيذ الهدنة وتبادل الأسرى؛ حيث أشارت حماس فى كلماتها التى أشعلت الخوف وعدم الطمأنينة والذعر فى قلوب الإسرائيليين، إلى أن الاتفاق سيمنح الفلسطينيين الوقت للتعافى بعد هجوم جوى وبرى إسرائيلى مكثف، وعقبت الحكومة بأن الحرب التى شنتها إسرائيل على غزة أسفرت عن مقتل أكثر من 14 ألف شخص. وقالت حماس فى تحذير لها: "إن أصابعنا لا تزال على الزناد، وسيبقى مقاتلونا المنتصرون متيقظين للدفاع عن شعبنا وهزيمة الاحتلال".
فى السياق نفسه، أدى التوتر الذى أصاب الإسرائيليين من عملية وقف إطلاق النار إلى أن مجموعة من القيادات، من بينهم وزير الدفاع، يوآف جالانت، أعربوا عن تخوفهم الشديد من عملية وقف إطلاق النار فى غزة خشية من حماس التى من الممكن أن تستغل هذه الهدنة لمصلحتها فى إعادة ترتيب صفوفها، واستمداد القوة مرة ثانية فى شن حرب أخرى مثلما حدث فى "طوفان الأقصى" الذى زلزل قلوبهم، وكسر شوكتهم، إضافة إلى تأكيد القيادات ووزير الدفاع الإسرائيلى السعى فى تأخير عملية وقف إطلاق النار، وذلك بسبب الخوف من أن يؤدى ذلك إلى إبطاء زخم الحملة العسكرية الإسرائيلية، وصرف الانتباه الدولى عن بقية المختطفين.

هل يصب قرار وقف إطلاق النار فى مصلحة إسرائيل؟
ما بين مؤيد ومعارض لعملية وقف إطلاق النار فى الداخل الإسرائيلى، يعرب بعض المراقبين عن موافقته وقبوله التام للهدنة، وبعضهم الآخر يعرب عن مدى استيائه ورفضه التام لهذه الهدنة ووقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وتجلى ذلك بوضوح فى هذا التقرير المستفيض فى عرض وجهات النظر المختلفة والتباين الواضح الشعبى والإعلامى والقيادى أيضا فى الداخل الإسرائيلى.
أعرب عن ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، مؤكدا أن حكومته تواجه قرارا صعبا وهو وقف إطلاق النار، ولكن وصفته بأنه القرار الصحيح لأن الاتفاقية نصت على تبادل الأسرى بين إسرائيل وفلسطين التى تمت على مراحل.
يتضح من ذلك التصريح أن هذه الصفقة لم تكن للصالح الفلسطينى فحسب، ولكن كانت فى المقام الأول لمصلحة إسرائيل، وظهر ذلك من خلال الحرب المروعة والمفزعة التى دفعت الغرب قبل العرب، إلى الضغط على إسرائيل لوقف حربها المروعة والمفزعة والمميتة على الشعب الفلسطينى، ولم تتوقف ولم تتراجع قط عن موقفها. لذلك، وافقت على الهدنة وهى متذبذبة الرأى على الرغم من مصلحتها فى رجوع الرهائن إلى ذويهم، وهى تعلم ماذا تفعل بعد ذلك، فلكل موقف وخطوة ترتيب قائم على سياسات تنفيذية، ومن المعروف أن إسرائيل لم تعلن موافقتها وقبولها لأى أمر إلا إذا كان يخدم مصلحتها.
 فى السياق نفسه، أشار نتنياهو إلى أن القيادات الأمنية تدعم القرار بالكامل .وأضاف فى تصريحه أن الصليب الأحمر سيزور الأسرى الذين لن يتم إطلاق سراحهم ويزودهم بالأدوية.
أكدت صحيفة "تايمز الأمريكية" أن مجموعة أخرى من القيادات الإسرائيلية، من بينهم رئيس الموساد، ديفيد بارنيا، يؤكدون المصلحة التى تحوزها إسرائيل من اتفاقية وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، مشيرين إلى أن "الصفقة أفضل من لا شىء، وأن الحملة العسكرية يمكن أن تستمر بعد وقف إطلاق النار القصير"، متبنين استراتيجية "اللى تكسب به العب به"، هكذا تفعل إسرائيل ضمن سياستها.

تباين الآراء داخل إسرائيل
تعددت المصادر من الداخل الإسرائيلى التى كشفت عن تردد قادة إسرائيل فى اتخاذ قرار الهدنة، ووُصف بالنزاع الذى دام أسبوعا بين القادة بشأن اتفاق الهدنة التى تضمنت وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
وتأكيد ذلك أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى أن الموافقة الإسرائيلية على هدنة وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، جاءت بعد "نزاع دام أسبوعا بين القادة المدنيين والعسكريين" فى البلاد.
يرجع هذا النزاع بين القادة الإسرائيليين إلى الخشية من أن تقوم حماس مرة أخرى، أى تسترد قوتها، وتعيد ترتيبها فى التصدى والهجوم مرة ثانية، وهكذا كانت مخاوفهم مثلما ذكرت الصحيفة، بالإضافة إلى خشيتهم من تعرض رهائنهم إلى الخطر.
أبدى القادة الإسرائيليون فى اجتماع لهم قبل تنفيذ هدنة وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى ، موافقتهم على هذه الهدنة وفقا لما ذكرته إسرائيل لتحقيق مرادهم، وهو أن الأهداف الرئيسية للحملة العسكرية هى "القضاء على حماس" وإعادة جميع الرهائن. وبالنسبة إلى العديد من الإسرائيليين، فإن كلا الهدفين "يخدمان هدفا واحدا يتمثل فى استعادة قدرة الدولة على حماية مواطنيها".

التأثيرات السياسية
تؤدى هذه التباينات فى المواقف دورا كبيرا فى صياغة سياسات الحكومة واتخاذ القرارات بشأن قضية وقف إطلاق النار فى غزة، فالضغط الشعبى والآراء المتضاربة يجعلان من الصعب على الحكومة اتخاذ قرار نهائى يلقى قبولا شاملا داخل المجتمع.
أبدى العديد من القادة والزعماء فى العالم ترحيبهم باتفاق وقف إطلاق النار، وشدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش على ضرورة بذل القادة الفلسطينيين والإسرائيليين الجهود من أجل بدء حوار جاد لمعالجة الأسباب الحقيقية للصراع.
عقب عقد هذه الاتفاقية بضغط من الأمم المتحدة وكثير من الدول الغربية والعربية بوقف إطلاق النار فى غزة، شهد الموقف الشعبى والإعلامى فى إسرائيل تحولات وتباينات بشأن هذا الوقف، وفى هذا التقرير يتم سرد الموقف من خلال الدلائل التى تنص على الموقف داخل إسرائيل.

بين التأييد والمعارضة.. الموقف الشعبى والإعلامى الإسرائيلى من وقف إطلاق النار
الموقف الشعبى: تظهر استطلاعات الرأى أن هناك انقساما واضحا داخل المجتمع الإسرائيلى بشأن موقفه من قبول وقف إطلاق النار فى غزة. هناك جزء من السكان يرون أنه يجب على إسرائيل أن تستمر فى استخدام القوة لحماية نفسها، فيما يرى آخرون أن التوصل إلى حل سلمى هو الأفضل لإحلال السلام والأمان.
أكدت الاستطلاعات بشأن وقف إطلاق النار فى غزة وضوح الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلى، فبحسب بعض الدراسات أظهرت أن نحو 40% من الإسرائيليين يرون أن حكومتهم كانت ضعيفة فى التعامل مع التصعيد مع غزة، فيما يؤيد نحو 50% منهم استمرار الضغط على حماس. فى المقابل، هناك جزء آخر يرون أن التصعيد لم يحقق أهدافه المعلنة، وأدى إلى خسائر كبيرة دون تحقيق نتائج فعالة.
 الموقف الإعلامى: تتضح التباينات أيضا فى وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ حيث تظهر آراء متضاربة بشأن قبول وقف إطلاق النار. بعض وسائل الإعلام تدعم استخدام القوة كوسيلة لحماية إسرائيل، فيما تتبنى أخرى موقفا أكثر سلميًة، وتؤكد أهمية التوصل إلى حل سلمى.
يتضح من هذا التباين بشأن وقف إطلاق النار، أن الحرب على غزة ستستمر، ولن تتم عملية وقف إطلاق النار بشكل نهائى. إضافة إلى ذلك عبَّر الساسة والقادة الإسرائيليون بفخر عن الخسائر البالغة التى لحقت بالشعب الفلسطينى وأطلقوا عليها "البنية التحتية الإرهابية"، حيث يرون أن حماس هى من شنت الحرب على إسرائيل، وأن الأرض المقدسة أرضهم، ومن حقهم الدفاع عنها وتهجير الفصائل الفلسطينية من أرضهم، وهذا حقهم كما يزعمون، ويؤكدون أن دمار مبانى الفلسطينيين واضح وضوح الشمس، وبذلك يعكسون الرؤية إلى شعبهم الإسرائيلى بأنهم منتصرون، ولا داعى لأى انقسامات داخل شعبهم؛ لأنهم يعلمون جيدا أن وقف إطلاق النار مؤقت، وأن حربهم فى فلسطين ستستمر حتى تحقق مرادها وهدفها من الإبادة الجماعية، وحربها غير الإنسانية المستمرة فى غزة.
أعربت صحيفة "تايمز" عن موقفها الملم بجميع الشئون الإسرائيلية، قائلة إنه من المتوقع أن يستمر القتال فى قطاع غزة؛ حتى بعد عقد الاتفاق على وقف إطلاق النار وعملية تبادل الأسرى.

إسرائيل وسياسة الحقنة المسكنة
أكدت إسرائيل الثبات على موقفها الذى كانت عليه قبل طوفان الأقصى والذى دفعهم إلى شن حرب غير إنسانية أطلقت عليها حرب الإبادة الجماعية، وتجلى ذلك من خلال الصور ولقطات الفيديوهات المروعة التى نشرت على السوشيال ميديا، موضحة ما تقوم به إسرائيل فى حربها على غزة، وهذا الموقف هو أن الحال يبقى فى فلسطين كما هو عليه من قبل شن إسرائيل حربها على غزة. وهو ردود أفعال الإسرائيليين المعتادة تجاه الفلسطنيين، وما كانت تفعله من قبل الحرب ستظل تسير عليه خلال فترة الهدنة.
توعدت الحكومة الإسرائيلية أن تستكمل حربها للقضاء على حماس وإعادة بقية الرهائن البالغ عددهم أكثر من 200 رهينة اختطفوا خلال هجوم حماس عبر الحدود على جنوب إسرائيل فى السابع من أكتوبر، وأدى إلى مقتل 1200 شخص، بحسب الحكومة الإسرائيلية.
فضلا عن ذلك، أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ثبات موقفه قبل شن حربه على غزة، والبقاء على وتيرة البقاء السياسى فى معركته التى يخوضها قبل حربه مع حماس، وستظل مستمرة إلى أن يشاء الله.
يعتقد نتنياهو أن كل ما فعله سيكون طوق نجاة له مما يلحق به من انقلاب شعبه عليه واتهامه بالفساد، وأنه لن يستحق الثقة مرة ثانية، كذلك يندد الشعب الإسرائيلى بإقالة نتنياهو ورميه بالسجن مثلما فُعل بـ"إيهود أولمرت".
يظهر ذك الأمر التوتر الداخلى الذى يعيشه الشعب الإسرائيلى، وكما هو معلوم فإن الإسرائيلى يخشى على نفسه، ولا يمتلك أى قوة داخلية، وليست لديه عقيدة راسخة يحارب من أجلها، متوارٍ دائما خلف بندقيته وسلاحه ودبابته، ليست لديه القدرة على مواجهة صراع داخلى فى نفسه؛ لأنه يخشى دائما الموت والألم، لذلك ما تعرضوا له فى "طوفان الأقصى" زلزل صفوفهم وكيانهم ونفسياتهم، وباتوا يعيشون فى كنف الخوف من الموت والدمار، لذلك ينددون بمعاقبة نتنياهو على ما تم، وأنه على وشك خسارة منصبه.

 إسرائيل.. الصراع لم يحل بعد
صرحت إسرائيل بأن وقف إطلاق النار يعد بمنزلة هدنة، كما حدث فى جولات سابقة من الصراع بين إسرائيل وحماس، فالصراع لم يتوقف إطلاقا، ولم يتجمد، وسيستمر وقف إطلاق النار حتى تتعرض إسرائيل لنسيم أو هفوة من تراب الفلسطينيين ذاتهم، ستقيم نفسها وستوجه أسلحتها لحرب جديدة. قد تكون هذه الهفوة صاروخا يُطلق من غزة، أو العنف الطبيعى المعتاد الذى تقوم به الشرطة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين فى القدس، أو ربما يأتى العدوان مرة ثانية، ويكون نواة لاندلاع الحرب من جديد فى شكل دعوى قضائية يقيمها مجموعة من المستوطنين الإسرائيليين لطرد الفلسطينيين من منازلهم.
لا يخفى من المشهد ما كان يحدث وسيظل يحدث على أرض فلسطين، وهو محاولة طرد الأسر الفلسطينية من منازلها ومنحها لمستوطنين يهود، فكانت سببا فى اندلاع أعمال العنف فى القدس فى الأساس، وبذرة لنشوب حربها على الفلسطينيين وتهجيرهم من منازلهم، وقتلهم وسلب حياتهم جميعا.
 تمتلك إسرائيل ورقة ضغط على الفلسطينيين حتى تقوم بعملية وقف إطلاق النار، وتنص على أنه يجب تسليم جميع الرهائن والأسرى الإسرائيليين حتى تنفذ وقف إطلاق النار.
أكد ذلك نتنياهو فى تصريح له يوم الجمعة 24 نوفمبر قائلا: إن حكومته تعارض أى وقف لإطلاق النار فى غزة، ما لم تطلق حماس سراح جميع الرهائن المحتجزين عندها. بالإضافة إلى تأكيده عدم دخول الوقود قطاع غزة، ورفضه تحويل أى أموال إلى الشعب الفلسطينى، إلا بعد تسلم جميع الرهائن.
يتضح من ذلك أن الحرب على أهل غزة لم تتوقف حتى بشكل مؤقت، وأنها لا تزال مستمرة فى عدوانها الغاشم والهدم الكامل لجميع مقومات الحياة فيها.

طباعة

    تعريف الكاتب

    نادية العناني

    نادية العناني

    باحثة دكتوراه فى الإعلام - جامعة المنصورة