تحليلات

تباين مواقف الشعوب والحكومات الأوروبية تجاه الحرب على غزة

طباعة

تشهد العديد من الدول الأوروبية تظاهرات كبيرة يشارك فيها آلاف المواطنين احتجاجا على الأعمال الوحشية التى تقوم بها إسرائيل فى حق المدنيين الفلسطينيين بقطاع غزة. وفى المقابل، اتسمت المواقف الحكومية المعلنة للدول الغربية وكذلك منظمات حقوقية مثل هيومان رايتس ووتش بقدر كبير من المغالطة والقفز على الحقائق. تعلن العديد من الحكومات الأوروبية صراحة موقفها الداعم لإسرائيل وحقها فى الدفاع عن نفسها مع إغفال العديد من النقاط المتعلقة بالقضية الفلسطينية مثل المجازر التى تقوم بها إسرائيل فى قطاع غزة، والتجاوز عن أصل الأزمة الحالية وجذورها التاريخية المتمثلة فى استمرار الاحتلال الإسرائيلى غير القانونى للأراضى الفلسطينية، وإغفال المعاناة التاريخية للشعب الفلسطينى المحاصر فى غزة، وعدم التطرق لاستمرار عدوان إسرائيل على الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة وبناء المستوطنات غير القانونية، والتغافل عن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على المقدسات العربية فى القدس الشرقية، وعدم التعرض للمأساة المستمرة للأسرى الفلسطينيين القابعين فى سجون إسرائيل. إن تجاوز الحكومات الغربية لكل هذه النقاط الجوهرية يفرغ القضية الفلسطينية من محتواها(1).

موقف الحكومات الأوروبية من أحداث غزة:

تماثل موقف العديد من الحكومات الأوروبية مع الموقف الأمريكى الداعم لإسرائيل، كما اتفقا على إدانة حماس، وأن ما قامت به يعد "أعمالا إرهابية". وعلى غرار الولايات المتحدة الأمريكية، غض الاتحاد الأوروبى نظره عن عمليات القصف الجوى الإسرائيلى التى تستهدف آلاف المدنيين. يتخوف الاتحاد الأوروبى من تصدير هذه الأزمة إلى دول الاتحاد وتدفق اللاجئين والمهاجرين إليهم. صرحت الخبيرة الأمريكية المختصة فى الشئون الأمنية والاستراتيجية "إيرينا تسوكرمان" أن الغرب شعر بالرعب إلى حد كبير من وحشية هجوم حماس، ويتفقون فى الغالب على أن لإسرائيل الحق فى الدفاع عن نفسها بصورة أو بأخرى. وأوضحت "تسوكرمان" أن بعض الدول مثل الولايات المتحدة تعتقد أنه سيكون إيجابيا للمنطقة إذا تم وضع حد لتنظيم حماس داخل قطاع غزة. رغم حرص عدد من الدول الأوروبية على إظهار دعم مطلق لإسرائيل فى حربها على قطاع غزة، فإن دول الاتحاد الأوروبى لا تزال عاجزة عن الخروج بموقف موحد من هذه الأزمة . (2)

اتسم رد فعل أوروبا على الصراع بين إسرائيل وحماس بكونه فوضويا، ففى أعقاب قيام حماس بعملية "طوفان الأقصى" فى ٧ أكتوبر، أعلن مفوض الاتحاد الأوروبى لشئون التوسيع، "أوليفير فارهيلي"، أن الاتحاد الأوروبى سيقطع مساعداته للسلطة الفلسطينية، ما أثار خلافا مع المفوضين الآخرين وسخطا عاما من قبل الدول الأعضاء. وفى أعقاب ذلك، علقت عدد من الدول الكبرى برامج مساعداتها التنموية للسلطة الفلسطينية والمجتمع المدنى الفلسطينى وهيئات الأمم المتحدة الإغاثية الموجهة للأراضى الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة، حيث علّقت الدنمارك ١٣ مليون دولار، والسويد ٥ ملايين دولار، وألمانيا ١٣١ مليون دولار، والنمسا ٢٠ مليون دولار، كما شرعت المملكة المتحدة فى مراجعة برامجها التنموية دون تعليق مدفوعاتها، كما أشار الاتحاد الأوروبى إلى أن مساعداته التنموية المستمرة ستخضع لمراجعة لتجنّب أى دعم حتى غير مباشر لحماس (3).

هناك تباين فى وجهات النظر بين الدول الأوروبية؛ حيث تظهر عدد من الدول دعمها الكامل لإسرائيل مثل بريطانيا وفرنسا، ودول أخرى قليلة توجه انتقادات لاذعة لإسرائيل وتدين أعمالها الوحشية فى فلسطين مثل إسبانيا. وبالنظر إلى الاتحاد الأوروبى نفسه، ظهر التباين الواضح بين رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين"، الداعمة بقوة لإسرائيل من جانب، وبين الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبى للشئون الخارجية "جوزيب بوريل"، المعروف بنبرته المنتقدة للاحتلال، حتى قبل الأحداث الأخيرة، من جانب آخر.ورأى رئيس المجلس الأوروبى "شارل ميشيل" أن استهداف البنية التحتية المدنية فى غزة يشكل انتهاكا للقانون الدولى. وكتب منسق الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبى "جوزيب بوريل" فى وقت لاحق على وسائل التواصل الاجتماعى أن "الأخبار الواردة من المستشفى الأهلى العربى المعمدانى فى غزة تضيف الرعب إلى المأساة التى تتكشف أمام أعيننا منذ أيام"(4).

أصدر كل من الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون"، والمستشار الألمانى "أولاف شولتز"، ورئيسة الوزراء الإيطالية "جورجيا ميلوني"، ورئيس الوزراء البريطانى "ريشى سوناك"، والرئيس الأمريكى "جو بايدن"، بيانا مشتركا أعربوا فيه دعمهم الثابت لإسرائيل وإدانتهم لحركة حماس وأعمالها الإرهابية. وأجمعوا أنه لا يوجد مبرر ولا شرعية للأعمال الإرهابية التى تقوم بها "حماس" ويجب إدانتها عالميا. كما أدانوا ما قامت به حماس من ذبح عائلات فى منازلها وأكثر من مئتين من الشباب الذين كانوا يستمتعون بمهرجان موسيقى واختطفوا نساء مسنات وأطفالا وأسرا بأكملها واحتجزوهم كرهائن، لذلك أعلن هؤلاء القادة دعم دولهم لإسرائيل فى جهودها للدفاع عن نفسها وشعبها ضد الفظائع المماثلة. كما أعربوا عن دعمهم للشعب الفلسطينى وقيم العدالة والحرية للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، مع تأكيد الحاجة للحفاظ على قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها. وصرح قادة هذه الدول الأوروبية أنهم سيبقون متحدين وسيواصلون التنسيق كحلفاء وكأصدقاء مشتركين لإسرائيل، وذلك لضمان أن تتمتع إسرائيل بقدرة الدفاع عن نفسها، ولتهيئة الظروف للمزيد من السلام والتكامل فى منطقة الشرق الأوسط فى نهاية المطاف.(5)

بالنظر إلى الحكومة البريطانية، فقد كان هناك اتفاق كبير حول دعم إسرائيل، حتى إنه لم يكن هناك تباين بارز بين موقفى الحزبين الأساسيين: المحافظين والعمال. صرح زعيم حزب المحافظين "ريشى سوناك"، رئيس الوزراء البريطانى أيضا، أن إسرائيل عانت من "هجوم" وصفه "بالإرهابى والوحشى الصادم". وأضاف أن حماس مسئولة عن هذا الصراع ولإسرائيل الحق فى حماية نفسها بما يتماشى مع القانون الدولى، ثم قال إنهم يجب أن يقوموا بدعم الشعب الفلسطينى، الذى يعد ضحية حماس التى تستخدم الأبرياء كدروع بشرية. ويتفق ما قاله "سوناك" مع البيان الذى ألقاه زعيم حزب العمال "كير ستارمر" أمام مجلس العموم، حيث قال إن اليوم الذى وقع فيه هجوم حماس "الوحشى" هو أحلك يوم فى التاريخ اليهودى منذ المحرقة، وأضاف أن حماس تريد الحرب وتريد أن يعانى اليهود، وصرح أنهم يقفون مع إسرائيل وحقها فى الدفاع عن نفسها فى مواجهة حماس. هناك إجماع واضح بين زعيمى حزب المحافظين والعمال حول وصف هجوم حماس بالوحشى، والوقوف إلى جانب إسرائيل، وحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، كما أنهما لم يشيرا إلى "وقف إطلاق النار" فى خطابتهما (6).

صرحت الحكومة البريطانية أنها ستعمل على تأمين إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة ومنع التصعيد الإقليمى، والتقى كل من رئيس الوزراء ووزير الخارجية أيضا قادةً فى الشرق الأوسط لمناقشة الصراع والمساعدات الإنسانية وإمكانية وصولها وتهدئة التصعيد الإقليمى وإطلاق سراح الرهائن.وعلى الرغم من عدم ذكر الحكومة البريطانية عبارة "وقف إطلاق النار" فى بداية الأزمة، فإن الحكومة البريطانية، تماشيا مع الموقف الأمريكى، صرحت أنه قد تكون هناك حاجة إلى "وقف إنسانى مؤقت" للقتال من أجل توصيل المساعدات وإطلاق سراح الرهائن. وهذا هو أيضا موقف حزب العمال، فيما دعا الحزب الوطنى الأسكتلندى إلى وقف إطلاق النار (7).

وبالنظر إلى موقف الحكومتين الفرنسية والألمانية، فقد أعلن الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون" أنه يستنكر بشدة الهجمات على إسرائيل، ووصفها بالإرهابية. وكتب على منصة إكس (تويتر سابقا) "أعبر عن تضامنى الكامل مع الضحايا وعائلاتهم والمقربين منهم". من جانبه، وصف المستشار الألمانى "أولاف شولتس" أن الأخبار التى تلقاها عما حدث فى إسرائيل هى "أخبار مروعة"، كما نددت ألمانيا بالهجمات التى شنتها حماس، وأعلنت أنها تقف إلى جانب إسرائيل. وأكد رئيس الوزراء الكندى "جاستن ترودو" على منصة إكس أن بلاده تندد بشدة الهجمات الإرهابية على إسرائيل، كما أكد أن أفعال العنف هذه غير مقبولة تماما، كما أعلن دعم بلاده لإسرائيل وحقها فى الدفاع عن نفسها. بحسب بيان صادر عن مكتب "ماكرون"، أكد القادة مجددا حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها فى إطار القانون الدولى وأهمية إيجاد طريقة لإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس.وتم تأكيد أن حل الدولتين، والذى يتصور إقامة دولتين مستقلتين للإسرائيليين والفلسطينيين، هو أفضل وسيلة لتحقيق السلام (8).

موقف الشعوب الأوروبية من الحرب في غزة:

تشهد العديد من الدول الأوروبية تظاهرات يشارك فيها الآلاف احتجاجا على الأعمال الوحشية التى تقوم بها إسرائيل فى حق المدنيين الفلسطينيين. فقد تظاهر قرابة ١١ ألف شخص فى وسط فيينا للتنديد بالجرائم والقمع فى فلسطين. وفى هولندا، تظاهر فى أمستردام قرابة ثلاثة آلاف شخص رفع العديد منهم أعلاما فلسطينية وأعلام دول فى الشرق الأوسط وعلت الهتافات التى تنادى بتحرير فلسطين. وفى ستوكهولم، تظاهر قرابة ألف شخص بهدوء رافعين لافتات كُتب عليها "قاوموا من أجل السلام" و"محرقة اليهود لا تبرر محرقة أخرى". وشارك مئات الأشخاص فى تظاهرة مؤيدة لإسرائيل بعد ظهر الأحد أمام سفارة إسرائيل فى لندن، كما شارك عشرات المؤيدين للفلسطينيين فى تظاهرة مضادة لمدة ساعتين، إلا أن قوات الأمن أبقتهم على مسافة تفاديا لوقوع حوادث دون أن يتم توقيف أى شخص.وفى العاصمة النمساوية فيينا، خرج متظاهرون للشوارع مطالبين بوقف إطلاق النار، مؤكدين دعمهم للفلسطينيين، وانطلقت الاحتجاجات فى عدة مدن بريطانية للمطالبة بوقف إطلاق النار. وتظاهر فى بلفاست بأيرلندا المئات للتنديد بالمجازر المروعة أمام السفارة الأمريكية هناك. واحتشد فى باريس، التى تؤيد سياسات تل أبيب، المئات من المتظاهرين للمطالبة بفرض وقف فورى لإطلاق النار فى غزة، وللتنديد بجرائم الاحتلال الإسرائيلى المستمرة ضد المدنيين الأبرياء فى قطاع غزة، وهتف بعضهم "إسرائيل قاتلة". وهتف المتظاهرون، الذين حمل العديد منهم الأعلام الفلسطينية، "فلسطين ستعيش، فلسطين ستنتصر". كما استهدف المتظاهرون الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون"، وهتفوا "ماكرون شريك". عكست هذه المسيرات القلق المتزايد بشأن تزايد عدد الضحايا المدنيين والمعاناة الناجمة عن الحرب بين إسرائيل وحماس. وأعرب المتظاهرون، وخاصة فى البلدان التى تضم أعدادا كبيرة من المسلمين، بما فى ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، عن خيبة أملهم من حكوماتهم لدعم إسرائيل بينما كثفت قصفها للمستشفيات والمناطق السكنية فى قطاع غزة(9).

كثفت الشعوب فى جميع أنحاء أوروبا مبادراتها التضامنية مع الشعب الفلسطينى، مع استمرار قصف إسرائيل لغزة لأكثر من شهر دون أى توقف، وأدانت دعم الدول الأوروبية لجرائم الحرب التى يرتكبها نظام الفصل العنصرى فى إسرائيل. ونظمت مسيرات تضامنية حاشدة فى جميع أنحاء المملكة المتحدة شارك فيها أكثر من مائة ألف شخص. كما جرت عمليات تعبئة أيضا فى مدن دبلن وأمستردام وبروكسل وأثينا ومدريد وأوسلو ولشبونة، وفى المدن الكبرى فى جميع أنحاء إيطاليا والسويد. أثار قصف وقتل ما لا يقل عن 500 شخص فى المستشفى الأهلى العربى على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية فى وسط غزة فى وقت متأخر من يوم ١٧ أكتوبر، غضبا واسع النطاق بين الناس وتم الدعوة إلى مزيد من التحركات فى جميع أنحاء أوروبا للمطالبة بوقف فورى لإطلاق النار(10).

إن المجتمعات الأوروبية منقسمة بشدة حول المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية؛ حيث بلغت التعبيرات عن معاداة السامية وكراهية الإسلام مستويات غير مسبوقة. تدعم الحكومات والأحزاب وقطاعات المجتمع ذات الميول اليمينية الرد العسكرى الإسرائيلى فى غزة دون قيد أو شرط، مما يصدق على الرواية الإسرائيلية القائلة بأن ما حدث فى ٧ أكتوبر فى إسرائيل يمكن أن يحدث فى المجتمعات الأوروبية، ومن ثم محو الصراع الإسرائيلى الفلسطينى تماما من المعادلة. لقد تم تصوير هجوم حماس وكأنه نتاج للتطرف الإسلامى والإرهاب، على نحو أشبه بالهجمات الإرهابية التى شهدتها أوروبا والولايات المتحدة فى الأعوام الماضية.وعلى الجانب الآخر، دعمت الجماعات ذات الميول اليسارية وكذلك مجتمعات المهاجرين القضية الفلسطينية دون قيد أو شرط، ورأت أن ما فعلته حماس يعد من أعمال المقاومة ضد إسرائيل. وقد ذهبت الحكومات التى كانت فى حيرة من أمرها بشأن ما يجب فعله، إلى حد حظر المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين فى تقييد غير مسبوق للحريات الديمقراطية (11).

تعامل الحكومات الأوروبية مع التظاهرات المدنية المؤيدة لفلسطين:

اتسمت ردود أفعال الحكومات الأوروبية تجاه بعض التظاهرات التى قام بها المواطنين لدعم فلسطين بالحدة الشديدة؛ حيث تم تقييد ممارسة حريات الرأى والتعبير والتجمع السلمى. خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين إلى الشوارع فى مدن مثل باريس وبرلين وروما ومدريد للاحتجاج على القصف الانتقامى للحكومة الإسرائيلية على غزة. لكن التوترات تصاعدت بشكل خاص فى فرنسا وألمانيا، موطن أكبر جاليتين يهودية ومسلمة فى الاتحاد الأوروبى. فقد أمر وزير الداخلية الفرنسى السلطات المحلية بحظر جميع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين وسط تصاعد أعمال العنف التى تقوم بها إسرائيل، كما حث الرئيس "إيمانويل ماكرون" الشعب الفرنسى على عدم السماح للحرب فى الشرق الأوسط بأن تؤدى إلى توترات فى الداخل، وأيد المسئولون الفرنسيون إظهار التضامن مع إسرائيل بعد هجمات حماس، وتمت إضاءة برج إيفل بنجمة داود  (12).

ولقد استخدمت شرطة باريس الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين المؤيدين لفلسطين الذين تحدوا الحظر وتظاهروا ضد الحكومة الإسرائيلية. كتب وزير الداخلية "جيرالد دارمانين" أنه يجب حظر التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين لأنها من المحتمل أن تؤدى إلى اضطرابات فى النظام العام. كما شرعت فرنسا فى حظر العديد من الاحتجاجات منذ ٧ أكتوبر، إلى جانب فرض ٧٥٢ غرامة، كما أجبرت التهديدات الأمنية على إخلاء مواقع مثل متحف اللوفر، إلى جانب العديد من المطارات، ولا توجد حماية صريحة للحق فى التجمع السلمى فى الدستور الفرنسي، وبموجب القانون الفرنسي، يجب إخطار مجلس المدينة المحلى أو مركز شرطة المدينة بالاحتجاج المنظم قبل ٤٨ ساعة على الأقل (13).

وفى برلين - التى تعد أيضا موطنا لواحدة من أكبر مجتمعات الشتات خارج الشرق الأوسط والتى تقدر بنحو ٣٠ ألف فلسطينى - عززت الشرطة الإجراءات الأمنية وقمعت الجماعات المؤيدة للفلسطينيين بكل قوة. وقال العديد من الفلسطينيين للصحفيين إنهم يشعرون بالخوف من أن يوصفوا بأنهم مؤيدون لحماس بسبب التحدث علنا ضد إسرائيل.

 تتمتع ألمانيا بتاريخ طويل فى حماية حق المواطنين فى التجمع والاحتجاج بموجب دستورها، أو القانون الأساسي، الذى يعود تاريخه إلى عام ١٨٤٨.وفى ألمانيا، كان التذكير المؤلم بمقتل ستة ملايين من اليهود الأوروبيين على يد النازيين فى أثناء المحرقة سببا فى إثارة التوترات بشكل خاص(14). وقال المستشار الألمانى "أولاف شولتز"للمشرعين: "إن تاريخنا ومسئوليتنا عن المحرقة يجعل من واجبنا فى كل لحظة أن ندافع عن وجود إسرائيل وأمنها". وإلى جانب حظر الاحتجاجات، نظرت سلطات التعليم فى برلين أيضا فى منع الطلاب من ارتداء الكوفية الفلسطينية وملصقات "فلسطين حرة"،كما حظرت الشرطة أى نوع من البيانات العامة أو المكتوبة التى تعد معادية للسامية أو معادية لإسرائيل أو تمجد العنف أو الإرهاب. دافعت الحكومة الألمانية عن القيود التى تفرضها على المتظاهرين معللة ذلك بأن موقف البلاد أقل تساهلا فيما يتعلق بحرية التعبير مقارنةً بالعديد من الديمقراطيات(15) .  

وفى لندن، تجمع آلاف المتظاهرين المؤيدين لفلسطين بالقرب من أكسفورد، ولوحوا بالأعلام الفلسطينية واللافتات مطالبين بإنهاء الغارات الجوية الإسرائيلية والحصار على قطاع غزة. وكانت شرطة العاصمة لندن، التى نشرت أكثر من ألف ضابط على الأرض، حذرت مسبقا من أن "أى شخص يحمل علما يدعم حماس أو أى منظمة إرهابية محظورة أخرى سوف يتم اعتقاله". وكانت وزيرة الداخلية "سويلا برافرمان" من أشدالرافضين للتظاهرات الداعمة لفلسطين، ووصفت الاحتجاجات بأنها "مسيرات الكراهية"، وحذرت من وجود الإسلاميين فى صفوفهم، كما وجهت رسالة إلى كبار قادة الشرطة فى إنجلترا وويلز، تحذرهم من أى مظاهر لدعم حركة "حماس" فى الشوارع، وطالبت الشرطة باستخدام القوة الكاملة لمنع ظهور ما وصفته بـ"رموز أو شعارات معادية لإسرائيل فى شوارع البلاد".قامت "برافرمان" بالتحدث مع مؤسسة أمن المجتمع (CST)، وهى مؤسسة خيرية تهدف إلى حماية اليهود فى بريطانيا، لتأكيد أن الحكومة البريطانية تفعل كل ما هو ضرورى لحماية المجتمعات اليهودية. ويقول نشطاء الحريات المدنية إن بريطانيا لديها تاريخ طويل من الاحتجاج السلمى الذى لا ينبغى تقليصه إلا فى الظروف القصوى(16).

قامت السلطات فى النمسا والمجر وسويسرا أيضا بحظر الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين؛ حيث اتخذت بعض المدن نهج حظر الاحتجاجات من أى نوع. وحتى فى الحالات التى لم يتم فيها حظر الاحتجاجات، قام بعض المسئولين الحكوميين بتثبيط التظاهرات المؤيدة لفلسطين، أو أدانوها بشدة. وفى المجر، أعلن رئيس الوزراء، "فيكتور أوربان"، أن بلاده لن تسمح بأى مسيرات تؤيد ما سماه "المنظمات الإرهابية"(17).

وردا على القيود المتزايدة التى تفرضها العديد من الحكومات فى أوروبا على الاحتجاجات المدافعة عن حقوق الإنسان الفلسطينى قالت "إستر ميجور"، نائبة مدير البحوث فى منظمة العفو الدولية فى أوروبا:"إن العواقب المدمرة للقصف الإسرائيلى والحصار غير القانونى على غزة تجبر العديد من المواطنين فى أوروبا، لأسباب مفهومة، على الاحتجاج من أجل حقوق الفلسطينيين. ومع ذلك، فى العديد من البلدان الأوروبية، تقوم السلطات بتقييد الحق فى الاحتجاج بشكل غير قانونى. تتراوح الإجراءات بين تلك التى تستهدف بعض الهتافات والأعلام واللافتات الفلسطينية، إلى إخضاع المتظاهرين لوحشية الشرطة والاعتقال. وفى بعض الحالات، تم حظر الاحتجاجات تماما، على سبيل المثال، حظرت السلطات فى ألمانيا الغالبية العظمى من الاحتجاجات المطالبة بحقوق الفلسطينيين"(18).

ختاما:

يظهر بوضوح غضب العديد من المواطنين الأوروبيين واحتجاجهم على ما يحدث فى غزة من جراء الجرائم البشعة التى تقوم بها إسرائيل فى حق المدنيين وقصف المساكن والمستشفيات والمبانى الآمنة، وذلك على مرأى ومسمع من الحكومات الأوروبية الداعمة بقوة لإسرائيل وحقها فى الدفاع عن نفسها.

كشفت الأحداث الأخيرة فى فلسطين عن أوجه عدة للشعوب الأوروبية لم تكن واضحة لهم من قبل، أولها الوجه الحقيقى لإسرائيل التى كانت دائما تروج لنفسها على أنها الضحية التى تدافع عن حقها فى وجه الفلسطينيين، والوجه الآخر يتمثل فى الحكومات الأوروبية التى تدعى الديمقراطية وحرية الرأى والتعبير؛ حيث قمعت العديد من الحكومات الأوروبية الحريات ورفضت التظاهرات ووصل بهم الحال إلى قمع التظاهرات واعتقال المتظاهرين وفرض غرامات مادية على من يقوم بالتظاهر.

كل ذلك شكَّل صدمة كبيرة للمواطنين الأوروبيين وخلق تباينا كبيرا بين الحكومات والمواطنين، يحاول الرأى العام الأوروبى الضغط على حكوماتهم لمراجعة سياساتهم تجاه الدعم الكامل لإسرائيل مع تجاهل ما يحدث بحق الفلسطينيين، ولكن لم يُتخذ موقف واضح وموحد من الدول الأوروبية لحل هذه القضية، حتى إنهم لم يستطيعوا التوصل إلى قرار لوقف إطلاق النار أو الضغط على إسرائيل للتوقف عن أعمال العنف التى تقوم بها يوميا لأكثر من شهر. 

المراجع:

(1) ولاء جاد، "مواقف هلامية: حقوق الإنسان وردود الفعل الغربية على العدوان الإسرائيلى فى غزة"، المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، ١٤/١٠/٢٠٢٣.

(2) ميشال أبو نجم، "أوروبا عاجزة عن إسماع صوتها فى حرب غزة وانقساماتها تطفو على السطح"، صحيفة الشرق الأوسط، ١١/١٠/٢٠٢٣.

(3)Luigi Scazzieri, “Europe and the Gaza Conflict”, Centre for European Reform, 20/10/2023.

(4) “Israel-Hamas War: Outrage across the World over Gaza Hospital strike that Killed hundreds”, Le Monde, 18 October 2023, available at: https://www.lemonde.fr/en/international/article/2023/10/18/israel-hamas-war-international-condemnation-over-gaza-hospital-strike-that-killed-hundreds_6182879_4.html, accessed on: 13/11/2023.

(5) Cleary Waldo & Others, “International Reactions to the Hamas Attack on Israel”, The Washington Institute for Near East Policy, 11/10/2023.

(6) محمد العشرى، "ما موقف الأحزاب البريطانية الكبرى من الحرب فى غزة؟" BBC News، ٢٧/١٠/٢٠٢٣، موجود على الرابط التالى: https://www.bbc.com/arabic/articles/c03e57lyew9o، تاريخ المشاهدة: ١٤/١١/٢٠٢٣.

(7)  “2023 Israel-Hamas Conflict: UK and international Response”, House of Commons Library, “UK Parliament”, 10 November 2023, available at: https://commonslibrary.parliament.uk/research-briefings/cbp-9874/, accessed on: 12/11/2023.

(8)  Andrew Macaskill & Michel Rose, “Britain, France stress need to get aid into Gaza”, Reuters, 29 October 2023.

(9)  “Protests from US to Europe call for halt to Israeli bombing of Gaza”, Le Monde, 5 November 2023, available at: https://www.lemonde.fr/en/international/article/2023/11/05/protests-from-us-to-europe-call-for-halt-to-israeli-bombing-of-gaza_6227878_4.html, accessed on: 13/11/2023.

(10) “Europe rallies in solidarity with Palestine”, Peoples Dispatches, 20 October 2023, available at: https://peoplesdispatch.org/2023/10/20/europe-rallies-in-solidarity-with-palestine/, accessed on: 14/11/2023.

(11) Maria Luisa & Nathalie Tocci, “Europe is Stuck over the Israel-Hamas War”, The International Spectator, 10 November 2023.

(12) Kate Bardy& Others, “European bans on pro-Palestinian protests prompt claims of bias”, The Washington Post, 27 October 2023.

(13)   Angela Charlton & Jeffrey Schaeffer, “France has banned pro-Palestinian protests and vowed to protect Jews from resurgent antisemitism”, AP News, 13 October 2023, available athttps://apnews.com/article/france-israel-palestinians-war-protests-banned-5626bafec480b32226dcb97d0c92a553, accessed on: 14/11/2023.

(14) AsthaRajvanshi, “In Europe, Free Speech Is under Threat for Pro-Palestine Protesters”, Time, 20 October 2023, available at: https://time.com/6326360/europe-palestine-protests-free-speech/, accessed on: 14/11/2023.

(15)  Bethany Dawson & Others, “The Israel/Gaza protest March dividing Britain”, Politico, 10 November 2023, available at: https://www.politico.eu/article/united-kingdom-london-pro-palestine-rally-thats-dividing-britain/, accessed on: 14/11/2023.

(16) Lauren Said-Moorhouse & Lianne Kolirin, “Protests over Israel-Hamas war sweep the globe as nation’s ramp up security”, CNN, 11 October 2023, available at: https://edition.cnn.com/2023/10/11/world/global-protests-israel-hamas-war-intl-cmd/index.html, accessed on: 14/11/2023.

(17)  Erika Solomon, “Germany’s Stifling of Pro-Palestinian Voices Pits Historical Guilt Against Free Speech”, The New York Times, 10 November 2023, available at: https://www.nytimes.com/2023/11/10/world/europe/germany-pro-palestinian-protests.html, accessed on: 16/11/2023.

(18)  Europe: Right to protest must be protected during latest escalations in Israel/OPT”, Amnesty International, 20 October 2023, available at: https://www.amnesty.org/en/latest/news/2023/10/europe-right-to-protest-must-be-protected-during-latest-escalations-in-israel-opt/, accessed on: 15/11/2023.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. نورهان طوسون

    د. نورهان طوسون

    مدرس العلوم السياسية - الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحرى