مقالات رأى

فى ذكرى رحيل جمال الغيطانى .. المراسل الحربى الأشهر والروائى المبدع

طباعة

"أنا من الكتّاب الذين لا ينتظرون لحظة الكتابة مثل كثير من الأدباء، صديقى الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى كان يحكى لى أنه قد ينتظر فترات طويلة والشعر لا يأتيه، ومنذ أن قرأت عبارة الشاعر فؤاد حداد "وكأن الحياة ذكرى" وأنا مشغول بهذا الهاجس، فالحياة فعلا كلها ذكرى، والكتابة فعل مضاد للنسيان، أعمل منذ أن كان عمرى 16 سنة، والنهار بالنسبة إلىَّ مخصص للعمل لتوفير المعاش حتى بعد اشتغالى كصحافى محترف لأن الكتابة الإبداعية لا توفر دخلا، لا أملك ترف الانتظار أو تأجيل مشروع كتابة للحظة مقبلة، فمن يدرى إن كنت سأحيا حتى هذه اللحظة. أنا أخضعت لحظة الكتابة لظروفى، فأنا أعمل بمنطق من ليس لديه وقت، ومما أحمد الله عليه وأنا فى السبعين من العمر أن طاقتى ورغبتى فى الكتابة أصبحت أكثر صقلا، وأن لدى مشاريع وأفكارا تكفينى للاشتغال عليها فترة 20 عاما مقبلة...".

ولكنه القدر الذى لم يمهل الكاتب والروائى والمؤرخ جمال الغيطانى صاحب تلك السطور لعرض تلك المشاريع الثقافية والإبداعية التى حدثنا عنها للأسف رغم حالة الدأب والانتظام فى إثراء المكتبة المصرية والعربية بالمزيد من الإصدارات الفكرية والروائية والتاريخية المهمة.

ونحن نحتفى ونحتفل هذه الأيام باليوبيل الذهبى لحرب أكتوبر المجيدة، نحتفى أيضا بذكرى رحيل المراسل العسكرى الوطنى العتيد "جمال الغيطانى" فى ( 18 أكتوبر 2015 ) .. وفى هذا السياق، يذكر "يوسف القعيد" الكاتب والأديب وصديق "الغيطانى" ورفيق رحلته المهنية والإبداعية: "أطالب نفسى وابنه وابنته بأن نكتب عن جمال الغيطانى، فقد كان لديه فهم عظيم ومتميز وخاص للعسكرية المصرية وكان متبحرا فى تاريخها بداية من مصر الفرعونية حتى حرب أكتوبر المجيدة، وكتب كتابا مهما بعنوان "المصريون والحرب من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر"، وكان لعناوين مجموعاته القصصية روح العسكرية المصرية العظيمة.

ومعلوم أن "الغيطانى" لم يكن المستكين لنموذج مسبق أو قوالب جاهزة "باترون"، مثلا هناك قول فى المدرسة الكلاسيكية فى النقد يرى أنه يجب على الروائى أن يكون صوته خافتا، ولم يكن الغيطانى مقتنعا بهذه الرؤية، ويقول "كيف يكون صوتى خافتا وأنا موجود طوال العمل، أنا الذى يكتب، أيضا لست من أنصار القول إن "زنيب" هى أول رواية عربية، وماذا عن الألف عام السابقة؟ اتبعت المدرسة العربية القديمة التى تتمثل فى كتب التراث مثل: كتاب الحيوان للجاحظ؛ حيث توجد أفق عديدة للحركة أكثر بكثير من الأشكال الكلاسيكية للرواية الأوروبية التى تأسست عليها الرواية العربية..".

وكان "الغيطانى" يرى أن أهل ونجوم ثقافة الستينيات معظمهم مارسوا العمل السياسى السرى؛ لأن العامل السياسى العام وقتها كان مشروطا بشروط السلطة؛ حيث الانتساب إلى تنظيمات يسارية صغيرة، لكن سرعان ما تبدى لهم هشاشتها فغادروها، فى الستينيات كانت حروبهم من أجل تحقيق مبادئ كبرى مثل: تحرير الإنسان، وبناء وطن مستقل، الآن يتم الحرب فى البديهيات، من أجل الحفاظ على البنية، من هنا كان انحياز الغيطانى لفكرة الدولة، فالدولة فى مصر غيرها فى أى بنيان فى العالم، الدولة تعنى الكيان.

وكان يرى أنه عقب هزيمة يونيو 1967، وخروج الجماهير يوم 9 يونيو تطالب عبدالناصر بالبقاء وتحمّل المسئولية، لم يحركها حزب أو تنظيم، الذى حركها خاصية مصرية أبدى تفهمها من خلال دراسة تاريخ المصريين، عبر خاصية يعبر عنها القول الفرعونى القديم: "الكل فى واحد".

ولد "الغيطانى" فى قرية "جهينة" محافظة جرجا (سوهاج حاليًا) بصعيد مصر، نشأ فى القاهرة القديمة؛ حيث عاشت أسرته فى "درب الطبلاوى" بمنطقة "الجمالية"، وأمضى فيها ثلاثين عاما، تلقى تعليمه فى مدرسة "عبدالرحمن كتخدا" الابتدائية، ومدرسة "الجمالية" الابتدائية، وتعليمه الإعدادى فى مدرسة "محمد على" الإعدادية، وتخرج فى مدرسة "العباسية الثانوية الفنية" (عام 1962) التى درس بها تصميم السجاد الشرقى، وصباغة الألوان، ثم عمل فى "المؤسسة العامة للتعاون الإنتاجى"، ومفتشا على مصانع السجاد الصغيرة، واستبدل "الغيطانى" عمله عام 1969 ليصبح مراسلا حربيا لحساب مؤسسة "أخبار اليوم"، ثم فى قسم التحقيقات الصحفية، وبعد أحد عشر عاما فى ممارسة الصحافة أصبح رئيسا للقسم الأدبى بأخبار اليوم، إلى أن أسس وترأس جريدة "أخبار الأدب" عام 1993، و"الغيطانى" صاحب مشروع روائى متميز استلهم فيه التراث المصرى ليخلق عالما روائيا خاصا، وقد أدى تأثره بصديقه وأستاذه الكاتب "نجيب محفوظ" دورا أساسيا فى هذا المجال.

وحول مراجعة كتب التراث، يراها مهمة ثقافية بالدرجة الأولى، مطلوب مراجعة جريئة علمية للأسس التى تبرر هذه القناعات الفكرية، هذه ليست مهمة الأزهر وحده، لا بد من تعاون بين الأزهر والمؤسسة الثقافية، لابد أن نعمل على مقاربة فكر العصر بالتخلص من ميراث قديم غير مقدس؛ لأنه فى نهاية الأمر مجرد اجتهاد بشر، فكرة التجديد فكرة أصيلة لدى المصريين، ومسألة التجديد التى طرحها الرئيس السيسى بجرأة وشجاعة مسألة حياة أو موت المهم كيف تنفذ.

كتب العديد من المحررين العسكريين حول ذكرياتهم مع الحرب، لعل أشهرهم الأديب الكبير جمال الغيطانى فى كتابه "على خط النار يوميات حرب أكتوبر"، وتمثل جانبا من رسائله الصحفية التى أمد بها جريدة الأخبار عندما عمل مراسلا عسكريا على الجبهة خلال حرب الاستنزاف، ثم حرب ونصر أكتوبر العظيم، خلال الفترة بين عامى 1969 ـ 1974 التى رصد فيها الأحداث والتطورات العسكرية على الجبهة.

نجح الغيطانى فى إبراز بطولات الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، وكيف تحول الفلاح، العامل، الطبيب، المهندس، من مجرد إنسان عادى إلى مقاتل يبذل روحه عن طيب خاطر وإصرار لا يلين فداء لهذا الوطن، وقد نجح الأستاذ الغيطانى فى رصد الجوانب الإنسانية لمقاتلى الجبهة بدرجة باهرة، إلى الحد الذى تحتار فيها إن كان يكتب بروح الأديب أم بروح المراسل العسكرى الذى يتعرض لنفس المخاطر التى يتعرض لها مقاتلو الجبهة.

وحرص الغيطانى فى كتاباته من الجبهة على تدوين بطولة الإنسان المصرى ممثلا فى الجندى المقاتل، الذى تعرض عقب 1967 لحرب نفسية مكثفة لنزع الثقة وتصوير المصريين بوصفهم شعبا لا يجيد القتال، فإن أجاد الفن والحضارة، فإن الأمر لا ينطبق على قدرته على درء العدوان، وهو ما حرصت إسرائيل والداعمون لها على تكريسه بشكل ممنهج لنزع الثقة وإحباط أى محاولة لتحرير الأرض، الأمر الذى جعل الغيطانى يحرص على إبراز بطولة الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، كيف يتحول ذلك الفلاح، أو العامل، أو المهنى، أو الطبيب، أو المهندس من إنسان اعتيادى، إلى مقاتل، وهو ما نجح فيه بامتياز لدرجة استرعت انتباه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى أشاد بأول تحقيقات الغيطانى عن الجندى المصرى على خط النار، ما اعتد به كشهادة تثبيت فى موقعه الجديد للمراسل العسكرى الشاب آنذاك.

حصل الغيطانى على الجوائز التالية: 

·   جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980.

·   جائزة سلطان بن على العويس، عام 1997.

·   وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.

·  وسام الاستحقاق الفرنسى من طبقة فارس، Chevalier de l'Ordre des Arts et des Lettres عام 1987.

·  جائزة الصداقة العربية 1994.

طباعة

    تعريف الكاتب

    مدحت بشاي

    مدحت بشاي

    كاتب صحفى