مقالات رأى

بين الذكاء الاصطناعى والملكية الفكرية

طباعة

أينما وجد الإنسان وجد الفكر والإبداع، فهما نتاج عمليات عقلية معقدة، تأتى بناء على استخدام قواعد علمية، أو نتيجة الشطحات الفكرية، ما لا يستطيع المبدع نفسه تفسيرها أو استحضارها وقتما شاء. وفى الحقيقة، فإن الإبداع يكون خليطا بين هذا وذاك، وهذا النتاج يحتاج إلى حماية، حماية ضد السرقة والنقل والاقتباس، وضد أن ينسبه شخص ما لم يقم به لنفسه، وهنا جاء مفهوم الملكية الفكرية، ثم تطورت الأمور بوضع قواعد وقوانين محلية ودولية لحمايتها، وفى ظل التطورات التى فرضها عصر المعلومات حدث أن أدخلت تلك القضية فى منعطفات جديدة بعضها سهل فى التناول، وبعضها يحتاج إلى عناية ومتابعة مختلفة.

ربما أخذ الأمر سنوات عدة حتى تبلور الأمر، ففى عام 1967 أُنشئت المنظمة العالمية للملكية الفكرية المعروفة بـ "الوايبو "WIPO ومقرها جنيف بسويسرا، وتشمل عضويتها 193 دولة، كما تراقب أنشطتها من خلال 250 منظمة حكومية وغير حكومية بصفة المراقب الرسمى فيما تعقده من اجتماعات وما تصدره من قواعد دولية تهدف إلى تمكين الحكومات والشركات والمجتمعات بصورة عامة من تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا النتاج مع حفظ حقوق كل الأطراف، ولذلك فإن التعريف الأشهر للملكية الفكرية الصادر عن المنظمة يشير إلى أنها إبداعات العقل من اختراعات، ومصنفات أدبية، وفنية، وتصاميم، وشعارات، وأسماء، وصور مستخدمة فى التجارة، وتعمل المنظمة على حماية الملكية الفكرية من خلال بلورة مفهوم عدد من الحقوق منها البراءات، وحق المؤلف، والعلامات التجارية من خلال القوانين التى تهدف إلى تمكين المبدعين من كسب الاعتراف بابتكاراتهم واختراعاتهم وضمان الحقوق المالية المترتبة على هذا الإبداع بصورة متوازنة بين تلك المصالح ومصالح الجمهور العام ولتوفير بيئة مناسبة لازدهار الإبداع والابتكار.

عصر المعلومات وما بعده

أما فى عصر المعلومات الذى يؤرخ له البعض بعام 1969 أى بعد عامين بالتمام والكمال من إنشاء المنظمة، فالأمر يختلف نوعا ما؛  حيث ظهرت أنماط جديدة للانتهاكات وسبل الحماية، فشبكات المعلومات وأنظمتها من برمجيات متعددة أتاحت الفرصة للمزيد من سرعة انتشار المصنف الفكرى، وكذا أيضا الحالات التى يتم فيها نقل المصنف من صورته التقليدية إلى صورة رقمية جديدة، ومن أدل الأمثلة على هذا انتقال قضايا الاقتباسات الأدبية والطبع والنشر والتوزيع غير المرخصين إلى آفاق أخرى أوسع- العالم كله- باستحداث النسخ الرقمية من الكتب والأبحاث وما تتيحه تلك التقنيات من سهولة وسرعة التداول وصعوبة التتبع والملاحقة-على الأقل فى العقود الأولى من عصر المعلومات- كما شملت أيضا نوعا جديدا من الانتهاكات تلك التى تدعى قرصنة البرمجيات Software Piracyأى انتشار بيع وتداول واستخدام نسخ غير مرخصة من برمجيات هى نتاج مجهود عقلى، وتسعى الشركات المنتجة لها إلى تحقيق مكاسب مادية من جراء إتاحتها وبيعها.

شمل الأمر أيضا النسخ غير المرخصة من الأعمال الفنية من دراما، وتأليف موسيقى، وأغنيات، وخلافه ما استوجب وضع استراتيجيات للملكية الفكرية وتعديلا فى عدد من القوانين الحالية، أو حتى استحداث قوانين جديدة لتنظيم الأمر مع حملة واسعة لنشر الوعي بأهمية احترام قواعد الملكية الفكرية، وما يتعرض له من يقوم بانتهاكها من الوقوع تحت طائلة القوانين المحلية والعالمية، وهى رحلة طويلة شارك فيها خبراء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عبر السنوات الماضية.

ثم حدث فى الآونة الأخيرة أن بدأت التطبيقات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي فى الانتشار والتوسع فى استخدامها من قبل أعداد كبيرة من البشر، وهو ما بدأ بعض الخبراء فى التفاعل معه، ودق ناقوس خطر ربما لم تتضح بعد مدى خطورته، ولكن التطور الكبير الحادث فى هذا المجال وارتباطه بمحاكاة العقل البشرى وما ينتج عنه من إبداعات متعددة يجعل هذا الملف فى غاية الأهمية والحساسية أيضا.

إن الإبداع البشرى يتحول إلى إبداع تقوم به الآلة، فمن خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي تستطيع الآلة القيام بالعديد من المهام المعقدة التى تحتاج إلى خبرات كثيرة متراكمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن حاليا استخدام برامج تقوم بما يقوم به مدرب كرة القدم؛ حيث يتم إدخال بيانات متعددة عن الفرق المختلفة، وخصائص ومهارات كل لاعب، والنتائج السابقة للفرق وأساليب لعبها؛ ثم يقوم البرنامج من خلال تحليل كل تلك البيانات استخراج مقترحات لخطط اللعب فى المباريات المختلفة، بل اختيار اللاعبين ومواقعهم فى أرض الملعب وأسلوب اللعب سواء كان دفاعيا أو هجوميا أو متوازنا..إلخ.

يتم أيضا استخدام تلك الأدوات فى تشخيص الأمراض وتحليل نتائج التحاليل الطبية وقراءة صور الأشعة وخلافه، ومن ثم اقتراح البرنامج العلاجي المناسب وربما أيضا توقع الإصابات بالأمراض المختلفة في المستقبل بناء على قراءة واقع تلك البيانات وربطها بخصائص المريض.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتخطاه إلى إنتاج أعمال إبداعية فى مجالات متعددة، منها على سبيل المثال قدرة الآلة على إنتاج عمل أدبي من مقال، وقصة قصيرة، ورواية طويلة خاصة بعد انتشار تطبيقات معالجة النصوص منذ شهر نوفمبر الماضى التى تعمل بتقنية الـ ChatGPTغير المرتبطة بشبكة الإنترنت فى أول ظهورها حتى وصلنا إلى نسخ جديدة تكون فيها المنظومة مرتبطة بتلك الشبكة وقادرة على التفاعل مع هذا الكم الهائل من البيانات المتاحة عليها بصورها المختلفة؛حيث تستطيع القيام بتحليل البيانات واستخراج نتائج باهرة فى المجالات المختلفة من دراسات اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية متخصصة.

ولا يتوقف الأمر عند التحليل أو الصياغات المكتوبة بل تخطاه إلى توليد أعمال موسيقية أو فنون تشكيلية جديدة من خلال ما تم تغذيتها به من بيانات تاريخية باستخدام أوامر مكتوبة لا تزيد على عبارات قصيرة، كما يمكن استنساخ الأصوات لتقول ما لم تتفوه به من قبل أو استغلال ملامح الوجه وإشراكها فى مقاطع مصورة لم تقم بها أيضا فيما يعرف بالتزييف العميق  Deepfake الذى يحتاج أيضا إلى تنظيم لحق الاستغلال والحماية أيضا من الاستخدام فى تنفيذ جرائم مثل الابتزاز الجنسى وغيرها.

يصل الأمر إلى مناطق أخرى أكثر خطورة عندما يتعلق الأمر بحياة الإنسان وسلامته، فعلى سبيل المثال ماذا سيكون الموقف فى حالة قيام سيارة ذاتية القيادة Self Driving Car بقتل شخص على سبيل الخطأ؟

عودة إلى قضية الملكية الفكرية التى نجد أن تناولها فى ظل تطبيقات الذكاء الاصطناعي يجب أن يجيب عن سؤالين رئيسيين، الأول: كيف نحمى المنتج الصادر من تلك الأنظمة؟ والسؤال الآخر: كيف نضمن عدم قيام تلك الأنظمة بالتعدي على المنتجات الفكرية البشرية فيما تنتجه من أعمال؟

طباعة

    تعريف الكاتب

    م. زياد عبد التواب

    م. زياد عبد التواب

    خبير التحول الرقمي وأمن المعلومات، الرئيس السابق لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار برئاسة مجلس الوزراء