مقالات رأى

عندما يتمرد أهل الإبداع والتنوير

طباعة

ونحن نعيش أطياف شهر ثورة الانتصار على جماعة التضليل الفكرى والتراجع الروحى، نتذكر كيف كان التمرد النبيل من أهل الثقافة والتنوير فى تلك الفترة، بل عبر التاريخ المصرى نحتفظ لهم ونوثق لرموزهم مواقف التمرد من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية.

لعل من أكبر إشارات وعلامات الغباوة الإنسانية لدى متخذ القرار من أعضاء مكتب الإرشاد الإخوانى عقب صعودهم الكارثى لسدة الحكم، قد تمثل فى اتخاذهم قرار تعيين وزراء من أعضاء بيت الشر الإخوانى للتعليم والإعلام والثقافة، وبشكل خاص فى مجال الثقافة، فتعيين وزير إخوانى لشئون العمل الثقافى كان بمنزلة من ينادون "طفوا النور" فقد حل عصر الظلاميين ولا تنوير بعد اليوم !!

نعم، قرار يشى بحالة انعدام رؤية وضحالة فهم وجهل معرفة من جانب من لم يعرفوا أى بلد يحكمون، وأى بشر يخاطبون، ونسوا أو تناسوا بتيبس قلب وموت روح وغباوة عقل أنهم أمام شعب عظيم له تاريخ عبقرى وحضارة فريدة، والأهم أنهم كجماعة قدر لها فى النهاية حكم البلاد هم فى النهاية كتاب مفتوح لم تعد فصول أبوابه خافية على أحد .

وبناء عليه، كان قرار اعتصام عدد هائل من المثقفين والفنانين والصحفيين وأهل الرأى ورموز التنوير المصرية بمقر وزارة الثقافة بالزمالك، وإعلانهم رفض الحوار مع "د. علاء عبدالعزيز" وزير الثقافة  أو مع أهل الحكم الذى أفرزه، معتبرين أن وجوده يعد دليلا قاطعا على نية جماعة الحكم الاستيلاء على مصر ومقدراتها، وأكدوا فى بيان أصدرته جبهة الإبداع المصرى التى كانت قد تشكلت على وجه العجل رفضهم لوجود الوزير وهو رفض للوجود الفكرى الإخوانى المقيت .

وكانت مطالب المبدعين المصريين متجاوزة أى مطلب فئوى أو مهنى، وأكدوا أنها ثورة غضب وطنى فى مواجهة حكم قرر أن يخاصم شعبه ويُقصى معارضيه ويهدد هويته وتراثه الفكرى والثقافى، وأشاروا إلى أن رفض وزير الثقافة ليس مرتبطا بشخصه وإنما هو رفض لسياسات حكم جماعة ترى الوطن غنيمة، وينبغى أن يوزع البيان على الأتباع والمؤيدين، مؤكدين أن المعتصمين فى وزارة الثقافة قاموا بخلع كل رداء حزبى أو فكرى ليتشح الجميع بعلم مصر الوطن والتاريخ والحضارة، وليعبروا عن طموحات شعبها الذى أنجب مبدعين لهم جذورهم العائلية الممتدة فى العمق المصرى ريفا ومدنا، عمالا وموظفين، تجارا وحرفيين.

وفى صفحات تاريخ أهل الإبداع المصرى، دعونا نتذكر حالة تمرد "كلثومية"، وما حدث فى حديقة النادى الأهلى عام 1949، عندما قدمت سيدة الغناء العربى أم كلثوم بصوتها العذب قصيدة "ولد الهدى" للشاعر أحمد شوقى فى 129 بيتا، لحن الموسيقار رياض السنباطى منها 34 بيتا، ويحكى الملحن رياض السنباطى فى مجلة "بناء الوطن" عام 1963 موقفا حدث فى هذا اليوم فيقول: كنت شاهدا عليه فى تلك الليلة، فقد وقع صدام بين أم كلثوم والقصر الملكى بسبب البيت القائل (الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوى القوم والغلواء)، فلما كان الملك فاروق يكره كلمة الاشتراكية، عدَّ هذا البيت ترويجا لها، وفيما كنا نسجل القصيدة فى مسرح معهد الموسيقى العربية، وفى أثناء التسجيل فوجئنا بمبعوث من القصر يطلب حذف هذا البيت من غنوة أم كلثوم، انفعلت أم كلثوم وتوقف التسجيل، ولما كان البيت مكملا فى القصيدة ومن بنائها أعلنت أم كلثوم تمسكها بالبيت، بل هددت بإلغاء التسجيل فى حالة إصرار القصر على التدخل، ثم أجرت أم كلثوم اتصالاتها بالقصر الذى رضخ لإصرارها على البيت، وتم التسجيل دون الحذف .

فى مشهد بديع عاشه رواد "مقهى ريش" ــ بيت من بيوت أهل الفكر و الكتابة والإبداع المصرية ــ فى الأيام السابقة لاندلاع ثورة 30 يونيو المجيدة، عندما طالعوا صورة فوتوغرافية لعميد الأدب العربى "طه حسين" وهو جالس إلى مكتبه مبتسما وهو يُشهد الحضور أنه قد وقع على استمارة "تمرد" الشهيرة التى أبدع فكرتها وصممها شباب الثورة، وإلى جانبه جلس العظيم "رفاعة الطهطاوى" ممسكا بنسخة من الاستمارة ذاتها، هكذا قالت اللوحات المعلقة على أشهر مقاهى المثقفين فى وسط القاهرة .

 

ويقترب الحضور من الراحل المثقف الوطنى الجميل الراحل "مجدى عبدالملاك" مدير المقهى، وهو يؤكد أن زبائن المكان هم أصحاب فكرة تعليق لافتات وصور للمشاهير بعد تعديلها بالفوتوشوب لتُظهرهم وهم راضون عن حملة "الشباب الطاهر" على حد وصفه، موقعين على استمارة "تمرد ".

وبمناسبة الصورة، لعل من أشهر صور عميد الأدب العربى طه حسين الشخصية وأبدعها فى التكوين الجمالى الذى يحمل الكثير من المعانى التى توجز رسائل ذلك التنويرى المصرى العظيم، وهى للمصور المبدع المصرى الأرمنى الفذ "فان ليو" صورة بديعة نلاحظ فيها أن مساحات الظل والنور وعلاقاتها فى فراغ الصورة ودرجات الإعتام والتنوير فى مقابلاتها وتضادها ومعانيها تكشف عن حقيقة البصيرة التى تتجاوز بنورها وتنويرها قدرات البصر التقليدية إلى الاجتياز لنور المعارف والثقافات بإعلان انتصار حقيقى للبصيرة المهداة للعميد، وهى البصيرة التى أشار إليها الشاعر نزار قبانى عبر قصيدة شهيرة له أبدعها فى ذكراه: ارم نظارتك.. ما أنت أعمى/ إنما نحن جوقة العميان.

وهو يشير فيها إلى رد العميد عندما سخر منه منتقدوه ووصفوه بالأعمى، فقال: "أحمد الله أننى أعمى حتى لا أرى وجوهكم"...

طباعة

    تعريف الكاتب

    مدحت بشاي

    مدحت بشاي

    كاتب صحفى