تحليلات

المجلس الأعلى للتعليم بين الضرورات والمحظورات

طباعة

بعد 8 أيام من الآن ينطلق ماراثون الثانوية العامة.. ذلك «البعبع» الذى لايزال يسكن كل بيت فى مصر، ويؤرق الأسرة المصرية، ويحمل معه ذكريات، قد تكون مؤلمة أو ربما تكون سعيدة، لهؤلاء الذين خاضوا تلك التجربة فى سنوات سابقة، أو أرقا وقلقا وتوترا لمن ينتظرون خوضها هذا العام أو فى الأعوام المقبلة.

الثانوية العامة نموذج حى لأزمة التعليم فى مصر، ولاتزال تلك الأزمة مستمرة عبر عقود طويلة وممتدة، ومازال البحث جاريا عن مخرج طبيعى وآمن لها حتى الآن.

مشكلة التعليم فى مصر أنه لا يزال يرتبط بأشخاص السادة الوزراء، فهناك من أفتى بإلغاء الصف السادس الابتدائى، وهناك من أفتى بضرورة وجوده، وهكذا الحال فى المناهج التعليمية أيضا، وكذلك فى «التشعيب» بالثانوية العامة، وطريقة امتحانها، وهل يكون ورقيا أم إلكترونيا أم ورقيا وإلكترونيا معا؟ وهل تكون الأسئلة من الاختيار المتعدد أو مقالية أم هما معا؟.

الأزمة نفسها فى التعليم الجامعى، لكن ربما تكون أقل حدة، غير أن المشكلة تظهر فى عدم وجود إستراتيجية دائمة للتعليم الجامعى تستوعب خطط تطويره رأسيا وأفقيا، ومدى طبيعة تلك الإستراتيجية وامتدادها إلى الجامعات الخاصة والأهلية والحكومية والدولية، باعتبار أن كل تلك الكيانات تستهدف الخريج المصرى القابل للانخراط فى سوق العمل داخليا وخارجيا، ومدى تجاوبه مع المتغيرات الهائلة فى هذا المجال، بما يمنح الخريج المصرى الأولوية فى سوق العمل المحلى أو فى الأسواق العالمية.

كانت مصر لفترات طويلة وممتدة هى «كعبة» العرب والأفارقة التعليمية، وتخرج فى جامعاتها العديد من الرؤساء والزعماء والوزراء العرب والأفارقة، أبرزهم الرئيس الجزائرى الأسبق هوارى بومدين، والرئيس العراقى الأسبق محمد فؤاد معصوم، ورئيس جزر المالديف الأسبق مأمون عبدالقيوم، والرئيس العراقى الأسبق صدام حسين، وحاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمى، والرئيس الفلسطينى السابق ياسر عرفات.

وعلى المستوى المحلى، كانت هناك أسماء عظيمة شقت طريقها إلى العالمية، وحصل أربعة منهم على جائزة «نوبل» فى فروعها المختلفة، وعلى رأسهم الرئيس الراحل أنور السادات، الحاصل على جائزة نوبل فى السلام 1978، والأديب الراحل نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب 1988، والدكتور أحمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل فى الكيمياء 1999، ومحمد البرادعى، الحاصل على جائزة نوبل للسلام 2005.

منذ نهاية السبعينيات، وعلى مدى أكثر من 5 عقود، تراجع مستوى التعليم، وتعرض لحالة من عدم الاستقرار، صعودا وهبوطا، مرتبطا فى ذلك بنوعية الوزراء المسئولين عن هذا الملف المهم والحيوى، ورؤيتهم للتطوير، وارتباط كل ذلك بمدى القدرة على تطبيق الأفكار المطروحة على أرض الواقع، لأن الأفكار والرؤى تكون أحيانا حالمة، ولا تتسق مع الواقع، ومن هنا تحدث أزمات التطبيق ومشكلاته.

لكل هذا كان لابد من الاتجاه نحو إنشاء مجلس أعلى للتعليم والبحث العلمى والتدريب، ليكون بمنزلة الأب الشرعى لكل أنواع التعليم ومشتقاته، من تعليم قبل الجامعى والتعليم الجامعى والبحث العلمى، بحيث تكون هناك إستراتيجية ثابتة ومتطورة للتعليم فى مصر على كل مستوياته وبجميع أشكاله، وتتطور باستمرار، لمواكبة التغيرات العالمية السريعة والمتلاحقة فى هذا المجال، وتستند إلى أسس واقعية وعملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

المجلس الأعلى للتعليم ضرورة، وكان ينبغى وجوده منذ 6 عقود على الأقل، بعدما سبقنا فى ذلك المجال العديد من دول العالم المتقدم، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، وكذلك دول العالم التى تتشابه مع ظروفنا مثل المغرب والإمارات.

خلال جلسات الحوار الوطنى، ناقشت لجنة التعليم والبحث العلمى مشروع القانون، الذى أحالته الحكومة إليها، للنقاش المجتمعى، والحذف والإضافة منه وفيه، بحيث يكون معبرا بشكل حقيقى عن احتياجات المرحلة الحالية، ويصبح هذا المجلس هو الآلية الدائمة لتطوير التعليم والبحث العلمى، ويكون الذراع الطولى للدولة المصرية فى هذا المجال، بعيدا عن المتغيرات الشخصية للوزراء المعنيين بهذا الملف فى الحكومات المتعاقبة.

سألت د. جمال شيحة، مقرر لجنة التعليم والبحث العلمى فى الحوار الوطنى رئيس لجنة التعليم السابق فى مجلس النواب، عن مقترح المجلس الأعلى للتعليم، وعلاقته بالحوار الوطنى، وأهمية التوقيت؟.

أجاب: تأخرنا كثيرا فى هذا المجال، لكن أن تأتى متأخرا أفضل من ألا تأتى أبدا، وقد أحالت الحكومة إلى الحوار الوطنى مشروع قانون خاصا بإنشاء مجلس أعلى للتعليم، وهو خطوة مهمة جدا وضرورية، لإعادة هيكلة التعليم، ووجود رأس وعقل للتعليم والبحث العلمى بكل مستوياته (الجامعى ـ قبل الجامعى والفنى - البحث العلمى - التدريب).

وأضاف: هذا المجلس سوف يكون هو الجهة المنوط بها وضع الإستراتيجيات والخطط، ومتابعة تنفيذها، وتقديم تقارير سنوية عن أحوال التعليم والبحث العلمى إلى الجهات الرسمية المنوط بها ذلك، من حكومة وبرلمان، من أجل المتابعة المستمرة، وتلافى العثرات، وحل المشكلات أولا بأول، والتنسيق بين الجهات التعليمية المختلفة، من التعليم قبل الجامعى والتعليم الجامعى والبحث العلمى، وبكل مشتملاته الأكاديمية والبحثية المختلفة.

سألت: هل هناك اختصاصات محددة تمت مناقشتها وإقرارها من قِبل المجتمعين فى لجنة التعليم، ومن شارك فى النقاش؟.

أجاب د. جمال شيحة: المناقشات كانت علنية، وشاركت فيها أعداد كبيرة من الخبراء والمختصين، وكذلك أولياء الأمور الممثلون فى المجلس الأعلى لأولياء الأمور، وأيضا الطلاب من خلال الاتحادات الطلابية المختلفة فى المدارس والجامعات، والخريجون الجدد، وكل من رغب فى المشاركة، لأن المناقشات كانت مفتوحة وعلنية.

هذه المشاركة الكبيرة والفاعلة كان لها أكبر الأثر فى إثراء المناقشات حول مسودة مشروع القانون، الذى أحالته الحكومة حيث كان التركيز الأساسى للمناقشات على كيفية إيجاد إستراتيجيات دائمة ومتطورة فى آن واحد، بعيدا عن تعاقب الوزراء أو تغييرهم لأى سبب من الأسباب، بما يضمن تجنب «الانتكاسات» المفاجئة فى خطط تطوير التعليم.

وأشار إلى أن الهدف الرئيسى لهذا المجلس المقترح هو توحيد سياسات التعليم والتدريب بجميع أنواعه ومراحله، وتحقيق التكامل فيما بينها، والإشراف على تنفيذ هذه السياسات، وربط مخرجات التعليم بمتطلبات سوق العمل المحلى والدولى، إلى جانب النهوض بالبحث العلمى ومؤسساته، ليتحول إلى قاطرة مهمة تسهم فى النقلة النوعية للدولة المصرية على مختلف الأصعدة، وفى كل المجالات.

أيضا تمتد مظلة المجلس الأعلى إلى التعليم الفنى، والتدريب المهنى، والمعاهد والجامعات التكنولوجية، فى إطار الرؤية المتكاملة والسياسة الموحدة التى تستهدف النهوض بكل أركان المنظومة التعليمية والبحث العلمى، وكذلك متابعة تطوير وتطبيق الإطار القومى للمؤهلات الوطنية.

سألت عن النتائج التى أسفرت عنها المناقشات فيما يخص تبعية المجلس واستقلاليته؟.

أجاب د. جمال شيحة: كان هناك إجماع على أن يكون المجلس الأعلى للتعليم مستقلا تماما، وبعيدا عن الحكومة، مثله فى ذلك مثل المجالس العليا فى الدول التى سبقتنا فى هذا المجال، وأن يتبع رئيس الجمهورية بشكل مباشر، مثله فى ذلك مثل المجلس الأعلى فى بريطانيا الذى يتبع الملك، والمجلس الأعلى فى فرنسا الذى يتبع رئيس الجمهورية.

قلت: ما هى أوجه التشابه والاختلاف بين مسودة مشروع المجلس الأعلى للتعليم المحالة من الحكومة للمناقشة، وبين الشكل النهائى الذى خرج من مناقشات الحوار الوطنى؟.

أجاب مقرر لجنة التعليم والبحث العلمى: هناك اختلافات جوهرية كثيرة، أبرزها ما يتعلق برئاسة المجلس، وهل تكون لرئيس الوزراء أم شخصية مستقلة؟، حيث تم التوافق على أن تكون شخصية مستقلة من الخبراء البارزين فى هذا المجال، وكذلك تشكيلة المجلس، حيث اتفق الحاضرون أيضا على أن تكون تشكيلة المجلس الأعلى المقترح من الخبراء والمعنيين فى هذا المجال أو المجالات ذات الصلة، بعيدا عن الصفات الرسمية والوزارية، حيث ضمت مسودة المشروع عددا كبيرا من الوزراء ضمن تشكيلة المجلس، إلا أن المجتمعين فى الحوار الوطنى توافقوا على أن تكون تشكيلة المجلس كلها من الخبراء، وأن يكون المجلس مستقلا تماما، وبموازنة مستقلة، وينعقد بشكل دورى ومنتظم، طبقا للحاجة إلى ذلك، وأن تكون تبعية المجلس إلى السيد رئيس الجمهورية مباشرة، لمزيد من الفعالية وسرعة الإنجاز.

أعتقد أن التوافق حول إنشاء المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمى فى الحوار الوطنى يأتى ضمن مخرجات الحوار الوطنى القوية والفاعلة فى القضايا الإستراتيجية والمحورية التى يحتاج إليها المجتمع خلال الفترة المقبلة، على اعتبار أن التعليم والبحث العلمى قضية إستراتيجية قومية ومحورية، ليعود التعليم المصرى رائدا كما كان، ينجب العلماء والرواد والمتميزين فى كل المجالات، وينشر النور والضياء على المحيطين العربى والإفريقى كما كان دائما.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ا. عبد المـحسن سـلامة

    ا. عبد المـحسن سـلامة

    رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام