من المجلة - ملف العدد

الحوكمة البيئية وتأثيرها فى مواجهة التغيرات المناخية

طباعة

تعد الحوكمة البيئية (Environmental Governance) أحد المفاهيم حديثة النشأة والمرتبطة بزيادة الوعى المجتمعى وتنامى الاهتمام بمفاهيم الحوكمة والإدارة الرشيدة،  لكنها برزت بوصفها مجالا منفصلا منذ أن دخلت القضايا البيئية جدول الأعمال الدولى فى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وتشير الحوكمة البيئية إلى القوانين والممارسات والسياسات والمبادئ والمعايير التى تشكل كيفية تفاعل الأفراد مع البيئة من جهة،  وتسعى إلى تنظيم عمل المؤسسات والمنظمات المعنية بقضايا البيئة من جهة أخرى.
وجاء الاهتمام بحماية البيئة نظرا للتطور الصناعى والتكنولوجي؛ الذى خلق مشكلات بيئية متعددة أثرت على الإنسان والكائنات الحية عن طريق الاستغلال غير العقلانى للثروات الطبيعية دون مراعاة حقوق الأجيال اللاحقة. وعليه، ظهرت الحوكمة البيئية للحماية من كل الانتهاكات البيئية؛ بالاستغلال الرشيد والمستدام للموارد،  مساهمة فى تحقيق التنمية المستدامة من خلال وضع استراتيجيات وسياسات بيئية فعالة، ومؤسسات ذات كفاءة، وتشريعات بيئية، تستدعى وجود إدارة بيئية رشيدة مع مساهمة جميع الفواعل والتوجه إلى الاقتصاد الأخضر لتحقيق التنمية المستدامة والأمن البيئي.

مفهوم الحوكمة البيئية وأهدافها:
من الممكن النظر إلى الحوكمة البيئية باعتبارها نظرية ترى العالم كلًا مترابطًا، والحفاظ عليه ككل مسئولية الجميع، وهى بهذا تملك نظرة عامة على مجمل بقاع العالم ومكوناته وبنياته. ناهيك إلى أنه من الممكن إدارة هذا الكل المترابط؛ أى العالم، وإدراته، وتوجيهه الوجهة السليمة؛ أملًا فى توفير عيش آمن ومستدام لكل سكان الكوكب. والأهم من ذلك كله أن الحوكمة البيئية ترى أن ثمة رابطة وشيجة بين البيئة والسياسة؛ إذ تعمل على تحديد ترتيبات النطاق الكامل للعمليات والآليات والمنظمات التنظيمية التى من خلالها يؤثر الفاعلون السياسيون فى الإجراءات والنتائج البيئية.
اللافت  للنظر فى الحوكمة البيئية أنها رغم تقيدها بتلك النزعة البيئية فإنها مفهوم متعدٍ متداخل، يطول الاختصاصات المختلفة.
فالحوكمة البيئية هى مفهوم فى البيئة السياسية والسياسة البيئية التى تدعو إلى الاستدامة (التنمية المستدامة) باعتبارها الوظيفة الأعلى لإدارة جميع الأنشطة البشرية، بما فيها: السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهناك من يُعرّف الحوكمة البيئية بأنها مجموع التفاعلات بين الجهات الفاعلة فى المجتمع، والتى تهدف إلى تنسيق وتوجيه وتنظيم وصول الإنسان إلى البيئة واستخدامها والتأثيرات فيها؛ من خلال قرارات ملزمة جماعيًا.
وكما هو واضح، فإن الهدف النهائى للحوكمة البيئية هو الاستدامة؛ أى استدامة الموارد الطبيعية الموجودة على ظهر هذا الكوكب، المنهك، والذى يتعرض لعمليات تدمير مطردة.
وهى (أى الحوكمة البيئية) نابعة عن وعى بجملة التحديات والمخاطر التى يعانى منها سكان العالم فى الوقت الراهن، فحين تندثر الموارد أو تقل بشكل ملحوظ فإن جميع الأحياء ستكون معرضة للخطر، وسيكون الجميع تحت وطأة التهديد.
وتتمحور أهداف الحوكمة البيئية حول البيئة والحفاظ عليها وحمايتها؛ لما تمثله من قيمة جوهرية، وكذا وضع الأسس المنطقية للإدارة المستدامة للموارد من أجل المنفعة البشرية والتخفيف من المخاطر الآنية أو طويلة الأجل على صحة الإنسان ورفاهيته.
وتحاول الحوكمة البيئية كذلك بيان الآثار المترتبة على تكثيف الترابط العالمي، والطريقة التى يجبر بها هذا الترابط الجهاتِ الفاعلة الحاكمة بشكل متزايد على مواجهة المشكلات التى تتخطى نطاقها المباشر وولايتها القضائية.
على أية حال، يمكن اختصار أهداف الحوكمة البيئية على النحو التالي: الحفاظ على البيئة وحمايتها، والتخطيط المكانى، واستخدام الأراضي، والإدارة المستدامة للموارد الطبيعية، وحماية صحة الإنسان.
ومن أجل الوصول إلى كل هذه الأهداف الطموح تعمل الحوكمة البيئية عبر نطاقات لمعالجة المشكلات البيئية المحلية والعالمية.
وتنطلق الحوكمة البيئية من مجموعة من المنطلقات والمبادئ العامة التى يلخصها «رواد الأعمال» وهى ترسيخ الاهتمام بالبيئة فى جميع مستويات اتخاذ القرار، وتصور المدن والمجتمعات والحياة الاقتصادية والسياسية كمجموعة فرعية من البيئة، فكل شيء فرعى والبيئة هى الأساس، وكل الأهداف ما لم تؤد إلى منفعة بيئية فستمسى أهدافًا عديمة النفع والقيمة. بالإضافة إلى التأكيد على ارتباط الناس بالنظم البيئية التى يعيشون فيها، وعلى الرغم من بداهة هذا الأمر إلا أن إغفاله أو حتى عدم الوعى به يؤدى إلى عواقب وخيمة، ولعل ما نشهده اليوم من تغيرات مناخية أحد تجليات عدم الوعى البيئي.
وتنطلق الحوكمة البيئية من مبدأ عام آخر مفاده تعزيز الانتقال من أنظمة الحلقة المفتوحة (مثل التخلص من القمامة بدون إعادة التدوير) إلى أنظمة الحلقة المغلقة (مثل الزراعة المستدامة واستراتيجيات التخلص من النفايات).
بناء على ذلك، فإن الحوكمة البيئية ترتبط على نحو وثيق بعدة مفاهيم وقضايا جوهرية؛ أهمها: التنمية المستدامة، والاستدامة بشكل عام، وإعادة التدوير، فضلا عن الأثر السلبى للتصنيع والسيرورات الحضارية المختلفة.

من الإدارة البيئية إلى الحوكمة البيئية:
هناك مشكلتان أساسيتان ترتبطان النظام الإيكولوجى، هما: التلوث، واستنزاف الموارد الطبيعية اللذين نجم عنهما العديد من الآثار السلبية على البيئة، منها الاحتباس الحرارى، وثقب الأوزون، وعدة قضايا بيئية أخرى أدت إلى تدهور النظام البيئى، فضلًا عن أن التغيرات المناخية الناتجة عن الاحتباس الحرارى تؤثر على حياة الإنسان وقدرته على الاستمرار فى الحياة، حيث إن تغير المناخ يؤثر سلبًا على الأبعاد الأربعة للأمن الغذائى (توافر الغذاء، وقدرة الوصول إليه، وقدرة استخدامه، واستقراره).
من هنا، ظهرت الحاجة الماسة لإيجاد حلول أكثر صرامة لحماية البيئة، والحفاظ على الموارد الطبيعية، والبحث عن بدائل للإدارة البيئية التقليدية للنظم الإيكولوجية بما يحقق التنمية المستدامة التى تحقق الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية لتلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، لذا ظهر مصطلح الحوكمة البيئية وأهمية التحول من الإدارة البيئية إلى الحوكمة البيئية كسبيل لتحقيق التنمية المستدامة حفاظًا على الموارد الطبيعية، ومن هنا يمكن للحوكمة البيئية أن تعرف بأنها: «مجموعة من الإجراءات والآليات التنظيمية، لترشيد تعامل الإنسان مع بيئته فى كافة الاستعمالات ومختلف الأنشطة، فهى عبارة عن كل مترابط بين مجموعة من الفواعل الرسمية وغير الرسمية». كما يمكن تعريفها من منطلق آخر بأنها: «مبدأ شامل ينظم السلوك العام والخاص نحو مزيد من المساءلة والمسئولية من أجل البيئة، فهى تعمل فى كل المستويات بدءًا من المستوى الفردى وصولًا إلى المستوى العالمى، كما تدعو إلى قيادة تشاركية ومسئولية مشتركة من أجل الحفاظ على الاستدامة البيئية».
والتعريف الموجز لمصطلح الحوكمة البيئية هو: مجموعة من القواعد والإجراءات والآليات التى تضبط سلوكيات الفرد والمؤسسة فى التعامل مع البيئة والحفاظ عليها وعلى مواردها لتحقيق ما يعرف بالاستدامة البيئية، وذلك وفق مبادئ محددة وبمساهمة كل الأطراف الفاعلة.
ولكن الإشكالية الكبرى تكمن فى كيفية التحول من الإدارة البيئية إلى الحوكمة البيئية، مع وجود إشكاليات تعيق هذا التحول، منها تداخل القوانين وعدم مشاركة المجتمع المدنى البيئى وأصحاب المصلحة فى المسئولية تجاه حماية البيئة، مما يمثل تحديًا تكمن أكبر وأهم أسبابه فى غياب الوعى البيئى، والمسئولية البيئية للأفراد والمنشآت والمجتمع ككل، وهنا تأتى أهمية الحوكمة البيئية كضابط للسلوك البيئى العام والخاص، ووضع آليات للرشادة والاستدامة البيئية بمشاركة كل الأطراف الفاعلة كلٌ فيما يخصة لكل مدخل من مدخلات التحول من الإدارة البيئية إلى الحوكمة البيئية، بحيث يجب ألا يخضع أى قرار لفردية مسئول أيا كانت درجته، ومن أهم أساسيات التحول من الإدارة البيئية إلى الحوكمة البيئية:

أولًا- التحول من التـركيـز على المنظومة البيئية الطبيعية إلى المنظومة البيئية الشاملة، حيث توجد ثلاث منظومات للبيئة، وهى: المنظومة الطبيعية وتشمل الهواء، والماء، والتربة، والنباتات وغيرها، والمنظومة الإنتاجية وتشمل الآلات والعنصر البشرى، والمواد الخام المستخدمة لإنتاج السلع أو الخدمات، والمنظومة الاجتماعية وهى قيم، ومفاهيم، وعادات، وتقاليد، والسلوكيات المجتمعية وثقافات الشعوب. لذا فإن التحول من الإدارة البيئية إلى الحوكمة البيئية يتم من خلال التحول من التـركيـز على المنظومة الطبيعية إلى التـركيـز على المنظومتيـن الإنتاجية والاجتماعية. بالإضافة إلى المنظومة الطبيعية.
ثانيًا- التحول من مفهوم حماية البيئة وتنميتها إلى مفهوم التنمية المستدامة، حيث تهدف الإدارة البيئية بشكل رئيسى إلى حماية البيئة من الأخطار الطبيعية والبشرية، مثل: البـراكين والزلازل والفيضانات، وعمليات إزالة الغطاء النباتى ومخلفات المصانع، وهنا تركز الإدارة البيئية على مكافحة التلوث بأشكاله المختلفة (المائى، والهوائى، والسمعي)، كما تعمل الإدارة البيئية على تنمية البيئة وتوفير محميات طبيعية للنباتات والحيوانات النادرة، كما أن حماية البيئة تهدف للحفاظ على جودة الوسائط البيئية أو استعادتها، من خلال منع انبعاث الملوثات أو الحد من وجود المواد الملوثة فى الوسائط البيئية التى قد تتكون من تغييـرات فى خصائص السلع والخدمات، وتغييرات فى أنماط الاستهلاك، وتغييرات فى تقنيات الإنتاج، ومعالجة المخلفات أو التخلص منها فى مرافق حماية البيئة المنفصلة، وإعادة التدوير، والوقاية من تدهور المناظر الطبيعية والنظم الإيكولوجية.
بينما تركز الحوكمة البيئية على التنمية المستدامة، ففى عام 1983 عُيِّن الأمين العام للأمم المتحدة، جار هارلم برونتلاند، رئيسًا للجنة مهمتها هى توحيد البلدان لمتابعة التنمية المستدامة معًا. وظهر مفهوم التنمية المستدامة لأول مرة فى عام 1987 مع نشر تقريـر بـرونتلاند، محذرًا من العواقب البيئية السلبية للنمو الاقتصادى والعولمة، وحاول التقريـر إيجاد حلول ممكنة للمشكلات الناجمة عن التصنيع والنمو السكانى.
واعتمد المجتمع الدولى فى قمة الأرض بالبرازيل عام 1992 مصطلح «التنمية المستدامة» بمعنى تلبية احتياجات الجيل الحالى دون إهدار حقوق الأجيال القادمة فى الحياة فى مستوى لا يقل عن المستوى الذى نعيش فيه، هذا وقد حدد المجتمع الدولى مكونات التنمية المستدامة على أنها: نمو اقتصادى، وتنمية اجتماعية، وحماية البيئة ومصادر الثـروة الطبيعية بها. وهذا يعنى أن تكون هناك نظرة شاملة عند إعداد استراتيجيات التنمية المستدامة، حيث تقوم الأبعاد الثلاثة بمراعاة التنمية المستدامة بدقة.
وتعرف التنمية المستدامة «Sustainable Development» بأنها: عملية تطوير الأرض والمدن والمجتمعات، وكذلك الأعمال التجارية، بالاستغلال الأمثل للموارد بشرط أن تلبى احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها.
وأصبحت التنمية المستدامة المبدأ المنظم لتحقيق أهداف التنمية البشرية. وفى الوقت نفسه، الحفاظ على قدرة النظم الطبيعية على توفيـر الموارد الطبيعية وخدمات النظم الإيكولوجية التى يعتمد عليها الاقتصاد والمجتمع.وقد أطلقت الأمم المتحدة فى عام 2015 سبعة عشر هدفًا للتنمية المستدامة، وارتبطت المساعدة فى تحقيقها بعادات بيئية وفقًا للمنظومة البيئية الشاملة (اجتماعية/ اقتصادية/ طبيعية).
ثالثًا- التحول من مفهوم الموارد الطبيعية إلى رأس المال الطبيعى، حيث تؤكد الإدارة البيئية على مفهوم الموارد الطبيعية وكيفية إدارتها بما يكفل الحفاظ عليها وتنميتها، بينما تتعامل الحوكمة البيئية مع هذه الموارد على أنها رأس مال طبيعي.
ويشكل رأس المال الطبيعى أحد الأصول المهمة، لاسيما بالنسبة للبلدان النامية التى يشكل فيها نسبة كبيرة 36%  من إجمالى الثـروة، ويواجه تطبيق رأس المال الطبيعى بعض التحديات فى الدول النامية، من أبـرزها: غياب منهجيات متفق عليها دوليًا لتقييم النظام الإيكولوجى، وعدم استيعاب واضعى السياسات لحساب رأس المال الطبيعى، والقصور فى قدرات العديد من البلدان النامية.

الحوكمة البيئية والرؤية المصرية للحد من تأثيرات تغير المناخ:
تعتبر مصر من الدول الداعمة للحد من تأثيرات وتداعيات تغير المناخ العالمى لما لهذه التغيرات من تهديدات على الأمن الغذائى، والصحى، والاقتصادى نتيجة تدهور البيئة فى هذه الدول. وتتفاوت شدة التداعيات وفقا لطبيعة المناطق التى توجد بها الدول النامية والمتقدمة على حد سواء. ولقد بدى واضحا تأثير الجفاف وقلة الأمطار على المناطق التى لم تكن تعانى من هذه الظاهرة نتيجة ارتفاع الحرارة غير المسبوق فيها والذى أدى بدوره إلى احتراق مساحات خضراء من الغابات التى كانت تعمل على خفض غازات الاحتباس الحرارى والحد من تلوث الهواء وهناك التأثيرات الصحية المؤدية للموت والناتجة عن احتراق  الغابات وهو ما يدخل العالم فى دائرة مفرغة من تداعيات تغير المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض.
ولعل أحد مظاهر ارتفاع درجة الحرارة، خاصة أثناء فصل الصيف فى مصر حدوث الحرائق الذاتية لأكوام المخلفات الصلبة، ما يزيد من تركيز غاز ثانى أكسيد الكربون، وهو أحد أسباب الاحتباس الحرارى بالإضافة إلى الآثار الصحية المتزايدة نتيجة احتراق مخلفات مواد التغليف والتعبئة المنتجة من أنواع البلاستيك المختلفة وجميعها مواد شديدة الخطورة على الصحة العامة مثل مجموعة مركبات الدايوكسن، والبنزوبايرين، والبنزوفيران نتيجة الاحتراق غير المحكوم لهذه المخلفات.
وهناك جهود مكثفة من أجهزة الدولة تتزعمها وزارة البيئة على كافة القطاعات يذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: جهود جهاز تنظيم إدارة المخلفات حيث يتم الآن إلغاء مدافن القمامة العشوائية وإعداد مدافن صحية محكومة للحد من الحرائق وما تسببه من اختناقات وخفض فى قيمة الضرائب المحصلة من استخدام الأراضى بطريقة آمنة. هذا إلى جانب جهود تحسين منظومة الجمع والتخلص الآمن من المخلفات نتيجة البدء فى إصدار تصاريح مبنية على المعرفة الكاملة للعاملين فى منظومة المخلفات الصلبة والخطرة وكيفية تعاملهم مع المخلفات خاصة مرحلة التخلص الآمن بما يضمن الحد من التخلص العشوائى وما ينتج عنه من آثار صحية على العاملين فى منظومة الجمع والعاملين فى منظومة التخلص النهائى بما يضمن الحد من إصابتهم بأمراض المهنة، بالإضافة لضمان تحسين منظومة إدارة المخلفات، إلى جانب تحسين عمليات التدوير للكثير من الموارد الصناعية كالبلاستيك والورق والآلياف النسيجية بالإضافة إلى العديد من المخلفات بما فى ذلك تطوير عمليات هذه الصناعات لتحقيق بيئة عمل صحيحة، وبما يضمن جودة المنتجات الناتجة واستخداماتها الآمنة.
ولعل ما قامت به قيادة الدولة المصرية من طلب استضافة مؤتمر المناخ Cop27  فى مدينة شرم الشيخ لمن الأمثلة الفاعلة على التزام وجدية الدولة فى العمل لدعم الجهود البيئية، مثل إرساء قواعد الحد من غرق شمال الدلتا من خلال حماية الشواطئ وإنشاء حواجز تكسير الأمواج للشواطئ المفتوحة على البحر الأبيض المتوسط ووضع الكتل الخرسانية على الشواطئ الرملية للحد من شدة تآكلها نتيجة ارتفاع منسوب البحر وزيادة حدة النوات التى تتعرض لها شواطئ الدلتا.
وتعمل الدولة على الحد من تأثير التغير فى درجات الحرارة فى أثناء السنة عن المعتاد والذى أصبح من ظواهره الانخفاض غير المسبوق فى الحرارة أثناء الشتاء لدرجة سقوط الثلوج على الشواطئ فى شمال الدلتا إلى جانب ارتفاع درجة الحرارة فى الصيف إلى مستويات غير مسبوقة فى هذا الفصل الذى أصبح يمتد إلى منتصف فصل الخريف على جميع مناطق مصر. وتعتبر الزيادة فى استهلاكات الطاقة للتدفئة فى الشتاء وللتكييف فى فصل الصيف من التحديات التى تعمل الدولة على مجابهتها بتوفير الزيادة المطلوبة من مصادر الطاقة لمجابهة هذا التغير المناخى الذى تشهده الدولة ومن المتوقع زيادته ما لم يكن هناك توجه وعمل جدى للحد من هذه الظاهرة. ثم هناك المعضلة الكبرى فبرغم زيادة احتياجات السكان للطاقة المتزايدة يجب على المجتمعات الحد من استخدام مصادر الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفورى والعمل على الحد من نواتج احتراقها ومعالجة الانبعاثات الناتجة عن تولد الطاقة غير النظيفة والتحول إلى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، مثل الخلايا الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة السدود المائية، والحد من فاقد نقل الكهرباء والعمل على رفع كفاءة تكنولوجيات محطات توليد الكهرباء.
على صعيد الصحة، فلابد من توجيه الأهمية نحو مواجهة تأثيرات البرودة الشديدة والحرارة المرتفعة فهى تؤثر سلبا على صحة كبار السن والنساء عموما والحوامل خاصة وكل مرضى الأمراض المناعية من الجنسين لانخفاض مناعة الجسم فى أثناء هاتين الظاهرتين المناخيتين، مما يستوجب أخذ ذلك فى الحسبان عند تصميم الأبنية السكنية واستخدام المواد العازلة لجدران وأسقف المبانى السكنية والإدارية إذا أردنا تحقيق بيئة عمل منتجة للعاملين. ولقد اتنبهت كثير من دول العالم لأهمية تأثير درجة حرارة الجو  فى بيئة العمل أو المنازل ويتم الآن تعديل معايير البناء لمجابهة تأثير هذه الظواهر المناخية على صحة أفراد المجتمع، لما لذلك التأثير من زيادة فى حدة الأمراض وما يتبعه من ضغط على خزانة الدولة للعلاج. وقد يعتقد البعض أن الحديث فى هذا الموضوع ضرب من الرفاهية إلا أن الواقع فى كثير من الدول يؤكد أهمية تأثيرات تغير درجة الحرارة على الإنفاق فى الصحة العامة،  وهو البعد الذى لم تحسبه العديد من الدول النامية بطريقة صحيحة وأدى إلى عدم توجيه الخدمات الصحية المطلوبة لمجابهة أعراض التدنى الصحى نتيجة ارتفاع درجات الحرارة او انخفاضها عن المعدلات المعتادة خلال فصول السنة.
ويعتبر التدهور الصحى والبيئى من أكثر العلامات البارزة التى يعانيها العالم، ومصر من إحدى الدول التى ستزداد معاناتها نتيجة ارتفاع منسوب البحر كنتيجة لارتفاع درجة حرارة القطبين الشمالى والجنوبى وذوبان كتل الجليد مما قد يعرض جزءا لا يستهان به من شمال الدلتا للخطر، وإنفاق الدولة المتزايد على حماية الشواطئ وهو ما يمثل عب ضخما على كاهل ميزانية الدولة.  ومن العوامل المؤثرة فى تغير درجات الحرارة حدوث ظاهرة الأعاصير والأمطار الغزيرة المؤدية للفياضانات وماتسببه من تحول الآلاف إلى مشردين بيئيين لفقدهم زراعاتهم وموطنهم ومصدر دخلهم الذى يعيش عليه الآلاف منهم نتيجة نفوق الماشية والطيور والأسماك نتيجة طمر موائلهم البحرية وداخل البحيرات.
والسياسات المائية لمصر مدمج بها خطط مقاومة لنقص المياه، حيث تنشأ محطات ضخمة لمعالجة مياه الصرف الزراعى الملوثة بمياه الصرف الصحى والصناعى وذلك لإمكان إعادة استخدام المياه المعالجة فى الزراعة للحد من كافة موجات الجفاف التى قد تتعرض لها المناطق الزراعية المستصلحة فى المناطق الصحراوية. وكما تعمل المناطق الزراعية على إعطاء المزيد من الطعام لتحقيق الأمن الغذائى إلا أن هناك أبعادا يجب عدم إهمالها، مثل ضرورة التحكم فى استخدام المبيدات الزراعية. وتعمل وزارتا الزراعة والبيئة من خلال جهد جهاز إدارة المخلفات على التأكد من عدم استيراد المخلفات الممنوعة دوليا حتى لا يتلوث الهواء والتربة والغذاء بالمبيدات المحظورة التى تؤثر بشدة فى الصحة العامة.
ومصر من الدول التى تعتمد فى اقتصادها على المنتجات الزراعية. ويؤثر تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة على الحاجة لزيادة استخدام الكيماويات الخطرة المستخدمة فى مقاومة الآفات الزراعية، مع تداعيات ارتفاع تركيز متبقياتها فى المحاصيل والخضراوات والفاكهة والثروة الحيوانية المعتمدة عليها فى غذائها.
يؤثر تغير المناخ فى تغير زمن دورة حياة الآفات الزراعية ومسببات الأمراض الحيوانية، ما يؤدى إلى قصرها وضرورة استخدام مقاومات الآفات التى تصل إلى مرحلة البلوغ والطور المعدى سريعا مما يزيد من أعدادها ويؤثر على إنتاجية الأرض الزراعية والثروة الحيوانية بما يقلل من الغذاء المتاح وارتفاع أسعاره وهو ما تعمل الدولة على محاربته فى محاولة لتثبيت الأسعار والحد من معدلات زيادة الفقر ونقص الغذاء.
وتجدر الإشارة هنا  إلى الدور شديد السلبية من الدول المتقدمة التى لم تلتزم بالجهود الكافية لخفض استهلاكها من الطاقة منذ العديد من السنوات السابقة وهو ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الدولية على كل المحاور التنموية وجعل الضغوط على الدول النامية أشد بكثير مما كان متوقعا خلال فترة زمنية قصيرة، حيث إنها ليس لديها الموارد الاقتصادية الكافية التى تجابه بها تداعيات تغير المناخ القاسية عليها.
وتظهر هنا أهمية الحوكمة البيئية فهى نظام لابد وأن يدمج فى كافة مراحل المشروعات بدءا من التخطيط لها مرورا بمراحل التنفيذ ثم التشغيل، بما يضمن الترشيد فى استخدام الموارد وحماية القوى البشرية العاملة فى المشروعات ومنع تلوث المناطق المتاخمة للمشروعات الجديدة. وتتم الحوكمة البيئية لمختلف المشروعات الجارية والمتوقعة من خلال إجراء دراسات تقييم الأثر البيئى لهذه المشروعات لما لها من قدرة على تحديد الآثار الواجب التحكم فيها أثناء مراحل المشروع التخطيطية والتنفيذية والتشغيلية وهو عامل مهم فى التحكم فى كل عناصر تدهور نوعية الهواء والماء والحفاظ على التربة من التلوث بما يحد من عوامل تغير المناخ المحلية. وتتم هذه الدراسات التنبؤية بناء على الخبرة التراكمية العالمية فى التأثيرات البيئية للمشروعات المماثلة وتحديد عوامل التدهور البيئى والتأثير الإيجابى لكل مشروع بهدف الوصول إلى التنمية المستدامة التى تحقق تعظيم الهدف التنموى من المشروعات دون التأثيرات السلبية على المجتمع والعاملين فيه وكذلك الحد من كافة مسببات الاحتباس الحرارى والتدهور البيئي.
ويتم تحقيق الحوكمة البيئية من خلال اعتماد إدارات بيئية متكاملة ذاتيا فى المشروعات كما تحددها دراسات تقييم الأثر البيئى للمشروعات الجديدة أو تنفيذ مشروعات توفيق أوضاع للمشروعات القائمة بما يطابق المعايير التى وضعتها قوانين البيئة فى مصر، وأصبحت ملزمة لكل الهيئات، خاصة بعد التوجه السياسى لقيادة الدولة التى وضعت من أولوياتها التنموية الاهتمام بتحسين الأوضاع البيئية ومطابقة قوانين البيئة المصرية كوسيلة فاعلة لتحقيق الحوكمة البيئية.
وتلزم القوانين البيئية وجود إدارات تفتيش لدى وزارة البيئة من خلال جهاز شئون البيئة وجهاز تنظيم وإدارة المخلفات، للتحقق من تنفيذ المشروعات وكافة الجهود التنموية والخدمية مع الالتزام بما يجب أن تقوم به تجاه تحسين أدائها البيئى فى تعظيم العائد الاقتصادى من الاستثمار فى مجالات خدماتها. ويعتقد البعض أن الحفاظ على البيئة بجميع محاورها أمر مكلف لأنه قد يستلزم زيادة بعض الإنفاق فى مرحلة الاستثمار الأولى للمشروعات. لكن هذا الاستثمار يعود بالنفع المالى على المشروع نتيجة الحد من دفع الغرامات نتيجة عدم الأداء البيئى الصحيح وغير المدمر للمشروع ولمن حوله من النشاطات السكانية المحيطة التى تطالب بالتزام المشروعات بمحددات أدائها البيئية، وتجنب القضايا التى تكبل النشاط التنموى أضعاف المبالغ التى رؤى توفيرها عند الإنشاء.
ويتم عمل الرصد الدورى فى المنشآت المختلفة لمعرفة مدى التزامها بمحددات تلوث الهواء فى كل من البيئة الداخلية والخارجية للحد من تأثير التلوث الناتج عن نشاط هذه المنشآت والإسراع فى اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمنع استمراره. وهناك مراعاة محددات تلوث الهواء أيضا فى بيئة العمل داخل مختلف نشاطات التنمية للحفاظ على صحة العاملين،  لأن القوى البشرية المدربة على القيام بنشاطات معينة يصعب استبدالها بسرعة دون فقد المنشأة لكفاءة العاملين بها، وهو أمر يعود بالخسارة الاقتصادية على المنشآت.
كذلك، يتم الرصد على المدخلات والمخرجات المائية للمنشآت وكذلك إدارة المواد الكيماوية، خاصة الخطرة للحد من التأثيرات الصحية شديدة الخطورة نتيجة التعامل غير الحذر مع هذه المواد. وهناك اهتمام كبير من الدولة بتخزين هذه المواد إزالة تراكماتها فى الموانئ البحرية والجوية حتى لا تتكرر مأساة ميناء بيروت.
ولتستطيع الدولة من خلال جهودها التنموية تحقيق الحوكمة البيئية، فلابد من زيادة الوعى البيئى والصحى المرتبط بالتدهور البيئى من خلال قنوات الإعلام ورفع مفهوم الترابط بين التدهور البيئى وتدهور الإنتاج وضياع الأمن الاقتصادى حيث يشكل التلوث إهدارا للموارد الطبيعية وصحة القوى البشرية ومدخلات العمليات الخدمية.
ويجب أن تدعم الدولة زيادة أعداد القوى البشرية وتدريبها بجهازى وزارة الدولة لشئون البيئة لتحقيق التغيير المنتظر بعد مؤتمر المناخ فى أداء كافة الأجهزة الحكومية والقطاعات التنموية والخدمية. ولعل من أولى المبادرات التى بدأت بالفعل هى تحويل المنشآت الصحية إلى منشآت خضراء صديقة للبيئة تتحقق فيها كافة أبعاد التحكم فى توابع تغير المناخ وتحقيق الجودة ومنع انتشار العدوى بما يضمن سلامة المرضى والعاملين فى قطاع الرعاية الصحية على حد سواء.
وثمة احتياج متزايد فى أفرع جهاز شئون البيئة وجهاز تنظيم إدارة المخلفات فى المحافظات لمعدات رصد ملوثات الهواء خاصة للمركبات العضوية الثابتة الناتجة عن القطاعات الصناعية والزراعية والصحية، وكذلك تركيز الكيماويات السامة فى المنتجات المستوردة والتى أعد جهاز تنظيم المخلفات قوائم منع استيرادها مسبقا قبل ورود الشحنات المستوردة.   
بالإضافة إلى ذلك، هناك توجه شديد الإلحاح من الدول النامية لمطالبة الدول المصنعة للكيماويات الصناعية وخاصة الزراعية بتحقيق الشفافية حول خواص المواد المصدرة منها نظرا لأن تأثير سمية المواد الكيماوية تزداد بارتفاع درجات الحرارة التى يتعرض لها مستخدمو هذه المواد خاصة مع تزايد معدلات استخدامها المتوقعة كنتيجة لتغير المناخ.
رغم كل ذلك، يجب أن يتخذ القائمون على إدارة المنظومة البيئية فى مصر ما يلزم من إجراءات وتعديلات تشريعية نحو التوجه إلى تطبيق مفاهيم الحوكمة البيئية بديلًا عن الإدارة البيئية التقليدية لتحقيق التنمية المستدامة كتوجه عالمى للحفاظ على الموارد الطبيعية، وتوجه وطنى لتحقيق أهداف رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030.

ختامـــًا:
إن جميع التأثيرات الحادثة فى الدول الصناعية الكبرى قد أجبرتها على تغيير رؤيتها، حيث كانت تصرفات هذه الدول من الأسباب الأساسية فى حدوث الكوارث المناخية والبيئية التى أضحوا يعانون منها وهم مرغمون الآن على المساهمة الجادة فى دعم مطالب الدول الأخرى، لأننا جميعا فى قارب واحد وإما نجونا جميعا أو غرقنا فى بحر التداعيات التى لا يعرف مداها إلا الله وحده.

المصادر:

  1. Construction Review online. (2021). Resilient design for buildings in emergency situations and everyday resilience, accessed on: 16/07/2021, at: https://bit.ly/3i5NEpv
  2. Coté, Gilles et Gagnon, Christiane. (2005). “Gouvernance environnementale et participation citoyenne : pratique ou utopie ?, le cas de l„implantation du méga projet industriel Alcan (Alma)”. revue de Nouvelles pratiques sociales, vol. 18, no. 1.
  3. Haddad, Mohamed et Bouzaida, Amir. (2013). “Développement local et gouvernance territoriale : Enjeux et perspectives post-révolution”, Journal of Academic Finance. Vol. 1.
  4. Harding, Charles. (2021). Digital Participation: the Advantages and Disadvantages, accessed on: 24/07/2021  at : https://bit.ly/3iJttMZ
  5.  Lillo, Alexandre et Nadeau, Rachel. (2020). “La conception du territoire par la gouvernance environnementale et le droit constitutionnel : un examen de leur compatibilité à travers l„exemple du basin versant”. revue Les Cahiers de Droit. vol. 61, no. 1.
  6. Negra, Christine et E Manning, Robert. (1997). “Incorporation Environmental Behavior, Ethics, and Values into Non formal Environmental Education Programs”. the Journal of Environmental Education. vol. 28, no. 2.
  7.  Odera, Richard. (2017). The speed of adopting digital accountability in public institutions in India. University of Mysore, Manasagangothri, Mysore-India, download on: 24/07/2021, from: https://bit.ly/2ULouU8
  8. OECD. (2021). Resilient Cities, accessed on: 16/07/2021, at  https://bit.ly/3BOvCjt
  9. Ouédraogo, Paul. (2021). La gouvernance du développement durable. télécharger le : 17/07/2021, du site :https://bit.ly/3iEhAI4
  10. Paterson, Matthew. (1999). “Interpreting Trends in Global Environmental Governance”. The Journal of International Affairs, vol 75, no. 4.
  11. Voglar, John. (2005). “The European Contribution to Global Environmental Governance”. the Journal of International Affairs. vol. 81, no. 4.
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. سامية جلال سعد

    د. سامية جلال سعد

    مستشار برامج الأمم المتحدة لإدماج البيئة والصحة، أستاذ متفرغ لصحة البيئة بالمعهد العالى للصحة العامة، جامعة الإسكندرية