تحليلات - شرق أوسط

تحديات مستقبلية:|أوضاع المسيحيين العرب والصعود الإسلامي بعد الثورات

  • 11-6-2012

طباعة

الأثنين 11-6-2012

شاءت الأقدار أن تكون منطقة الشرق الأوسط مهبطا للديانات التوحيدية الثلاث، وقد تعايش المؤمنون بهذه الديانات جنبا إلى جنب محافظين على تراثهم ومقدساتهم, ولم تخل المنطقة من أتباع لإحدى الديانات الثلاث على مرالتاريخ. وإن كانت هناك غلبة للإسلام مقارنة باليهودية والمسيحية، فإن الأخيرة حافظت على وجود مهم ومعتبر في المنطقة خلال الألفي عام الماضية. لكن هذه المكانة مرشحة للتغيير في المستقبل. فالوجود المسيحي في المنطقة يسير إلى مزيد من التناقص الحاد لأسباب عدة.

ولعل ما شهدته عدد من الدول العربية من ثورات "الربيع" التى أطاحت بالأنظمة الاستبدادية، ووعدت بالنظام الديمقراطي التعددي وتعزيز كرامة الإنسان قد أعطى آمالا للأقليات الدينية العربية، كى تستعيد مكانتها ودورها فى بناء نهضة دولها. لكن نجدها اليوم بعد وصول جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة التشريعية في أكثر من بلد عربي تعاني التخوف والتهديدات في وضع حرج لا يبشر بالتفاؤل بالمستقبل ، خصوصا بعد ما شهدته بلدان عربية تمزقت إلى أكثر من دولة أو إقليم، كما حدث في السودان، والصومال، والعراق، وربما سوريا التي تشهد هذه الأيام شبه حرب أهلية فرقت النسيج الاجتماعي السوري، وأدت الى هجرة المسيحيين العرب من سوريا .

تثير تلك الأحداث المتواترة التساؤلات حول وضع المسيحيين العرب فى الدول العربية التى شهدت – ولاتزال- "ربيعا"، بعد أن سادت فيها أنظمة استبدادية صادرت الحريات وحقوق الجميع من المواطنين، بما فيهم الأقليات. الآن وبعد الثورات العربية، هل تحسن وضع الأقليات المسيحية؟ أين يقف المسيحيون العرب من المد الإسلامي المتنامي في الفترة الأخيرة؟  ماهى طبيعة مخاوف المسيحيين العرب فى البلاد العربية ذات التركز المسيحى، مثل مصر وسوريا والعراق؟.

الإجابة على هذه التساؤلات تستلزم أولا الوقوف على معطيات عدة – تاريخيا وسياسيا - ثم تناول وضع المسيحيين فى عدد من الدول العربية التى شهدت ثورات "ربيعية"، أو بعض الدول التى وقعت تحت أسر الاحتلال للتعرف على موقف المسيحيين من تلك الثورات وعلاقتها بالأنظمة العربية من جانب، ثم الكشف عن أهم المخاوف التى تواجههم مستقبلا على الجانب الآخر.

معطيات أساسية:

1- ليست المسيحية العربية شأنا عقديا أو طائفيا تعنى المسيحى دون المسلم، بل هى قدر تاريخى وثروة روحية لمن انتمى إلى الفضاء الحضارى العربى[1] .  وأكثر مما يبرهن على ذلك هو أنه منذ "الفتوحات" الإسلامية، أصبح المسيحيون متأثرين بقيم العرب وعاداتهم، بل وباتوا جزءا لايتجزأ من الحضارة العربية الإسلامية وصل لحد أن تكون اللغة العربية هى أداة التعبير الأساسية ،بل اللغة الأم للمسيحيين العرب. ولعل أكبر المغالطات فى تاريخ الأديان الحديث ما جرى من إقصاء السيد المسيح –عليه السلام - عن امتداداته العربية، وإلحاقه بما استصنع من مفهوم الأمة اليهودية، حتى يتردد أن يكون المسيح عبريا.

2- إنه فى مجال التحديات الداخلية، لم تعد المشكلة الطائفية مجرد ظاهرة دينية، مضمونها الاختلاف فى الاعتقاد بين أبناء الوطن الواحد، وإنما تحولت إلى معضلة اجتماعية، فهى لم تعد أحد عوامل الصراعات الاجتماعية فقط، وإنما تطورت ليغدو رموزها من الفاعلين الأساسيين فى الحراك السياسى والاجتماعى، سواء لمعارضة سياسات النظام، أو من خلال استخدام النظام لبعض هذه الرموز للالتفاف على العوار الذى تعانيه تلك الأنظمة فى تعاملها مع الأقليات المسيحية.

3- لعب المسيحيون العرب دورا بارزا في إطار مشروع النهضة العربية[2] منذ نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ناهيك عن دورهم في الحركات الوطنية الدستورية، والاستقلالية، ثم في إطار حركات التحرر الوطنى العربية، وكذلك في بناء منظمات المقاومة الفلسطينية. ثمة حضور مؤثر للمسيحيين العرب في بناء دولة ما بعد الاستقلال وفي الحركة القومية الجامعة، وذلك في إطار تأصيل الأفكار القومية العربية والدعوة لها، والدفاع عنها كجزء من عملية التحرر من الدولة العثمانية ، ثم التحرر من المستعمر الأجنبى.

4- من تناقضات التعامل مع الواقع الدينى فى البلاد العربية، أن أغلب هذه البلاد لا تزال تتستر على أعداد المتدينين بأديانها والتابعين لطوائفها، على الرغم من حيوية تلك الإحصاءات فى برامج التنمية والتطوير، وذلك بدعوى الحفاظ على الوحدة الوطنية، وكأن الوحدة الوطنية تتناقض شروطها مع الإلمام بحقائقها .

5- إن الناظر في انعكاسات الثورات المجتاحة للبلاد العربية يلاحظ العديد من المحاسن التي طالت المسيحيين العرب، بما ألحقته من مراجعة لواقع المسيحيين على الخريطتين السياسية والاجتماعية، بعيدا عن العلاقات على مستوى الكنيسة- النظام, من أجل الوصول إلى التفهم الرصين، والتقدير الصائب. فالنظرة العميقة لدور المسيحيين العرب فى دول الربيع العربى أو فى الدول العربية الواقعة تحت الاحتلال أكبر دليل على دحض المغالطات المتعلقة بعلاقة مسيحيى الشرق بالقوى الخارجية، واتهامات التخوين والتشكيك فى ولائهم.

6- بالطبع، ليست جميع التيارات الإسلامية استئصالية وإقصائية، والمؤكد أنها تتفاوت فيما بينها من حيث نظرتها لحقوق المواطنين غير المسلمين. على أن معظم هذه التيارات تنتقص بهذا القدر أو ذاك من “مواطنة” هؤلاء[3]. فموقف الإسلام من غير المسلمين مشكلة صنعها المسلمون والآخرون ، ولم يصنعها الإسلام .ومن ثم، يجب أن تُبذل جهود مكثفة لتطوير خطاب مدني وديمقراطي بمرجعية إسلامية، ينظم عمل هذه الحركات والتيارات.هذا كله رهن إرادة النخب الإسلامية وجدية خطابها فيما يتعلق برؤاها حول الدولة الحديثة .

7- بالنظر إلى عنوان المقال ، يستنتج بداهة أن التناول سيخص وضع المسيحيين العرب فى دول "الربيع" العربى كمصر وسوريا. لكن تلك النظرة تبدو مبتورة، إذا لم يتم الربط بين وضع مسيحيى دول الربيع والمسيحيين فى الدول العربية بشكل عام. فمثلا ما حدث فى السودان بعد الانقلاب السياسى الإسلامى - العسكرى (البشير- الترابى) أدى إلى حرب أهلية مع الجنوب، انتهت إلى تفكيك الدولة ونشأة دولة جنوب السودان، وبروزأشكال من الحيف ضد المسيحيين في الشمال بعد نشأة دولتهم الجديدة في الجنوب. ومن ثم ، فأوضاع المسيحيين العرب بشكل عام ترتبط ببعضها بعضا، وتنعكس كل حالة على الأخرى .

مخرجات الربيع العربى.. مخاوف المسيحيين:

1-  لقد أدى الربيع العربي إلى وصول متزامن لتيارات إسلامية إلى مقاعد السلطة ونحو مراكز الحكم, وليس ذلك أمرا جديدا، فقد تعايش المسيحيون العرب مع الدولة الإسلامية في مراحلها المختلفة، خصوصا وأن الخلافة لم تكن تعبيرا عن دولة دينية بقدر ما كانت تعبيرا عن ملك وراثي .إن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في تاريخ العالم الإسلامي لم تخل من صراعات وأزمات،ولكنها أثبتت في مجملها إمكانية التعايش المشترك بين الطرفين. ولكن الذي جد حاليا هو تلك الأصولية الدينية التي برزت على السطح على نحو غير مسبوق، وكأنها تعلن عن مرحلة جديدة في الشراكة بين المسلمين و"أهل الكتاب" فيما يتصل بالسياسة والحكم في هذا العصر، الأمر الذى أثار مخاوف كثيرة، ومحاذير أكثر[4] .

2-  إن العنف والاضطرابات "الثورية"، ومن القوى المضادة لها، والجماعات الإسلامية السياسية على اختلافها، تميل إلى التعبئة والحشد على أساس الانتماء الدينى والخلفية الأيديولوجية، وهو ما يؤدى إلى تمدد ثقافة الكراهية والتمييز والخوف بين مكونات المجتمعات العربية، ومحاولة نفي التعددية الدينية والمذهبية. من هنا، بدت العمليات الثورية التى شارك فيها بعض المسيحيين المصريين، إضافة إلى أسباب جديدة للانكفاء على الذات الجماعية، والالتفاف حول البطريرك ورجال الدين، في ظل تزايد وقائع انتهاكات حرية التدين والاعتقاد، مع تراجع نسب تمثيل المسيحيين ودورهم في بناء مؤسسات النظام الجديد - سياسياً ودستورياً- وسياسات تشريع سوف تنزع  نحو أسلمة التشريعات، وممارسة قيود على نمط الحياة الحديثة، وأنظمة القيم المواكبة لها، فضلاً عن الحريات الشخصية والعامة.

3-  عنف الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، واستهداف دور العبادة المسيحية كما في مصر (كنيستا صول وامبابة)، والعراق (كنيسة سيدة النجاة)، وتنامى المشكلات الطائفية، الأمر الذى أنتج ثقافة التمييز على مستوى المجتمع على نحو أدى إلى انقسامات رأسية على أساس الانتماء الدينى، مما دفع المسيحيين إلى العزلة أو التفكير فى الهجرة إلى الخارج.

مظاهر التهديدات ونماذج ردود الأفعال:

مصر :  يتركز فى مصر أكبر تكتل مسيحي فى الوطن العربى، والذى كثيرا ما عانى تحت حكم النظام السابق . وكانت مشاركة المسيحيين فى الثورة على الظلم والفساد مشاركة واضحة. ولكن لم يكد يمر شهر على الثورة، حتى انفجرت العديد من الحوادث الطائفية التي فجرتها مشاعر غضب اجتماعي عنيف، مثل حوادث شرف في قرية صول[5]، أو إشاعة احتجاز مسيحية أخرى أسلمت بعد كاميليا شحاتة، التي ظهرت على قناة مسيحية قبل أحداث امبابة[6] بيوم، معلنة بقاءها على مسيحيتها. كما شهد شهر مارس من عام 2011 ثلاثة أحداث طائفية كبيرة، بعضها غير مسبوق، هي على الترتيب: هدم كنيسة صول التابعة لمركز أطفيح بمحافظة الجيزة في 9 مارس، وقتل وتدمير وتخريب في المقطم في 11 مارس[7] ، وقطع أذن قبطي متهم بإدارة أعمال منافية للآداب في محافظة قنا في 24 مارس[8] .

بل وصل الأمر –عقب أحداث ماسبيرو[9]-إلى خروج عدد كبير من تابعى التيار السلفى ليدين الأقباط (النصارى) كما سماهم فى عدد من المحافظات بالإسكندرية، وقنا، وأسيوط، والقاهرة، وتنظيم مظاهرات، ورفع شعار "الجيش والشعب يد واحدة"، فى إشارة إلى أن الأقباط هم من اعتدوا على قوات الجيش فى ماسبيرو، وأن الأقباط هم العائق أمام وحدة الشعب مع الجيش[10]، الأمر الذى أعاد المخاوف السابقة من وصول الإسلاميين إلى السلطة، والترحم على عهد نظام ظَلم الأقباط المسيحيين ، ولكن باستراتيجيات مختلفة.

سوريا ولبنان: تبدو الأوضاع فى سوريا بالغة الدقة والحرج، حيث يلعب نظام الأسد بورقة الطائفية لإجهاض الثورة ضده ، وليس المسيحيون استثناء من ذلك . وصل الأمر إلى تعيين وزير دفاع مسيحي- رئيس الأركان العماد أول داود راجحة- كى يغرق أيادى المسيحيين فى دماء السوريين. يأتى تعقد المسألة السورية على مستويات عدة، سواء علىمستوى إمكانية نجاح العملية الثورية، أو احتوائها، أو إجهاضها، والعنف الدامى المصاحب والمضاد لها، والغموض الذى يعترى إمكانية وصول الإسلاميين - من الإخوان المسلمين والسلفيين - إلى السلطة، وأثره على وضع المسيحيين السوريين، وانعكاسات ذلك على توازن التعدديات الدينية والأقليات في لبنان،وفى المشرق العربى كله.

إن الخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة فى سوريا أدى إلى دعوة بطريرك الموارنة فى لبنان، بشارة الراعى، إلى إمهال الرئيس بشار الأسد مهلة كافية، يُجرى فيها الإصلاحات السياسية التى وعد بها، وحذر من أن زيادة الضغط على النظام السورى قد تنتهى إلى وصول قوى متشددة للحكم، والتأثير سلبا فى وضع المسيحيين، بل وتوتير علاقة السنة بالشيعة. ولما كان لبنان مرآة عاكسة للتطورات السورية،فإن مؤدى هذا إضعاف وضع المسيحيين اللبنانيين أيضا[11]، مما دفع إلى اجتماع قوى مسيحية ضمن تحالف "14 آذار" الذي تصنفه سوريا ضمن خصومها على المستوى السياسي اللبناني، مطالبة برفض تصريحات البطريرك المارونى، ورفض وضع أبناء الطائفة في مواجهة ثورات المنطقة، وربط مصيرهم بأنظمة القمع[12].

ولا يعاني المسيحيون اللبنانيون في الأساس ضغوطا دينية أو اقتصادية أو ثقافية مشابهة لما في بلدان عربية، مثل سوريا والعراق ومصر، ويعمل مئات الألاف منهم في بلدان الخليج العربية. لكن الانقسامات الداخلية اللبنانية، والصراعات على أرض لبنان ومن حوله، دفعت إلى السطح في العقود الأخيرة باتجاهين: اتجاه الهجرة، لتوافر الحركية في أوساط المسيحيين من جهة، والقدرة بالتالي على النجاح أكثر في الخارج، واتجاه الراديكالية السياسية والثقافية، تطلباً للمزيد من الفعالية والتأثير، وبأفكار مثل تحالف الأقليات، أو الانعزال عن المسلمين اجتماعياً وانتخابياً، أو تغيير الدستور أو تعديله.

العراق: توالت موجات هجرة المسيحيين العراقيين بعد الاحتلال الأمريكى عام 2003 ، وسقوط نظام صدام حسين، وتفكك عرى الدولة التى أدت إلى نشوب صراعات مذهبية وطائفية بين السنة والشيعة، وانتشار العنف الذى استهدف مسيحيى العراق . إضافة إلى دور قوات الاحتلال فى تبنى سياسة (فرق تسد) للتفريق بين أبناء الوطن الواحد من أجل إحكام القبضة عليه. فالمحتل لا ينتهج سياساته تجاه العراق على أساس الدين، ولكن على أساس المصلحة ، فبات أول ضحية للسياسات الغربية هم المسيحيين،كونهم عددا قليلا، ولا يشكلون أي أهمية للسياسة الأمريكية أو الغربية .

يشير تقرير الخارجية الأمريكية حول الحريات الدينية الدولية لعام 2011 إلى أن عدد مسيحيى العراق كان يقدر بـ1.4 مليون قبل الغزو الأمريكى،وأصبح عددهم يتراوح من 400 إلى 600 ألف من طوائف الكلدان، أتباع كنيسة المشرق، والسريان الأرثوذكس، والسريان الكاثوليك، وطائفة اللاتين الكاثوليك ،والآشوريين، أتباع الكنيسة الشرقية، وأعداد قليلة من أتباع الكنائس الأرمنية، في ظل العديد من المخاطر التى تهدد حياتهم، في ظل الصراعات المذهبية،والعنف المصاحب لها ولا يزال، حتى إنهم لم يقوموا بالاحتفال بالأعياد في نهاية 2011 خشية وخوفاً من الاعتداءات عليهم وعلى كنائسهم، أثناء أداء مشاعرالاحتفال بالعيد.حيث تؤكد بعض الإحصاءات أن هناك 57 من بين نحو 170 كنيسة ودار عبادة مسيحية استهدفت في العراق منذ 2003، فيما أدت هذه الهجمات إلى مقتل 905 مسيحيين،وإصابة أكثر من 6 آلاف بجروح. وحسب أرقام رسمية، فإن عدد طلبات اللجوء التي قدمها مسيحيون عراقيون ارتفعت من 57 طلبا في سبتمبر 2011، إلى 98 في أكتوبر، لتبلغ 109 طلبات في نوفمبر من العام نفسه[13].

فلسطين: يتسم مسيحيو فلسطين بوضع خاص ، فمن الواضح أن السبب الرئيسى لهجرة الفلسطينيين المسيحيين هو الوضع السياسي المتأزم، وكذلك الوضع الاقتصادي المتدنى. فالمسيحي الفلسطيني مثله مثل المسلم الفلسطيني يهاجر، حين تضيق بهما سبل العيش، وحين يجدان في أماكن أخرى الإمكانيات للتقدموللعمل، وبخاصة بين فئة الشباب.فالاستهداف هو للجميع، لأن ممارسات قوات الاحتلال الاسرائيلى لا تستثني كنيسة، أو مسجدا، أو مسلما، أو مسيحيا.إن تنامى سياسة تهجير مسيحيى فلسطين والقدس دفع بعدد كبير منهم إلى الهجرة إلى بعض البلدان الأوروبية، والولايات المتحدة وكندا، مما أدى إلى إفقار التعددية داخل المجتمع الفلسطينى، وتناقص أعداد المسيحيين بشكل حاد.

اتجاهات التفسير:

تتعدد سيناريوهات تفسير ودحض  مخاوف المسيحيين العرب –بعد الثورة-  من أكثر من فاعل:

أولا: التفسيرات من قبل القائمين على أنظمة الحكم العربية الحالية (ولو أن تفسيراتهم لا تختلف كثيراً، لا من حيث الشكل، ولا من حيث المضمون عن ممثلي الأنظمة العربية الأخرى، أو حتى الأنظمة السابقة في تعاملها مع الأقليات المسيحية) فهم قد أصروا على أن الجرائم التي ترتكب بحق الأقلية المسيحية هى بفعل القوى الخارجية التى لا تريد استقرار هذه الأنظمة خلال سعيها الجاد نحو الديمقراطية، مع تبنى عدد من الاستراتيجيات القديمة كجلسات الصلح العرفية، أو ترضية النخب المسيحية للارتكان إلى الامتيازات الممنوحة للأقليات المسيحية، مما يجعل أي انتقاد بحقها فيما يخص مخاوف أو تهديدات المسيحيين أمرا مغرضاً.

وفى إطار نظرية المؤامرة، تشير تلك الأنطمة إلى إسرائيل على أنها المستفيد الأول. وهم في هذا على حق ، فإسرائيل هي الدولة التي أدخلت إلى المنطقة مفهوم الدولة الدينية، أو الدولة القائمة على أساس ديني، والمحتكرة حصراً لأبناء ديانة واحدة، اليهودية. وإسرائيل هي الدولة القائمة على التوسع على حساب أراضي الغير، وهي بالتالي بحاجة لإضعاف هذا الغير، أي محيطها العربي. فهي بحاجة لزعزعة الاستقرار في الدول العربية لإضعافها من جهة، وللسعي لتفكيكها من جهة أخرى، بحيث تتحول المنطقة العربية المحيطة بإسرائيل إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة والضعيفة، القائمة على أساس مذهبي أو ديني أو عرقي، مما يؤمن لإسرائيل المحيط الملائم لسيادتها وسيطرتها. وبما أن جرائم الكراهية ضد المسيحيين تمهد الطريق لزعزعة كيان الدولة نفسه، فمن الممكن أن يكون لإسرائيل دور في هذا المجال[14].

وعلى أية حال، يقع على عاتق الدولة وأجهزتها القانونية مراقبة دعوات الكراهية، وعقاب مرتكبيها، والتصدى لمن يستخدمون رسائل الكراهية الدينية فى تنفيذ جرائم ضد الغير داخل الوطن، وفقاً لمسئولية الدولة، والقضاء والأجهزة التشريعية (وهو الأساس الذي تدعي كل دولنا العربية المعاصرة الانتماء إليه، بغض النظر عن مدى التزامها به).

ثانيا: التفسيرات من قبل الإسلاميين ، فهم يجتمعون على الإصرار بأن الإسلام برئ من تخويف المسيحيين، ويدللون على براءة "الإسلام" بالإشارة إلى القواعد الشرعية التي تحرم قتل النفس إلا بالحق، وتحرم البغي على أهل الكتاب المسالمين، وكذلك بتذكر السوابق التاريخية المستقاة من سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وسيرة حياته وتعامله وصحابته مع أتباع الديانتين السماويتين، أو من حقيقة أن الأقليات الدينية عاشت في ظل أنظمة الحكم الإسلامية لقرون مصونة ومحمية. هذا الدفاع إشكالي بطبيعته ، حيث ينبغى التفرقة بين ماهو دين من نصوص قرآنية وسنة صحيحة، وماهو فقه، أى اجتهادات الفقهاء وتأويلاتهم ، وماهو ممارسات وتطبيقات. وهذه يكون فيها من السياسة أكثر مايكون فيها من الدين ومن الفقه[15] .

وليس أدل على هذا أكثر مما يحدث فى مصر. فعلى الرغم من تطمينات الإسلاميين للأقباط[16]  ، فإنه لا يمكن الفصل بين الصعود المتنامى للإسلاميين وطبيعة الأحداث الطائفية فى مصر بعد الثورة، خاصة فى ظل تزامن الحدثين، وفى ضوء بعض التصريحات التى تثير خوف الأقباط، وتدفع بهم إلى العزلة. فالاعتداءات على دور العبادة المسيحية وعلى ممتلكات الأقباط، وقطع أذن قبطى.. كلها حوادث لها دلالة خاصة، مع تتبع موقف القوى الإسلامية على المستويين السياسى والشعبى .

ملاحظات ختامية:

أولا: فى محاولة للإجابة على تساؤل الورقة فيما يتعلق بتحسن أوضاع المسيحيين العرب بعد الثورات، نجد أن خريطة الأنظمة السياسية العربية بعد الثورات لم تكتمل بعد . فعلى الرغم من أن مصر – على سبيل المثال- شهدت صعودا إسلاميا متناميا، فإن هذا الصعود قد يوازنه رئيس مدنى يدعم الدولة المدنية، إذا أسفرت نتائج الانتخابات الرئاسية عن فوز مرشح مدنى، ومن ثم قد تتراجع تلك المخاوف فى المستقبل.

كما أن مستوى التحليل لأوضاع المسيحيين فى مصر بعد الثورة يأتى من خلال تأكيد انفصال المسيحيين الأقباط عن الكنيسة سياسيا. بينما فى سوريا، لم تتضح الصورة بعد ،خاصة أن الكنائس السورية –على اختلاف مذاهبها- مالت إلى ربط وجودها ببقاء النظام السورى لإرهاب المسيحيين السوريين من البديل، وإلحاقهم عنوة بـ"الديكتاتوريات الحامية للأقليات"[17] . وهو الأمر الذى يثير التساؤلات حول موقف المسيحيين فى سوريا من علاقة كنائسهم بالنظام. فهم بين خيارين: إما أن يكونوا وقودا للديكتاتورية، أو فاعلا فى الإضافة إلى دورهم الثرى على امتداد التاريخين العربى والإسلامى.

ثانيا: إن خلو الشرق الأوسط من مسيحييه سيفقد المنطقة أحد العناصر الرئيسية في تقدمها الحضاري. والأهم من ذلك أن الشرق الأوسط سيصبح منطقة موحشة تتصارعها أصوليتان : يهودية وإسلامية, كل منهما ترى هذا الصراع مباراة صفرية .

ثالثا: إن مخاوف المسيحيين فى أى قطر عربى لا ترتبط فقط بالوضع الداخلى لهذا القطر. على سبيل المثال، مخاوف المسيحيين في سوريا على وجودهم ومستقبلهم لا ترتبط بالوضع الداخلى السورى، قدر ارتباطها بما جرى ويجري من تطورات وأحداث فيدول الجوار العربي.

ويأتي في مقدمة الأحداث التي أثرت في مخاوف المسيحيين ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة، حيث أدت سياسة إسرائيل إلى تهجير وطرد أغلب المسيحيين خارج وطنهم، واستمرار احتلالها للجولان السورية، ومناطق في جنوب لبنان، انعكست سلباً على أوضاع المسيحيين العرب. كما أدت الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان على مدى 15 عاماً  إلى إضعاف الوجودالمسيحي فيه ، خاصة بعد أن بدأت موجات الهجرة تتزايد على نحو أدى إلى خلل في التوازنات الطائفية والاجتماعية بين مكونات المجتمع اللبنانى، وتراجع الموقع العددى للمسيحيين اللبنانيين بمختلف طوائفهم.

كذلك، أدى تنامي الأصولية الدينية ورعايتها من قبل عدد من الدول إلى احتقانات وصدامات  طائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر والسودان. أيضا الاحتلال الأمريكى للعراق، والذي كان من نتائجه المباشرة هجرة عدد كبير من المسيحيين العراقيين الذين توزعوا في المدن السورية  ذات الأكثرية المسيحية ، والذين يعانون الآن تحت وطأة تصاعد المواجهات بين الثوار والنظام السورى.

رابعا: ثمة مخاطر محدقة بأوضاع التعددية الدينية والمذهبية في العالم العربى كجزء من عنف عملية الانتقال في مصر والمشرق العربى، في ظل غياب الحد الأدنى من التوافقات والتفاهمات حول القيم السياسية الرئيسية التى سيتأسس عليها النظام الجديد، ونزعة بعض القوى الإسلامية السياسية إلى محاولة إقصاء العملية الثورية، والحيلولة دون تطورها، بما قد يؤثرفى أوضاعهم وقدراتهم التنظيمية ، الأمر الذى يؤثر فى طبيعة ومستقبل هذه المجتمعات العربية ، وفى القلب منها المسيحيون العرب.

خامسا: تنتشر إسقاطات تعميمية عند الحديث عن المسيحية الشرقية أو العربية، فغالبا ما تحشر المسيحية العربية ضمن تاريخ الكنيسة الغربية. ومن ثم، لابد من بناء تاريخ مستقل للكنيسة العربية لتجنب الاتهامات العفوية الناتجة عن ذلك.

سادسا: إن حال المسيحيين العرب بعد الثورات العربية ما هو إلا نتاج عدم توفيق السلطة فى المجتمعات العربية فى خلق الاندماج الاجتماعى بين فئات المجتمع، بل شاركت –السلطة- فى خلق التباعد والعزلة والتعصب بين الجماعات، فتشكلت الفوضى القيمية والتناقض بين الشعارات والممارسات ضمن الثقافة العربية بوجه عام.

سابعا: إن حال المسيحيين العرب، فى ضوء ثورات "الربيع" العربى، يتقارب على مستوى كل من المسببات وردود الأفعال. فمخاوف المسيحيين دفعت بهم إلى التفكير فى الهجرة، أو العزلة السياسية، أو دعم الأنظمة الديكتاتورية،  درءا لمخاطر الحكم الإسلامى.  فمعاناة المسيحيين العرب فى دول "الربيع" العربى، أو حتى فى الدول التى لم تشهد ربيعها، تشترك فى وقوعها تحت وطأة أنظمة حكم ديكتاتورية مستبدة، جميعها استخدم الورقة الطائفية من أجل تحقيق مصلحة النظام. ومن ثم بعد سقوط تلك الأنظمة –كما هو الحال فى مصر- أو استمرارها –كما هو الحال فى سوريا ، انحصرت مواقف المسيحيين بين التفكير فى الهجرة، أو دعم الأنظمة المستبدة، أو على الأقل الترحم على الأنظمة البالية التى افتأتت على حقوق المسيحيين، ولكنها –من وجهة نظر بعضهم- لم تهدد وجودهم.


(1) عزالدين عناية ، "المسيحية العربية: تشظى الهوية ومستخلصات الوعى التاريخى"، المستقبل العربى، العدد 322 ،ديسمبر 2005، ص27- 46 .

 (2) فى مجالات الترجمة والآداب وعلوم المسرح والنقد والسينما والسياسة غيرها، "دور المسيحيين المشارقة فى تحديث العالم العربى"، الاتحاد الكاثوليكى العالمى للصحافة، 14 نوفمبر ،2011 .

http://ucipliban.org/arabic/index.php?option=com_content&task=view&id=18660&Itemid=313[

[3] غريب الرنتاوى، "المسيحيون وربيع العرب"، المعهد العربى للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 14-3-2012

http://www.airss.net/site/2012/03/14/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%91%D9%88%D9%86-%D9%88%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8/

 (4) مصطفى الفقى، "المسيحيون العرب وثورات الربيع"، الأهرام، 4 -2-2012 ، ص10 .

[5] ترجع أحداث كنيسة صول بأطفيح إلى علاقة عاطفية بين فتاة مسلمة وشاب مسيحى بالقرية، فأراد أهل القرية قتلها وقتل والدها،  وحاول البعض إقناع والدها بضرورة الانتقام من هذا الشاب ،الذى رفض وحاول تهريب ابنته، وانتهى الأمر بمقتل والد الفتاة .. وأثناء تشييع جنازته خرجت مجموعة غاضبة من أهل القرية، وتوجهوا إلى كنيسة صول وقاموا بتكسير محتوياتها وحرقها، فى حين توجه آخرون إلى بيوت بعض الأقباط بالقرية وهاجموها. وقد تم احتواء الأزمة بعد اجتماع بعض قادة الجيش مع كهنة الكنيسة وبعض مشايخ الإسلام بالقرية ، مع دور لعدد من الرموز الدينية والسياسية مثل الشيخ محمد حسان والشيخ محمد حجازى وعمرو خالد والنائب مصطفى بكرى.

 [6] نشبت مشاجرات بين مجموعة من المسلمين والمسيحيين بامبابة –محافظة الجيزة- إثر تجمهر مجموعة من السلفيين أمام كنيسة مارمينا بامبابة، بعد تناقل شائعات حول احتجاز فتاة مسيحية أشهرت إسلامها، وترتبط بعلاقة مع شاب مسلم. وتم استخدام أسلحة نارية، ونشب حريق بالكنيسة، خاصة مع تزامن ذلك مع ظهور كاميليا شحاتة على شاشة إحدى القنوات المسيحية، وتأكيدها أنها لم تعتنق الإسلام، ولم تحتجزها الكنيسة.

 [7] إثر هجوم مسلمين على عدد من الأقباط كانوا يتظاهرون فى حى الزبالين، احتجاجا على قيام مسلمين بإحراق كنيسة صول بمحافظة حلوان. وقتل 6 من الأقباط وأصيب 45 من الطرفين.

 [8] قامت مجموعة من السلفيين بتعقب قبطى كان يقوم بتأجير شقته لفتاتين مسلمتين من خارج محافظة قنا، وظنوا أنه يقوم باستخدامهما فى أعمال منافية للآداب فقاموا بحرق سيارة القبطى وشقته وقطع أذنه.

[9] http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB_%D9%85%D8%A7%D8%B3%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88

 [10]  مذبحة ماسبيرو:الكنيسة تصعد بالصيام والسلفيون يحذرون، صحيفة الأخبار اللندنية، 11أكتوبر 2011 .

[11] نيفين مسعد، "المسيحيون العرب والثورات الشعبية ..هواجس مشروعة" ، الشروق ، 22-9-2011 .

[12]http://arabic.cnn.com/2011/middle_east/10/23/lebanon.Christianity/index.html

[13]http://www.aknews.com/ar/aknews/1/293680/

[14] ناصر رباط، "المسيحيون العرب :مواطنون لا ذميون"، 13-10 -2011

http://www.jadaliyya.com/pages/index/2867/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8_%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%84%D8%A7-%D8%B0%D9%85%D9%91%D9%8A%D9%91%D9%88%D9%86

 [15] نبيل عبدالفتاح، "الإسلام والأقلية الدينية فى مصر: التيارات والإشكاليات"، المستقبل العربى ، العدد 30 ، أغسطس 1981 ،ص92-113.

(16) فى إطار التطمينات المتبادلة من القوى الإسلامية تجاه الأقباط ، يخرج –على سبيل المثال- محمد نور، المتحدث الرسمى باسم حزب النور السلفى قائلا "إن مس أى شعرة من أى مسيحى يتعارض مع برنامج حزب النور.. فالأقباط مصريون مثلهم مثل المسلمين" .بينما صرح اللواء عادل عفيفى، رئيس حزب الأصالة  ذى المرجعية السلفية أيضا "بأن الحزب لن يبعث بأى تهانى للأقباط أو مشاركتهم فى أعياد الكريسماس أو أعياد الميلاد القادمة" لافتا إلى أن هناك حاجزا نفسيا بين المسلمين والأقباط.

 [17]وقد انقسم المسيحيون في سوريا بين فئة مؤيدة لبقاء النظام مع تنفيذ إصلاحات سياسية جذرية للنظام، وفئة يغلب عليها الشباب والمثقفون تطالب بتغيير النظام، وانخرط الكثير منها في الحراك السياسي المعارض، وشاركت فيه بفعالية، حيث أصدر المثقفون فى سوريا بياناً بتاريخ 16/9/2011 رفضوا فيه تصريحات البطريرك الماروني لجهة خشيته على مسيحيي الشرق من سقوط النظام في سوريا، معتبرين تصريحاته بمثابة إساءة لهوية وأصالة ووطنية الشعب السوري، وذكّروا "بأن المسيحيين عاشوا منذ مئات السنين إلى جانب إخوتهم في الوطن السوري دون خوف، ولا فضل لأحد في بقائهم أو حمايتهم، فهم جزء لا يتجزأ من هذه الأرض." مؤكدين في بيانهم "أن الأزمة السورية سياسية بامتياز وليست طائفية، وأن الحراك القائم حالياً هو ثورة شعبية ذات طابع مدني.

طباعة

تعريف الكاتب