القوى الناعمة وعودة الروح للشخصية المصرية(١)
10-10-2022

محمد نبيل محمد
* عضو اتحاد الكتاب

من آن لآخر حتى لا تموت الكائنات بالبحيرة يقتضى الحال إلقاء حجر فى المياه الراكدة لإحداث دوائر متسعة إلى متناهية الصغر فى حالة فزيائية لاستعادة ارتباط الجزيئيات بالنواة، أو مراجعة انتماء الأطراف بالمركز، وأيضا اختبار مسئولية القلب تجاه جسده.

وعلى الرغم من قدم التاريخ المصرى المتراكم كالطبقات الجيولوجية للأرض، وربما كانت تلك مزية لهذا الوطن عدا غيره، ما منحه فرصاً متتالية أولاً لاكتساب خبرات هائلة فى التعامل مع جدلية التاريخ التى قد تشير أحيانا إلى أنه لا جديد تحت الشمس، فإن من أدرك الخبرات من السابق تعامل مع الآنى بمنطق متزن ربما يصونه من حدة التقلبات ويحفظ للأرض ومن عليها البقاء أمام انحرافات الأطماع المتكررة للقوى الصاعدة والحاكمة والمتغيرة جغرافيا تبعاً لدورة التاريخ.

ويدعى الغرب من جملة إدعاءاته أنه من أسس ونظر لنظريات القوى الناعمة وتطبيقاتها إجرائياً على الأرض، وتروج ماكينة الإعلام العابرة للقارات لأحاديث جوزيف ناى هذا العسكرى السابق بالجيش الأمريكى عن القوى الناعمة وعناصرها وتوظيفها ونظريات استخداماتها حتى يذهب بعيداً إلى الاتحاد السوفيتى ليخبرنا: أننا لم ننتصر على الاتحاد السوفيتى بالقوة العسكرية، إنما بالاستخدام الأمثل لتطبيقات القوى الناعمة من داخل السوفيت أنفسهم التى استلزم تفعيلها لتؤتى ثمارها على مدار سنوات طويلة, ويعود للتباهى بحرفية الأمريكيين فى استخدام القوى الناعمة إلى أنه كان من الممكن الانتصار على العراق فقط بتطويع آليات القوى الناعمة داخل العراق، وربما أخطر ما صرح به مؤسسو مناهج القوى الناعمة جاء على لسان جين لى: "القوى الناعمة تسعى لتغير المفاهيم والمشاعر لدى الشعوب المستهدف هدم دولها وإعادة التأثير فيها بطرق غير تقليدية".

ويرى مؤلف كتاب (صعود وانهيار الإمبراطوريات العظمى) بول كندى: أن القوى الناعمة أكثر تأثيراً في إنهيار الدول الكبيرة من استخدام القوة العسكرية, وأن الحروب ليست قدراً محتوماً، وإنما كسب المعارك السلمية أصعب بكثير من المعارك الحربية.

وتشير أنا سيمونز إلى أن القوى الناعمة هى أحد أهم أسلحة حروب الجيل الرابع وبها تسقط المدن والدول من خلال التلاعب بالأفكار وهدمها وإحلال المخطط والممنهج محل الثابت من المعتقد الذى يتم التشكيك فيه وهدم النموذج والتأثير فى المشاعر أو الوجدان الجمعى للشعوب المستهدفة.

كل تلك المفاهيم ظهرت كأدبيات ونصوص نظريات للتأثير لإيجاد شكل جديد من أشكال الاحتلال وفرض ما يسمى الحرب بالوكالة بدلاً من خسارة الأرواح من أبناء القوى العظمى. فعلى الشعوب المتلاعب بها أن تقتل أولادها بأيديها، وتهدم أوطانها، ولكن كيف؟ تلك سر الخلطة السامة التى يصنعها الآخر وتلعقها الشعوب المعصوبة.

أما مصر، ليس لشيفونية وطنية، بل لواقع يجب الارتكان عليه عندما نتجه لتوصيف الحال لديها من الخبرات بكم الامتداد الزمنى فى عمق التاريخ ما يساعدها فى الإعتدال سريعاً قبل فوات الأوان وربما الفارق يتضح بجلاء بعد عام 2011 بالنظرة السريعة غير المجهدة للعقل على خريطة الشرق الوسط التى اهترأت أجزاء كثيرة منها وربما تحتاج للكثير من الوعى أولا, والمجهود بالإمكانات المتنوعة ثانياً لإعادة لم الشمل والرجوع لنقطة البداية والمربع الأول. وبالطبع، يتكلف هذا الجهد معاناة الشعوب عشرات السنين، ومع التحفظ ببقاء الفجوة الحضارية الشاسعة مع الآخرين!

فى هذا السياق نتعرض لإرهاصات استخدامات مصر لعناصر القوى الناعمة قبل نحت المصطلح أكاديمياً، إنما بالممارسة الفعلية على الأرض التى غرست بذور شجرة الثقافة من آداب وفنون وإعلام وتعليم ومعتقدات، والتى شملت أفرع القوى الناعمة لمصر بدءاً من اللهجة والصحف والإذاعات والشاشات الفضية وأفرع أخرى، منها الفن. فمع استهلالات القرن التاسع عشر على يد سيد درويش لمواجهة السلطة الغاشمة وتحدى الاحتلال البريطانى، تطور سلاح الأغنية (الكلمة واللحن) حتى صار سلاحا حقيقياً يخشاه العدو كما قيل إن الأغنية انتصرت فى 1967، وأيضا كان لسبق مصر لاستخدام الفن السابع بعد ظهوره مباشرة فى باريس ما جعل لها الريادة باللهجة المصرية على المنطقة إلى أن احتلت السينما المصرية وجدان الشعب العربى. وهكذا، كانت للكنيسة المصرية أدوار وطنية فى العمق الإفريقى والانتماء المتوسطى، وأوجد الأزهر قلوباً تهوى لمصر حتى أثرت إيجابا فى صناعة القرار السياسى والاقتصادى وربما العسكرى لمصلحة مصر، وكان المثقف المصرى محركا وحيداً لأفكار العقل العربى، واحتلت الحناجر السماوية المصرية الوجدان العربى والإسلامى، وباتت اللهجة المصرية الأكثر شيوعاً بين الشعوب العربية، ومن الطبيعى أن تخلق كل العناصر السابقة تأثيراً إقليمياً، عربياً وإفريقياً ومتوسطياً، وعقائدياٍ إسلامياً ومسيحياً لمصر، حيث زادها ثقلاً سياسياً مع موقعها الجغرافى العبقرى واقتصادها المتنامى وجيشها القوى وعدد سكانها المتزايد، أو ما يطلق عليه من محصلة ما سبق القوى الصلبة للدولة.

ما حدث منذ سنوات معدودة هو تعمد التخطيط لسلب مصر تأثيرها فى الدوائر الإقليمية والدينية ونزع أثرها من وجدان الشعوب ومحوه من ذاكرة الأمم حتى يسهل التأثير فى مصر، وبالتالى تغير خريطة الشرق الأوسط واحتلال العقول والوجدان العربى استنزافا لما تبقى من موارده والفوز بالجائزة الكبرى، وتأتى الرياح بما لا تشتهى السفن المعادية وتتحطم أحلام الاستعمار الجديد على الصخرة كما يطلقون عليها فى الأدبيات الأمنية والاستخباراتية لديهم. 

هذه سلسلة مقالات تعد محاولة فى القيام بما يقتضيه الحال من إعادة التعبئة والحشد والاصطفاف, وخلق مناخ عام من أجل التوعية بما هو دائر حولنا وبيننا من مكائد معارك الجيلين الرابع والخامس الهادفة لتشويه هوية الشخصية المصرية، وهدم نسقها الأخلاقى، والإطاحة بدعائم الدولة الأولى فى الحضارة الإنسانية، وتقويض نجاحها، ثم هدمها لإقامة الدولة الكبرى على أنقاضها ونيل الجائزة الكبرى! من خلال إعادة طرح عناصر القوى الناعمة للمصريين لاستثارة الذهن وتمحيص الفكر، استعدادا لمواجهة سلاح القوى الناعمة المعادى الذى استخدمه الآخر عندما فشل فى الانتصار بالسلاح فى آخر معارك الجيل الثالث كما فى نصر أكتوبر الذى حققه الآباء بالدم وهزمه الأبناء (مؤقتاً) بالتخلى عن الدور الإقليمى والرسالة الإنسانية، وبالتجاهل لمكمن القوة الحقيقية للمصريين.


رابط دائم: