مقالات رأى

الدولة والدين: مسار التضاد

طباعة
يرى أنصار الدولة الدينية من أتباع الديانات الرئيسة الثلاث، أن لا بد أن ترتكز الدولة في أدائها لوظائفها على أساس إلهي، لأن هذا الأساس هو الوحيد القادر على توحيد القوانين الطبيعية التي خلقها الله مع القوانين الوضعية التي تَنتُج من منابع الأولى وتستند إليها وتؤوّلها وترى أن الدولة المقامة على أساس ديني هي الوحيدة القادرة على إقامة وحدة عضوية بين النظام الروحي والنظام الدنيوي، وفي الحالات كلها فالله هو علة الدولة وهو الحاكم والمشرع (لا حاكمية إلا لله) وما الدولة برمتها إلا أداة لخدمة الدين والخالق. فخدمة الدين هي الهدف وليس خدمة الإنسان. وفي ضوء ذلك تُقام الدولة حسب معطيات الدين ومتطلباته وما الدولة وفلسفتها إلا نتاج العقيدة الدينية ويجب أن تكون منسجمة معها.
 
إن نظام الحكم من وجهة نظر أنصار الدولة الدينية هو النموذج الإلهي المثالي للحكم، فالله هو الشارع والحاكم. وسلطة الدولة هي سلطة إلهية والدين مصدر التشريع، والبشر هم الموكلون بتطبيق هذا التشريع، وتنحصر حريتهم في إطاره واجتهادهم في ضوء نصوصه.
 
من طرف آخر يرى أنصار فصل الدين عن الدولة أن المهمة الأساس لهذه الأخيرة هي تحقيق العدالة المنشودة التي تُبنى على مبدأين أساسيين هما الحرية والمساواة، والمعني بهما حرية الفرد بالاعتقاد بأي دين يشاء كان أن يكون ملحداً أو لا أدرياً وحريته بالتعبير والنقد. وفي الوقت نفسه تحقيق المساواة بين جميع المواطنين. وعلى الدولة باعتبارها حامية لحرية الاعتقاد أن لا تحارب الأديان بل تحمي المؤمنين من مواطنيها، وتلتزم الحياد بين المذاهب والأديان والتيارات الثقافية. فهي دولة مواطنين، أفراد أحرار، يربطهم عقد اجتماعي يتغير بإرادتهم. وعلى ذلك تبتعد الدولة عن الالتزام بأي أيديولوجية دينية أو بتعليماتها، وعن تعليم الدين في مدارسها، وتمتنع عن تقديم المساعدات للمؤسسات الدينية وجمعياتها، ولا تُقدّم أي امتيازات لأي دين، ولا تفرض معتقداً رسمياً ولا تضطهد أي معتقد لكنها تطبق القانون العام، إذا قام فرد أو فئة أو أتباع دين أو مذهب بإيذاء الآخرين قولاً أو عملاً. وفي الخلاصة فالدولة تدافع عن حرية المعتقد (الديني وغير الديني) وهي مفصولة عن السلطة الدينية وتستمد تشريعاتها من آراء ومواقف مواطنيها الذين يقرّرون ما يرونه في صالحهم وصالح دولتهم ويطوّرون تشريعاتهم كلما اقتضى الأمر ذلك حسب تغيّر الأحوال والأزمنة.
 
قامت السلطات الدينية تاريخياً في ضوء مفهوم الدولة الدينية بالهيمنة على الدنيوي أي على الدولة وقوانينها وتشريعاتها وأنظمتها، وفرضت معتقدها الرسمي عليها واضطهدت المعتقدات الأخرى، وراقبت سلوك الناس وأعمالهم وإبداعهم ونتاجهم العلمي والفني والفلسفي ووضعت المؤسسات التربوية والتعليمية تحت رقابتها، وأحرقت فلاسفة ومنعت كتباً وأتلفتها. ومن طرف آخر رفضت الدولة العلمانية نشاط المؤسسات الدينية وتدخلت في شؤونها أحياناً، وأتبعتها إليها أو أضعفتها، ووظفتها لخدمة مصالح الحاكم. وغالت أحياناً فلم تكتف بفصل الدين عن الدولة بل حاولت فصله عن المجتمع، وينبغي الانتباه إلى أن فصل الدين عن الدولة سواء كان مفهوماً أم فلسفة أم تطبيقاً عملياً يختلف من بلد لآخر ومجتمع لآخر، ويتأثر إلى حد بعيد بالأحداث التاريخية التي مرت على هذه البلدان والصراعات المذهبية والاجتماعية فيها وتأثرها بدرجة أو أخرى بالظروف والزمان والمكان.
 
كانت سلطة داوود وسليمان (والسلطة السياسية في الدولة العبرية عامة) سلطة دينية بالمطلق فشعبها شعب الله المختار وفلسفتها وتشريعها تنبعان من الأسفار الأولى، وكان الملك هو النبي، وهو ممثل الله في الأرض، والدولة دولة الدين والنبي، وتفرض العقيدة نفسها بقسوة وتطرف على أتباعها، وترفض إعطاءهم أية حرية في التفكير أو التأويل.
 
ثم أصبحت المسيحية مذهباً للإمبراطورية الرومانية العام 380 م. وما لبث الإمبراطور أن سخّر الدين لسلطته وهيمن على المؤسسة الدينية والدنيوية، وفرض المسيحية كمعتقد رسمي، وحرّم الوثنية العام 392 م.، وعزز سلطته الزمنية بدعمها بالسلطة الروحية، وأصبح هذا الحال حال الأباطرة والملوك والأمراء المسيحيين منذ ذلك الوقت حتى نهاية العصور الوسطى، مع أخذ تنوعات التطور والزمان والمكان بعين الاعتبار. وتحالفت سلطة الاكليروس وسلطة الحاكم طوال مئات السنين، فارتكبت مذابح، بل مجازر، باسم الدين وبسيف الحاكم، فقد ارتكبت إيزابيلا وفرناندو ومحاكم التفتيش في نهاية القرن الخامس عشر في إسبانيا مثلاً أبشع المجازر بحق غير المسيحيين من يهود ومسلمين، وارتكب شارل التاسع ملك فرنسا الكاثوليكي مذبحة سان بارتيلمي العام 1572 بحق البروتستانت (أعدم ثلاثة آلاف في يوم واحد في باريس)،
 
مع بداية النهضة الأوروبية الحديثة وتطوّر وعي الناس ونشوء ونمو البورجوازية وظهور الحاجة للدولة القومية وما يتبعها من شعارات واحتدام الصراع الطبقي وتحول المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات أخرى، وتنامي رغبة الفرنسيين خاصة في فصل كنيستهم عن الكنيسة الإيطالية الأم، في هذه الظروف كلها وجد الشعب الفرنسي أن لا بد من فصل الدين عن الكنيسة، فأقرّت الحكومة الفرنسية أن (كل شؤون الدين للكنيسة وكل شؤون الدنيا للبشر)، وصادرت أملاك الكنيسة وألغت ضريبة العشر وقوضت سلطة الاكليروس وفرضت القوانين المدنية على الزواج والأسرة، وتخلّت عن المؤسسات التعليمية الدينية، وامتنعت عن تعليم الدين في مدارسها، وكرست ذلك في قانون 1905 المتعلق بفصل الدولة عن الكنيسة.
 
أما عند المسلمين فقد كانت دولة الرسول هي دولة الشرع، حيث يُطبق الشرع الآتي بالوحي بواسطة الرسول، وهو الأقدر بالطبع على تأويل القرآن وتطبيقه، خاصة أن الإسلام لم ينتشر في زمن الرسول خارج الجزيرة العربية ليتعرف المسلمون بعمق على مجتمعات أكثر تطوراً، وحصل الاختلاف على شكل الدولة وماهيتها بعد وفاة الرسول مباشرة، وتمت تسوية بشرية بين المجتمعين في السقيفة وحُسم الأمر لمصلحة قريش ولمصلحة أبي بكر الصديق. وفي الواقع لم يحدد الإسلام لا شكل الدولة ولا ماهيتها ولا وظائفها ولم يتبن أي نظام سياسي وترك الأمر للمسلمين، إلا أنه أشار بوضوح إلى أن الإنسان خليفة الله في الأرض وأوكل إليه عمارة الكون وإدارة شؤون الحياة على أساس العدل والمساواة.
 
تحوّل الحكم في الدولة الإسلامية بعد الخلفاء إلى مُلك (عضوض) وراثي، وبقي كذلك حتى سقوط الخلافة العباسية ثم العثمانية، وكان الحاكم باعتباره وارثاً للسلطة بحاجة لمشروعية دينية مما أدّى بالحكام خلفاء وملوكاً وأمراء وسلاطين إلى تطبيق أمرين واعتبارهما من صحيح الدين، الأول هو القول بأن الخليفة خليفة الله وبالتالي فهو يحكم باسم الإله واسم الدين، والثاني إلزامه علماء الدين بأن يعطوه شرعيته ويبرروا أعماله، وعمّد بعض الفقهاء ذلك باجتهادات كادت أن تصل إلى أحكام شرعية، كما هو حال (الأحكام السلطانية) للماوردي وأبو يعلى وغيرهما. وهكذا تحوّلت الشريعة إلى قواعد قانونية ثم إلى فقه ثم إلى شروح ثم إلى فتاوى وحلت هذه الفتاوى محل الشريعة في أحوال كثيرة. واضطُهد أيضاً علماء دين ومجتهدون ومفكرون وغير متدينين وهراطقة وملحدون، وأُحرقت كتبهم وأُعدم بعضهم وواجهوا مختلف أنواع التعذيب والاضطهاد.
 
لا توجد مؤسسة دينية في الإسلام ولا رجال دين، ولذلك لم تقم الشراكة بمعناها الأوروبي بين المؤسسة الدينية التي لا وجود لها مع الحاكم، وبقي الحاكم هو المخوّل بتحديد علاقة الدين بالدولة والالتزام بتعليمات الدين، حسب تقديره ومصلحته ومصلحة نظامه، وقد مرّ مفهوم علاقة الدين بالدولة في المجتمعات الإسلامية في إطار مفاهيم ثلاثة أساسية، أولاها أن الحاكم هو خليفة الله في الأرض والمخوّل بإدارة المجتمع والدولة، وكان هذا المفهوم سائداً في الواقع في العصر الأموي والقسم الأول من العصر العباسي، ثم نادى الفلاسفة المسلمون بضرورة الوصل بين الدين والدنيا أي برئاسة فاضلة كما هي حال الفارابي، ثم أخيراً اعتبروا الدولة امتداداً مكانياً لحكم عصبية ما، أي أن الدولة تخدم الحاكم وليس غيره، كما هي حال ابن خلدون.
 
-------------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 25/7/2015.
طباعة

تعريف الكاتب

حسين العودات