مقالات رأى

الضمير العالمي.. والاستثناء الإسرائيلي!

طباعة
تميز النظام العالمي الذي أُنشئ عقب الحرب العالمية الثانية، وحدث تغير في هيكله بانتهاء الحرب الباردة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، باستناده إلى مبادئ ذات طابع أخلاقي سياسي. ولم يكن تطور قانون دولي إنساني في العقدين الأخيرين إلا امتداداً للمبادئ التي قام عليها هذا النظام منذ البداية، وفي مقدمتها تلك التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948.
 
لذلك لم يأت الحديث عن ضمير المجتمع الدولي أو أخلاق إنسانية عالمية من فراغ، فالضمير العالمي هو التعبير المجازي عن جملة مبادئ إنسانية لم يكن لمعظمها وجود من قبل. وكان لهذا الضمير أثره الذي تسهل ملاحظته في الحد من الحروب الكبرى وتقليص ضحايا النزاعات المسلحة مقارنة بما كان عليه الحال من قبل. فلم يعد متصوراً على سبيل المثال أن يسقط في أي حرب أو نزاع مسلح عدد مماثل أو قريب من ضحايا أي من الحربين العالميتين الأولى والثانية.
 
ورغم أن المبادئ التي تعد تعبيراً عن هذا الضمير العالمي تعرضت لانتهاكات شتى، وأُسيء استخدامها لأغراض سياسية، ولم تُطبق باستقامة في غير قليل من الحالات، فقد ظلت حية بدرجة أو بأخرى. وأمكن في ظلها تحقيق إنجازات غير منكورة وفي مقدمتها تصفية الاستعمار والعنصرية في العالم.
 
غير أن ثمة حالة وحيدة ظلت استثناءً في هذا كله، وهي حالة الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني الإحلالي ذو الطابع العنصري. فلم تفلح الجهود التي قام بها كثير ممن حلموا بشمولية المبادئ التي اعتُبرت تعبيراً عن ضمير عالمي في وضع حد لهذا الاستثناء. لكن استمرار هذه الجهود ومشاركة عدد لا بأس به من يهود العالم فيها أبقى الأمل قائماً في إنهاء هذا الاستثناء عبر إيجاد حل عادل بشكل ما يحّول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى تعايش بين دولتين وشعبين.
 
غير أن هذا الاستثناء استمر، بل ازداد رسوخاً في ظل الإخفاق المستمر للجهود السلمية، بسبب إصرار الحكومات الإسرائيلية المتوالية على الانفلات من مبادئ النظام العالمي في أي حل للصراع، وتواطؤ بعض القوى الرئيسية في هذا النظام معها وعجز البعض الآخر عن التأثير.
 
وأدى هذا الإخفاق إلى تفاقم تدريجي للمأساة الإنسانية الفلسطينية التي صاحبت المشروع الصهيوني منذ بدايته، إلى أن بلغت في السنوات الأخيرة مبلغاً يكفي في حد ذاته لدق ناقوس الخطر بشأن مصير مبادئ النظام العالمي وضميره، حتى إذا عزلناها عن أبعادها السياسية. فقد أصبح تفاقم هذه المأساة في السنوات الأخيرة هو الشاهد الرئيسي على المدى الذي بلغته أزمة ضمير عالمي وضعه العدوان الإسرائيلي الجديد على قطاع غزة في حالة حرجة. فقد تعامل أقطاب النظام العالمي مع ثالث عدوان على قطاع غزة خلال خمس سنوات بطريقة قد لا تكرس الاستثناء الإسرائيلي فقط، بل تهدد بتقويض أحد أهم مقومات هذا النظام في وقت صار مزعزعاً أكثر من أي وقت مضى منذ تأسيسه الأول 1945–1946 والثاني في تسعينيات القرن الماضي.
 
لذلك ربما يكون الخطر المترتب على طريقة التعامل مع هذا العدوان هو الأكبر الذي يهدد النظام العالمي في مجمله، وليس فقط ضميره، منذ تأسيسه لثلاثة أسباب. أولها المبالغة في إساءة تأويل مبدأ «حق الدفاع عن النفس» لتحقيق عكس ما أُقر هذا المبدأ من أجله. فقد بات ذريعة للظلم والقتل والعدوان بدلا من أن يكون سبيلًا إلى إحقاق الحق وتوفير العدل وتحقيق سلام يقوم عليه. فقد أصبح المبدأ الذي استهدف ردع المعتدين والمحافظة على السلم والأمن الدوليين وضمان استقرار النظام العالمي مبرراً للاعتداء وتهديداً لمقومات هذا النظام وليس فقط لسلامته.
 
وتمثل إدارة الظهر للوثائق التي تتضمن تلك المقومات سبباً ثانياً للخطر المترتب على العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. فقد استند النظام العالمي على منظومة من الوثائق حددت أساسه القانوني والسياسي والأخلاقي، وتضمنت المبادئ التي تعبر عن ضميره، وحددت الجرائم التي ينبغي التصدي لها في هذا الإطار.
 
وقد شهد العدوان على قطاع غزة جرائم حرب بشعة استند عليها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عندما قرر في 23 يوليو الماضي تشكيل لجنة تحقيق دولية بشكل عاجل. وكان موقف هذا المجلس هو الثغرة الوحيدة في جدار الاستثناء الإسرائيلي الذي بات يهدد النظام العالمي برمته، رغم الحدود الضيقة لهذا الموقف الذي لم يتسع للبحث في تكييف الجرائم التي ارتُكبت في حي الشجاعية بصفة خاصة عبر حملة تدمير ممنهج وقتل شامل كان متطوعو الصليب الأحمر الدولي النبلاء شهوداً عليها. كما لم يتسع هذا الموقف للبحث فيما صدر عن قادة إسرائيليين دعا بعضهم إلى تدمير القطاع كله، وطالب بعض آخر باستهداف النساء الحوامل رافعين شعار «قتل اثنين في واحد».
 
فقد شهد هذا العدوان جرائم حرب فظيعة وأخرى ضد الإنسانية. ومع ذلك، بدت وثائق النظام العالمي الحاملة لمبادئه والهادفة إلى طي صفحة الحروب الوحشية، خارج نطاق الخدمة، وفي مقدمتها اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في أغسطس 1949 بشأن معاملة الجرحى والأسرى وحماية السكان المدنيين وقت الحرب.
 
أما السبب الثالث للخطر غير المسبوق للعدوان الإسرائيلي على النظام العالمي فهو الانحدار من حالة ازدواج المعايير في التعامل مع بعض القضايا إلى إسقاط هذه المعايير كلياً بشأن الشعب الفلسطيني ووجوده الإنساني وليس فقط بخصوص قضيته.
 
وهكذا يتحول الاستثناء الإسرائيلي، وقد بلغ هذا المبلغ، إلى معول هدم خطير لنظام عالمي مرتبك ومتأرجح منذ تسعينيات القرن الماضي بين توازنات سابقة وأخرى مستحدثة، وبين رواسب قديمة مرتبطة بحالة القطبية الثنائية ومصالح وتشابكات جديدة متعلقة بمرحلة القطب الأكبر الذي يفتقد استراتيجية واضحة. لقد كانت الولايات المتحدة تعرف ما تريده حين كان هدفها إلحاق هزيمة بالاتحاد السوفييتي ومعسكره، لكنها لم تعرف منذ أن نجحت في ذلك ما الذي تريده. لذلك أخذت النظام العالمي إلى مجهول في ظل تحولها من سياسة تدخلية زائدة عن الحد وعدوانية في بعض جوانبها إلى انكفاء مبالغ فيه على نحو يُضعف النظام العالمي في مجمله مثلما يُلحق بها وبمكانتها الضرر.
 
لذلك كله يتضاعف خطر الاستثناء الإسرائيلي عبر تقويض ما بقى من مقومات للنظام العالمي في لحظة فريدة تقف فيها على رأس هذا النظام قوة عظمى (أو إمبراطورية بمصطلحات التاريخ) لا تعرف ماذا تريد تحديداً وليس لديها تصور واضح لمستقبل المجتمع الدولي. ففي مثل هذه اللحظات يصبح انفلات قوة غاشمة تتمتع بوضع استثنائي سؤالا كبيراً عن مآل النظام العالمي بمجمله، وليس فقط عن ضميره وأخلاقه ومقوماته الإنسانية.
 
-------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأربعاء، 6/8/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

د. وحيد عبد المجيد

د. وحيد عبد المجيد

مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام