يصنع التاريخ صوته حين يصمت الجميع، وتنهار الأقنعة لا بصخب المعركة، بل بهدير الوعي حين ينتصر على الوهم، وهذا بالضبط ما فعله المصريون في 30 يونيو 2013، حين خرجوا لا كجماهير غاضبة فحسب، بل كأمّة استردّت وعيها، واستعادت صوتها قبل أن يُختطف، ودولتها قبل أن تتحوّل إلى أداة طيّعة في يد من لا يؤمن بها.
لم تكن تلك اللحظة مجرد تمرّد على سلطة، بل لحظة وعي سياسي حاسم في مواجهة مشروع اختراقي استند إلى خطاب ديني ووهم شرعي، وخُطط له باحتراف ليُخضع الدولة لمنطق الجماعة لا لمنطق الوطن.
لقد أدرك المصريون أن الخلل لم يكن في شخص من تولّى السلطة، بل في المسار الذي أوصله إليها، وفي البنية السياسية التي مهّدت لصعوده، والخطاب الذي منح مشروعه غطاءً زائفًا من الشرعية، فقد اختلطت المفاهيم وتشوّهت المعايير، فتحوّلت الشرعية إلى أداة لإخفاء التبعية، والدين إلى وسيلة لتبرير الاستبداد، والوطنية إلى ستار يُغطّي صفقات لا تمر عبر الإرادة الشعبية.
في 30 يونيو، لم يُسقط الشعب نظامًا فحسب، بل أسقط خديعة محكمة، جرى تسويقها كمشروع إنقاذ، بينما كانت في جوهرها تهديدًا مباشرًا لمفهوم الدولة الوطنية، فالعدو هذه المرة لم يكن خارجيًا، بل محليًا، يتحدث بلسان الداخل، ويتقن التسلل إلى وجدان الناس من بوابة الشعارات الجامعة.
لم يكن الخطر في الوجوه التي غادرت، بل في الأقنعة التي ظلّت تتبدل، لقد كشفت الثورة عن منظومة أعمق من الجماعة ذاتها؛ منظومة تُتقن التلون، وتُعيد إنتاج نفسها مع كل لحظة فراغ سياسي، وتُسوّق مصالحها الخاصة بشعارات عامة تحمل اسم الوطن وتخالف جوهره.
هؤلاء لا يرحلون، بل يعاودون الظهور كلما ضعفت الذاكرة الجمعية، يتسللون عبر الإعلام، ويتوغّلون في الخطاب العام، ويتخذون من شعارات الإصلاح ستارًا جديدًا، هم بارعون في التكيّف مع الظرف، ويجيدون ارتداء قناع الانتماء، بينما لا يحملون من الوطن إلا اسمه.
لقد كشفت ثورة 30 يونيو أن ما كان على المحك لم يكن مجرد سلطة، بل منظومة مفاهيم جرى تسخيرها لخدمة مشروع لا ينتمي للدولة الوطنية، ومنذ تلك اللحظة الفارقة، لم يسقط نظام فقط، بل بدأ سقوط القناع الأكبر؛ القناع الذي يستتر وراء شرعية زائفة تحوّلت إلى ستار يُخفي مشروعًا بلا وطن، ووراء دينٍ استُدعي لتجميل الاستبداد، ووراء وطنيةٍ غُلّفت بها صفقات تُبرم في الخفاء، لا باسم الشعب، بل باسم البقاء.
ومن هنا، لم تكن 30 يونيو مجرّد لحظة غضب شعبي أو تغيير في السلطة، بل مثّلت تحولًا استراتيجيًا في الوعي السياسي الجمعي، واستعادة حاسمة للمفاهيم التي تقوم عليها الدولة الوطنية الحديثة، كالتمثيل الحقيقي، والانتماء للمؤسسات، والشرعية القائمة على الإرادة الشعبية لا على الشعارات، لقد كانت إعلانًا واضحًا بأن النفاق السياسي، حين يُترك دون مواجهة، يتحوّل إلى آلية خطيرة لإعادة إنتاج الأزمات، فالتغاضي عن الأقنعة التي تُخفي مشاريع التفكيك يفتح المجال أمام تكرار الخداع، بصور أكثر دهاءً، وأدوات أكثر خطورة على استقرار الدولة وبنيتها المؤسسية.
لقد بات واضحًا أن النفاق السياسي لا يُهزم بالشعارات ولا بالمواقف الخطابية، بل بيقظة مؤسسية ومجتمعية دائمة. فهذه الظاهرة لا تنسحب من المشهد، بل تعيد تموضعها وفق شروط اللحظة، بخطاب أكثر نعومة، وشعارات أقل صدامًا، لكنها تظل قائمة على منطق ثابت هو تحويل المصالح الضيقة إلى قضايا عامة، وتسويق التلوّن السياسي باعتباره مرونة، وتقديم المراوغة كأنها حكمة سياسية.
لكن مواجهة النفاق السياسي لا تكتمل بمجرد فضح خطابه، بل تتطلب إدراكًا أعمق لطبيعة البيئة التي تسمح له بالعودة، فالخطورة لا تكمن في الفاعلين وحدهم، بل في الشروط التي تُعيد إنتاجهم المتمثلة في ذاكرة قصيرة، وصمت عام، وتساهل مفرط مع التناقضات؛ وهي كلها عوامل تُشكّل مناخًا خصبًا لعودة التهديد نفسه، بأقنعة جديدة ولغة أكثر خداعًا، وهنا تتجلّى المسئولية الوطنية الكبرى ألا يختزل 30 يونيو في مناسبة تُستحضر سنويًا، بل أن يُفعّل كمرجعية دائمة للفرز والمساءلة، وضمانة يقظة لعدم تكرار الخديعة باسم الشرعية أو الإصلاح.
فالسياسة، إن لم تحصّنها الشعوب بالوعي، تتحوّل إلى مسرح للمنافقين، والدولة، إن لم تحمِ هويتها المؤسسية، تصبح عرضة للاختطاف، أما الشعوب، فإن سامحت من خانها دون مراجعة، فقد تُخدع مرة أخرى... وربما بثمنٍ أقل.
لقد انتصرنا في 30 يونيو لأننا امتلكنا شجاعة الفهم، فنحن لم نسقط حكمًا فقط، بل فككنا آلية الخداع التي جاءت به، وكشفنا الخطاب الذي شرّعه، وأسقطنا المنظومة الرمزية التي دعمته.
واليوم، كما نحرس حدودنا بالسلاح، علينا أن نحرس وعينا بالبصيرة، ونصون ذاكرتنا من التزييف، وإرادتنا من الاستلاب.
تحيا مصر... بذاكرتها الحيّة، وبوعيها الذي لا ينام، وبشعبها الذي لا يُخدع، وبقيادتها الشريفة التي لا تساوم.