مقالات رأى

مآلات المفاوضات النووية عقب التصعيد العسكرى مع إسرائيل

طباعة

يشهد الإقليم اليوم لحظة فارقة تكاد تختصر عقدًا من التحولات الجيوسياسية المتسارعة. فقد أعادت المواجهة الأخيرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الاحتلال الإسرائيلي رسم خطوط التماس بين الدبلوماسية والميدان، واضعةً الاتفاق النووي في مهب رياح العنف، وبينما تراقب واشنطن التطورات بحذر، تدور تساؤلات جوهرية حول ما إذا كان مشروع العودة إلى الاتفاق النووي لا يزال قائمًا، أم بات في حكم الماضي؟
🧭 أوضاع المفاوضات النووية بعد التصعيد.. من التجميد إلى الانهيار:
كانت المحادثات بين طهران وواشنطن، التي تجري منذ عام 2021 بوساطات أوروبية وعمانية، قد بلغت لحظة اختبار معقدة قبل أسابيع فقط من التصعيد العسكري. وبالرغم من مؤشرات التفاؤل الحذِر آنذاك، جاءت الضربات الجوية الإسرائيلية داخل العمق الإيراني لتقلب الطاولة، وتُحدث قطيعة مؤقتة في قنوات الاتصال غير المباشرة بين الجانبين.

في هذا السياق، أعلنت طهران – بمنتهى الوضوح – أن أي حديث عن مفاوضات نووية لا يمكن أن يستمر بينما تتعرض أراضيها لعدوان مباشر، وتحظى هذه الاعتداءات بدعم سياسي ولوجستي من الإدارة الأمريكية. أما واشنطن، فاختارت اللعب على حافة الهاوية، محافظة على موقف مزدوج: دعم إسرائيل دون الانجرار إلى مواجهة شاملة مع إيران.

  السيناريوهات المستقبلية: إلى أين تتجه المفاوضات!

📌 أولاً- في حال خرجت إيران من التصعيد أكثر قوة:

لا شك أن الصمود الإيراني العسكري والسياسي أمام الضربات سيمنح طهران دفعة قوية على طاولة التفاوض، وربما يدفعها إلى رفع سقف شروطها:

-فرض شروط تفاوضية جديدة تتضمن رفع العقوبات بشكل كامل قبل أي التزامات نووية إضافية.

-توسيع الشراكات الاستراتيجية مع موسكو وبكين، بما يخفف من وطأة العزلة الغربية.

-التعامل مع الولايات المتحدة من موقع الندية لا التبعية، في خطاب سيادي يعكس ثقة متزايدة بالنفس.

-تحقيق مكاسب إقليمية غير مباشرة عبر حلفائها في المنطقة، مما يكرّس نفوذها كقوة إقليمية لا يُستهان بها.

وفي هذا السيناريو، سيكون من الصعب – وربما المستحيل – العودة إلى اتفاق نووي مشابه لصيغة 2015، وقد تضطر القوى الغربية لإعادة بناء إطار جديد يتعامل مع إيران كقوة نووية قريبة من العتبة.

📌 ثانيًا-في حال نجحت إسرائيل في إحداث ضربة نوعية:

إذا تمكنت إسرائيل من توجيه ضربة قاصمة للمنشآت النووية الإيرانية أو لشخصيات قيادية في الحرس الثوري، فإن طهران قد تجد نفسها مضطرة إلى التهدئة ولو مرحليًا، حفاظًا على أمنها الداخلي وتماسكها السياسي.

-إيران قد تعود للمفاوضات بنَفَس جديد، لكنها ستكون أكثر حذرًا.

-الولايات المتحدة سترفع سقف مطالبها لتشمل البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي لطهران.

-الاتحاد الأوروبي سيضغط لتوسيع نطاق الاتفاق ليشمل قضايا حقوق الإنسان والإصلاحات الداخلية، وهو ما قد ترفضه طهران بشدة.

-إيران ستبدأ بإعادة بناء منظومتها النووية، مما يعني تأخير مشروع القنبلة النووية لأعوام.

في هذا السيناريو، سيعود الاتفاق النووي إلى واجهة الأحداث، لكن على نحو مُعقّد وبتكاليف استراتيجية باهظة لكافة الأطراف.

📌 ثالثًا- سيناريو الاستنزاف واللاحسم:

وهو الأكثر ترجيحًا في ظل المعطيات الحالية: لا انتصارا ساحقا لطرفٍ، ولا انهيارا كليا لطرفٍ آخر..عمليات متبادلة محدودة، تُبقي على نار الأزمة مشتعلة دون انفجار شامل.

-المفاوضات تدخل "حالة سبات طويل"، لكنها لا تموت.

-إيران وأمريكا تتجهان إلى إدارة "أزمة مُطوّلة" بدلًا من حلها.

هذا السيناريو يشبه الحرب الباردة بصيغة شرق أوسطية، حيث تُستخدم أدوات الضغط الاقتصادي، والدبلوماسية التنافسية، والردع العسكري المحدود، في آنٍ واحد.

🇪🇬 الدور المصري- توازن حكيم وموقع استثنائي:

في خضم هذا التعقيد، يبرز الدور المصري كعنصر استقرار في مشهد بالغ التقلب. فمصر، التي تربطها علاقات تاريخية مع الغرب، وتحافظ على تعاون وثيق مع الولايات المتحدة، نجحت أيضًا في بناء أرضية مشتركة للتفاهم مع إيران، تقوم على احترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والعمل من أجل مصالح الشعوب لا حسابات المحاور.

وهنا يمكن للقاهرة أن تلعب أدوارًا متعددة:

-جسر حوار بين طهران والعواصم الغربية عبر الدبلوماسية الهادئة.

-مبادِرة عربية للتهدئة في المنطقة، تنطلق من مبادئ ميثاق جامعة الدول العربية.

-مساهم رئيس في مشروع أمن إقليمي مشترك، لا يُقصي أحدًا ولا يعادي أحدًا، بل يستوعب الجميع.

إن تعزيز التعاون الاقتصادي، والانفتاح الثقافي، والحوار السياسي الصريح، كفيل بأن يجعل من العلاقات المصرية–الإيرانية نموذجًا للتوازن العقلاني، في زمن الاندفاع والانفعال.

🧭 الخلاصة.. المنطقة أمام مفترق طرق:

إن الشرق الأوسط، كما يُقال، لا يحتمل الفراغ. وفي ضوء التجاذب الحالي، فإن مصير الاتفاق النووي الإيراني سيعتمد على معادلة دقيقة من:

-النتائج الميدانية للمواجهة الحالية.

-مواقف القوى الدولية الكبرى (الصين – روسيا – الاتحاد الأوروبي).

-ديناميات الداخل الإيراني، وقدرته على تجاوز الضغوط الخارجية.

-دور مصر والدول ذات الرؤية المستقلة في حفظ الاستقرار الإقليمي.

وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن بصدد نهاية عهد المفاوضات التقنية وبداية مرحلة المساومات الكبرى على النفوذ والمصالح؟ أم أن الحكمة السياسية، التي تجسّدها القاهرة ببراعة، قادرة على استعادة التوازن وتجنب المنطقة صِدامًا لا تُحمد عواقبه؟

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. نجلاء سعد البحيري

    د. نجلاء سعد البحيري

    باحثة في الشئون الإقليمية، مدرس بجامعة قناة السويس