مقالات رأى

«الربيع العربي» في ذكراه الثالثة!

طباعة
لم يأت بعد أوان الحكم الذي سيصدره التاريخ على ما أُطلق عليه «الربيع العربي»، الذي بدأت أحداثه من تونس قبل ثلاث سنوات حين اندلعت شرارة انتفاضتها بمدينة سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010. وقد لا يكون الفشل الظاهر الذي مُنيت به محاولات التغيير التي استهدفتها انتفاضات وثورات هذا الربيع نهائياً لأن مياهاً أخرى ستجري في نهر البلاد التي حدثت فيها هذه المحاولات قبل أن يصدر التاريخ حكمه عليها.
 
ويثير ذلك سؤالاً لا يعتبر جديداً في دراسة تاريخ الثورات وهو: هل تظل أهداف الثورة أو التغيير القسري قابلة للتحقق على مدى زمني أطول وعبر مسار متعرج من التقدم والتراجع لسنوات طويلة حين يتعسر إنجازها في المدى القصير؟
يرتبط هذا السؤال برؤية فلسفية بلورها إيريك هوبزباوم في تحليله لمسار الثورة الفرنسية التي لم تبدأ في تحقيق أهدافها إلا بعد ما يقرب من قرن على موجتها الأولى عام 1789، علماً بأن دلالة الزمن اختلفت كثيراً بين القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين. ويقترن السؤال عن إمكان نجاح الثورة آجلاً وليس عاجلاً بالمسار السياسي الاجتماعي خلال الفترة التالية للثورة. فلم تحقق الثورة الفرنسية أهدافها في وقت متأخر إلا لأن المسار السياسي الاجتماعي الذي أعقبها كان متعرجاً. فلم تتمكن الثورة المضادة التي انتصرت عام 1799 من إعادة البلاد إلى الوراء بالكامل، ولا من وقف حركة التاريخ التي ظلت مستمرة ببطء حتى أنتجت ثورة 1848. كما أن الانقلاب على هذه الثورة عام 1852 لم يستطع إنهاء شوق الشعب الفرنسي إلى الحرية، رغم انحياز قطاع أساسي من الثوريين إلى القوى المحافظة خوفاً من تنامي نفوذ الاشتراكيين وأنصار الطبقة العاملة بُعيد ثورة 1848.
 
ولم يكن ممكناً أن ينتهي هذا المسار المتعرج إلى تحقيق أهداف ثورة 1789 إلا لوجود قوى حية ظلت قادرة على استعادة قدرتها على التأثير رغم الإحباطات المتكررة. لذلك ظلت إمكانات التقدم نحو الحرية قائمة رغم التشاؤم الذي أحدثه الانقضاض عليها عام 1852.
 
ومن مفارقات المسار السياسي الاجتماعي المتعرج في فرنسا أن الحالة الرمادية التي اكتنفت هذا المسار في أشد لحظات التشاؤم، واعتبرها كارل ماركس دليل خيبة كبرى، كانت أهم ضمانات النجاح للثورة الفرنسية لاحقاً. فقد علق ماركس على تعقيدات التناقضات الاجتماعية في فرنسا قائلاً: «لو أن حقبة في التاريخ طُليت بلون رمادي لكانت هي هذه الحقبة بحذافيرها». فكانت رمادية تلك المرحلة، بل المسار السياسي الاجتماعي الفرنسي على مدى ما يقرب من قرن بعد ثورة 1789، هي التي أتاحت تحقيق أهداف هذه الثورة بعد أن صارت تاريخاً وباتت موضع اهتمام أكثر من جيل من المؤرخين.
 
فليس شرطاً أن تكون الثورة خطاً مستقيماً أو صاعداً بلا هبوط، لأن التطور التاريخي الذي تعبر عنه قد يستمر على مدى زمني طويل مع فشلها في إنجاز أهدافها في المدى القصير. وفي هذه الحالة ربما يصح القول إن الثوار فشلوا في البداية، لكن الثورة تنجح في النهاية. وربما ينطبق هذا القول على انتفاضات «الربيع العربي» أو بعضها، فالذبول السريع لأوراق هذا «الربيع»، على نحو يستدعي التحفظ على إطلاق هذا الاسم عليه الآن، دليل لا شك فيه على فشل الثوار، لكن هذا الفشل لا يعني بالضرورة غلق الطريق أمام تحقيق أهدافهم المتعلقة بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية في المستقبل. وقد حدث مثل ذلك مرات في تاريخ الثورات منذ الثورة الفرنسية. وتفيد هذه الخبرة أن طريق الثورة ليس اتجاهاً واحداً في الأغلب الأعم. ففي هذا الطريق ذهاب وإياب، أو خطوة للأمام وأخرى أو أكثر إلى الوراء.
 
وكم من ثورات معاصرة وأخرى أقدم، بما فيها ثورات «كلاسيكية» معتبرة، مثل الثورة الفرنسية، تدعم هذه النظرية. ولعل أكثرها وضوحاً الآن الثورة الأوكرانية التي اندلعت في أواخر عام 2004 وألهمت شعوباً عدة، رغم أية ملاحظات بشأن تأثير أوساط سياسية وحقوقية غربية فيها أو العوامل الإقليمية المؤثرة عليها. فلم يعد ممكناً في العالم الراهن عزل المؤثرات الإقليمية والدولية عن التطور الداخلي، خاصة عندما يحمل هذا التطور في طياته نذر تحولات كبيرة أو دراماتيكية. وليس الصراع الحاد في المجتمع الأوكراني بين أنصار البقاء في الحضن الروسي ودعاة «الأوربة» أو الاندماج في الاتحاد الأوروبي إلا نوعاً من الانقسام الذي لا تخلو معظم المجتمعات من أنواع أخرى منه. وتفيد الخبرة التاريخية أيضاً أن الانقسام المجتمعي كان من أهم المؤثرات السلبية على الثورات، خاصة عندما يتحول إلى استقطاب حاد، على النحو الذي تسهل ملاحظته في بلاد «الربيع العربي» الآن.
 
وقد مرت الثورة الأوكرانية، التي حدثت في مجتمع منقسم، بمنعطفات عدة صعوداً وهبوطاً على مدى ما يقرب من عشر سنوات، ولم يخمدها نجاح القوى المضادة لها في استعادة السلطة التي مازالت بين يديها حتى اليوم. وما التظاهرات الحاشدة التي تملأ ميدان الاستقلال في كييف وميادين أخرى منذ الأسبوع الأخير من نوفمبر الماضي إلا إحدى موجات هذه الثورة التي مازال قطاع واسع من الشعب يتطلع إلى تحقيق أهدافها، رغم شدة بأس القوى المضادة لها. ومازال بإمكان الثورة البرتقالية أن تحقق أهدافها في النهاية إذا بقي أنصارها متمسكين بها، بشرط أن يكونوا قادرين على الحد من تأثير الصراع بين روسيا والاتحاد الأوروبي عليهم وعليها. وقد يكون الأمر كذلك أيضاً بالنسبة إلى بلاد «الربيع العربي» التي تعاني استقطاباً ولكن من نوع آخر بين قوى ديمقراطية مدنية تتطلع إلى المستقبل وأخرى ترفع شعارات دينية وتعيش في الماضي وتحاول البقاء فيه وعدم مغادرته.
 
وحين يكون العبور إلى مستقبل أفضل متوقفاً على تجاوز استقطاب يعطل الطريق نحو هذا المستقبل، يمكن أن يكون حكم التاريخ قاسياً على البلاد التي تفشل نخبها وشعوبها في وضع حد لهذا الاستقطاب. فقد لا يكون حكم التاريخ مقصوراً على تسجيل فشل أو نجاح ما اعتبرناه «ربيعاً عربياً». وربما يكون هذا الحكم أكثر قسوة من مجرد تسجيل الفشل حال حدوثه بشكل نهائي. وليس مستبعداً أن تكون قسوة حكم التاريخ شديدة حين يتعلق الأمر ببلاد أتيحت لها فرص تاريخية عدة للنهوض والتقدم، وخاصة مصر التي عرفت ثورتين مهمتين في القرن العشرين (1919 و1952) قبل أن تستهل القرن الحادي والعشرين بثورة أخرى، دون أن تأخذ طريقها إلى المستقبل. وإذا استمر عجزها عن شق هذا الطريق، سيبدو الأمر كما لو أن التاريخ يعيد إنتاج نفسه بأشكال مختلفة ولكنها تقود إلى النتيجة نفسها. غير أنه بالإضافة إلى ما ذهب إليه ماركس، وهو أن التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة أو ملهاة، يبدو أن تاريخ الثورات المعاصرة قد يكون ساخراً أو مستهزئاً بشدة عندما يُعاد إنتاجه في حالة عدم امتلاك الوعي اللازم به.
 
-----------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأربعاء، 25/12/2013.
طباعة

تعريف الكاتب

د. وحيد عبد المجيد

د. وحيد عبد المجيد

مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام