مقالات رأى

الآليات التنفيذية فى مشروع الدستور

طباعة
 
معظم دساتير العالم تتضمن نصوصا جيدة تُعِدَد الحقوق والحريات وتنظم العلاقة بين السلطات. ومع ذلك تظل هناك فجوة بين الدساتير والواقع، إما لخلو الدستور من آليات لتنفيذ مواده وكثرة إحالته إلى القانون، وإما لوجود بعض الجمل الاعتراضية أو الكلمات المفخخة التى يمكن التحايل بها على التنفيذ. والمثل الحى أمامنا هو دستور مصر لعام 1971 الذى يتضمن حزمة لا بأس بها من الحقوق والحريات كالحق فى التنظيم وحرية العقيدة والإبداع.. إلخ لو أنها فُعلت بآليات وأحيطت بضمانات لما احتجنا إلى دستورين فى عام 2012 وعام 2013، بل إن الأساس الجيد لدستور 1971 هو الذى يؤدى إلى التفكير فورا فى إعادة العمل به مع بعض التعديلات الطفيفة كلما تعذر توفير الأرضية السياسية المناسبة لصناعة دستور جديد.
 
وقد حاول دستور 2012 أن يٌفصل فى بعض الآليات التى أحال تشكيلها دستور 1971 إلى القانون، ومن ذلك تشكيل المحكمة الخاصة المعنية بمحاكمة رئيس الجمهورية فى حالة اتهامه بجريمة الخيانة العظمى. وحاول أن يستحدث آليات أخرى لتفعيل مبدأ مكافحة الفساد بمفوضية خاصة بهذا الغرض، وحفظ مبدأ تمثيل المصالح عبر المجلس الاقتصادى والاجتماعى لمواجهة آثار إلغاء نسبة ال 50 % للعمال والفلاحين لاحقا. لكن ذلك كله ظل فى نطاق محدود لا يطال الكثير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وأحسب أن من أهم ما يميز مشروع الدستور الجديد هو تضمنه جملة من الآليات التى تحول النصوص الدستورية من جٌمل إنشائية إلى واقع ملموس. وهذا المقال يناقش بعض تلك الآليات اعتمادا على مسودة 21/11/2013 التى نشرها موقع اليوم السابع يوم 23، وإن كانت غير نهائية.
 
الآلية الأولى هى التخصيص النسبى بمعنى ربط الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية للدولة بنسب معينة من الناتج القومى، فالنص المنشور يفيد التزام الدولة بتوفير 3% من الناتج القومى الإجمالى للتعليم ما قبل الجامعى و2% للتعليم الجامعى و1% للبحث العلمى و3% للصحة، مع تصاعد تدريجى فى تلك النسب لتتلاءم مع المعدلات العالمية. أما فى دستور 2012 فقد استخدم مصطلح « نسبة كافية « فى المادتين 58 و59 لبيان التزام الدولة تجاه كل من التعليم والبحث العلمى، وفى المادة 62 فيما يخص الإنفاق على الصحة، مما يستحيل معه محاسبة الحكومة على التقصير. بطبيعة الحال هناك من يتحفظ على هذا « التكميم لالتزامات الدولة « عموما وعلى ربط هذا التكميم بنسبة من الناتج القومى الإجمالى خصوصا. فمن جهة يعتبر البعض أن المواد المذكورة تجعل الدستور كما لو كان هو الذى يضع ميزانية الحكومة ويتدخل فى العمل الفنى لمجلس النواب، ويحذر من احتمالات العجز عن تمويل خدمات الصحة والتعليم بالنسب المذكورة وبالتالى لجوء الحكومة لتدابير مضادة كرفع الأسعار مثلا، هذا إلى أن الناتج القومى بطبيعته هو حاصل جمع موارد الدولة ومنها عوائد متغيرة كالسياحة وقناة السويس. لكن تلك الافتراضات النظرية تقابلها افتراضات نظرية أخرى من قبيل أن تحسين الصحة يمكن أن يؤدى لزيادة معدلات الإنتاج، وأن الاهتمام بالبحث العلمى قد يؤدى لوقف نزيف الأدمغة أو رأس المال الاجتماعى وهو أهم عناصر الإنتاج، وأن الدخل الناتج عن الزراعة والصناعة هو نفسه قد يتأثر بعوامل طارئة.
 
الآلية الثانية هى المؤسسية، ومن أهم المؤسسات التى استحدثها المشروع مفوضية مستقلة للقضاء على كافة أشكال التمييز، مما يمثل خطوة جبارة مقارنة بالمادة 33 من دستور 2012 التى خلت من آلية لمنع التمييز بل أوجزت بشدة فيما يخص قضية التمييز بين المواطنين. هذه الآلية هى مكسب لكل من يمارس ضدهم تمييز قصدى أو عفوى بسبب اختلافهم فى الدين أو النوع أو اللغة.. إلخ، وهى مع آلية تخصيص ربع عدد مقاعد المحليات للشباب ومثلهم للنساء من الإجراءات واجبة التحية. وإن كانت المعضلة التى ستواجهها هذه الآلية هى فى التوفيق بين القيود التى تقيد ممارسة أصحاب الديانات غير السماوية لشعائرهم وبين مكافحة التمييز التى لا تميز بين كتابيين وغير كتابيين.
 
الآلية الثالثة هى التصويت على القوانين المكملة للدستور، إذ يشترط النص لصدور القوانين التى تنظم الانتخابات والأحزاب السياسية والسلطة القضائية والحقوق والحريات، يشترط موافقة ثلثى أعضاء مجلس النواب، وذلك حتى لا يتمكن تيار سياسى يحظى بأغلبية مطلقة من تقييد ما أباحه الدستور، لأنه أيا كانت درجة تفصيل الوثيقة الدستورية فمن المستحيل أن تحيط بكل شاردة وواردة. وإذا كانت الإحالة للقوانين واقعة لا محالة فلا أقل من تسييجها بضمان تصويت مناسب. ويلاحظ أن التمييز بين قوانين عادية وقوانين أساسية واشتراط أغلبية تصويتية مختلفة فى الحالتين نص مذكور فى مشروع الدستور التونسى الذى لم يٌعتمد بعد، لكن لا أثر لمثل هذا التمييز فى دستور 2012 بهدف إعادة تشكيل المنظومة القانونية اعتمادا على الأغلبية المطلقة للإخوان ومن والاهم.
 
الآلية الرابعة هى حماية موارد الدولة عن طريق توقيت حقوق استغلال المرافق العامة والموارد الطبيعية بعدد معين من السنوات تحقيقا لمبدأ أن ملكية الشعب لموارد الدولة هو الأصل، وأن اختصاص أفراد أو جهات باستغلال تلك الموارد هو الاستثناء وبشرط حسن الاستغلال. هذا النص المستحدث يعتبر البعض أنه قد يتعارض مع الظروف الطارئة التى تعترض تنفيذ مشروع من المشروعات بما يحتم تمديد أجل التنفيذ. لكن من المفهوم أن كل مشروع يتضمن فترة سماح لمواجهة مثل تلك المستجدات.
 
إن مسودة الدستور الجديد كما عرضت لبعض ملامحها جديرة بدراسة مستفيضة لكثير من موادها المتقدمة التى تحقق معنى العدالة الاجتماعية، وتجعل احترام الدستور سيفا على رقبة رئيس الدولة - كما على رقاب كل المسئولين- فإن حنث به وجبت محاكمته، وهى تحتفى بالثقافة والإبداع كما لم يحتف بهما من قبل دستور مصرى. بالطبع لن يرضى دستور 2013 الكل لكن الكل سيجد كثيرا مما يطلبه فى هذا الدستور.
 
---------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الخميس، 28/11/2013
طباعة

تعريف الكاتب

نيفين مسعد