مقالات رأى

العرب ومأزق المسارات الغامضة التاريخى

طباعة

من وجهة نظرى، تتكرر المسرحية الآن لكن بـ"ممثلين" جدد، فمنذ خروج العراق منكسرًا، منتصف التسعينيات، بعد عملية "عاصفة الصحراء" العسكرية، ثم التمويه على تداعياتها الكارثية بمؤتمر "مدريد"، كوعد زائف بالسلام، ومعظم العرب يترنحون بين أمل واهن، وخيبة محققة.

نعم، تبدلت وجوه، واختلفت لهجات، لكن أسلوب الخداع كما هو، بينما القناعة الأمريكية- الإسرائيلية المشتركة: معظم الأنظمة العربية سريعة النسيان، بطيئة فى إدارة التوقيت، وما إن تتعرض للصدمة حتى يسهل الدفع بها إلى مائدة تفاوض تليق بضعفها، لا بعدالة قضيتها.

حاليًا، يطل علينا الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، ورئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، بمبادرات جديدة-متناقضة، يتم تسويقها كحلول للصراع العربي-الإسرائيلى، لكنها لا تختلف فى طبيعتها عن "حيلة"، تمت قبل 24 عامًا، لم تأخذ من "السلام" سوى اسمه، لزوم التسويق الإعلامى.

طرح ترامب-نتنياهو، الذى تناقشه الإدارتان الآن، مجرد "فخ"، وجزء من خطة استفادة مشتركة، لإنقاذ نتنياهو المأزوم داخليًا ودوليًا، ورغبة ترامب فى مجد شخصى، لكنها لا تعنى القناعة بإنهاء الصراع، فلا العقيدة اليهودية تسمح، ولا اليمين المتصهين فى الداخل الأمريكى يقبل!

ما يتم طرحه الآن، محاولة جديدة للتغرير، تُخفى فى طياتها إعادة ترتيب موازين القوى بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب، وتترك من يصدقهم من العرب فى مواجهة مصيرهم الممزق، على نحوٍ تحقّق بعد "عاصفة الصحراء" حينها، ويكاد يتكرر بعد تدمير قطاع غزة، خلال العامين الأخيرين.

لم تكن "عاصفة الصحراء" مجرد عملية عسكرية، بل بوابة عبور إلى زمن آخر، تداعت فيه جدران الممانعة القومية، وتسللت الوصايا الأجنبية على أطلال مواقف مرتعشة وعواصم مرتجفة، لكن يبدو أنه من زمن بوش الأب إلى ترامب، يتشابه السيناريو كثيرًا، رغم أن النتائج اللاحقة كانت تتطلب "وقفة".

صيف عام 1990، هز غزو العراق للكويت المنطقة العربية، فقد كان زلزالًا اقتصاديًا، هدد شريان النفط العالمى، وسياسيًا، لأنه كسر خطوطًا حمراء فى العلاقات العربية، فضلًا عن كونه زلزالًا عسكريًا، لأنه كان مغامرة عراقية غير محسوبة العواقب، فى مواجهة قوة غير متوقعة، آنذاك.

الرد الأمريكى، بقيادة جورج بوش (الأب)، فاق تحرير الكويت، فقد كانت "عاصفة الصحراء" فى يناير 1991، بداية مخطط التحول الجيوسياسى، شارك فيه تحالف ضم أكثر من 30 دولة، مع استخدام تقنيات جديدة (أقمار صناعية، وأسلحة ذكية) فى تبديد القوة العراقية.

خرج العراق من الحرب جثة هامدة، بعدما كانت قوته المسلحة إحدى ركائز التوازن العربى أمام إيران وإسرائيل، لكنها تهاوت تحت وطأة الضربات الجوية والحصار الاقتصادى، وتسببت العقوبات الأممية، التى استمرت سنوات، فى تدمير عوامل القوة وإنهاك المجتمع.

العقوبات، فككت مؤسسات العراق، ومهدت الطريق لغزو أمريكى مباشر فى ربيع عام 2003، مما أكمل مسيرة التفتيت، فأصبح القطر الشقيق -الذى كان صوتًا قويًا فى المعادلة الإقليمية- ساحة للصراعات الطائفية والمذهبية، وبيئة خصبة لتدخلات خارجية، توضح نتيجة انهيار إحدى ركائز الأمن القومى العربى.

استغلت واشنطن الفرصة لتثبيت أقدامها فى المنطقة، فتوسعت فى القواعد العسكرية، بينما الرسالة كانت شديدة الوضوح: الأمن فى المنطقة لن يكون عربيًا بعد الآن، خاصة بعدما تحولت القواعد الأمريكية إلى مركز عمليات دائمة، وتآمر مباشر على مفهوم التضامن العربى، الذى تعرض لـ"شروخ".

لم تلتفت عواصم غارقة فى الصراعات البينية (ولا تزال)، إلى مخطط إعادة تعريف الأمن القومى من أداة مقاومة جماعية إلى عقد حماية مع الغرب، حتى جامعة الدول العربية، التى كان يُفترض أن تكون صوتًا موحدًا، تعرضت للتصدع العمدى، حتى تفقد قدرتها على إدارة أزمات المنطقة وتحدياتها.

وفيما كانت المنطقة العربية تضمد جراحها بعد "عاصفة الصحراء"، تم دعوة مسئوليها إلى مدريد، لم تكن الدعوة إلى السلام آنذاك -خلال الفترة من 30 أكتوبر حتى 1 نوفمبر 1991- أكثر من ستار رقيق يُخفى وراءه مشهدًا أكثر قتامة: عراق محطم، ومنظومة عربية مفككة، ومشروع أمريكى للتفرد بإدارة المنطقة.

يومها، رقص المتفائلون على أنغام "الأرض مقابل السلام"، لكن لم يطرح أحدهم، حينها، السؤال الحقيقى: أى أرض؟ وأى سلام؟ خاصة أن الانتصار العسكرى الأمريكي-الإسرائيلى، ضمنيًا -لم يكن نهاية، بل بداية لإعادة صياغة الشرق الأوسط.

فى مدريد، العاصمة البعيدة –الصاخبة- كانت مائدة "سلام" من ورق، رعتها أمريكا، وباركها الاتحاد السوفيتى -الذى كان يعيش المشهد الختامى للانهيار- وجلس على أطراف الطاولة لاعبون فقدوا أوراقهم أو تم إجبارهم على تمزيقها، قبل شهور، من الكويت الجريح إلى العراق القتيل.

كان العرب ممزقون بين من باركوا التدخل الأمريكى وفتحوا أراضيهم للقواعد، ومن صمتوا خشية السقوط فى فخ العزلة، ومن تراجعوا عن شعاراتهم القديمة، وتبنّوا الواقعية السياسية مبرّرًا لمواقفهم، وكانت النتيجة أن الأمن القومى العربى قام بتعريفه أطراف من خارج المنطقة، أو مقحمون عليها.

مدريد، لم يكن مؤتمرًا بقدر ما كان مشهدًا مسرحيًا يُسوِّق لفكرة أن الزمن الأمريكى قد بدأ، وأن كل خلاف عربى يجب حله تحت العباءة الغربية، فيما تم عزل منظمة التحرير الفلسطينية عن المشهد التفاوضى الحقيقى، بعدما أجبروها على الجلوس ضمن وفد مشترك مع الأردن، بلا علم ولا اسم!

الفلسطينيون وجدوا أنفسهم فى موقف ضعيف، بعدما خسرت المنظمة دعمًا خليجيًا كبيرًا بسبب موقفها المؤيد للرئيس العراقى الراحل، صدام حسين، خلال غزو الكويت، لكن الموقف لم يكن أكثر من ذريعة لاستبعادهم –المتفق عليه مسبقًا– من محركى الأحداث.

كأن ذلك لم يكن كافيًا، تحوّل المؤتمر إلى حاضنة لعملية تفاوضية طويلة استُنفدت خلالها أوراق الفلسطينيين، وتآكلت مطالبهم تدريجيًا، من اللاجئين، إلى القدس، إلى السيادة، وحتى اتفاق "أوسلو" الذى خرج من رحم مدريد، لم يكن أكثر من "نداهة" عبر سلطة رمزية تحت سقف الاحتلال.

ما تم حينها كان بداية مسار "غامض" لأصحاب الأرض، وواضح لمن حوّلوا "الوعود" إلى فرض، لكن الجولات التفاوضية لم تحقق السلام، بل عززت الهيمنة الأجنبية، على نحو يشبه ما نراه الآن بوجوه جديدة، فترامب ونتنياهو يروّجان لمبادرات يصفانها بـ "التاريخية"، وإن كانت أقرب لأجواء مؤتمر مدريد.

إذن، نحن أمام مشهد جديد، ونص قديم، لكنه هذه المرة بدون مكياج دبلوماسى، فكل شيء واضح وفاضح، من صفقات التهجير المُقنَّع، إلى مساعى شطب حق العودة للشعب الفلسطينى، إلى محاولات شيطنة أصحاب المواقف القومية، وتجفيف منابع الصمود العربى.

الذين يُغريهم ترامب حاليًا هم أبناء أولئك الذين هللوا لمؤتمر "مدريد" عام 1991، والذين يسيرون خلف وعوده. صمت أسلافهم أمام حشد جيوش جورج بوش الأب لتحطيم العراق، لكن ما بين بوش وترامب، لا فرق فى الحيلة، ولا جديد فى الوجع، سوى أن الكارثة تكررت بصيغة أكثر فجاجة، وبتواطؤ أقل خجلًا.

مخطط ترامب- نتنياهو، محاولة تسويق لسياسات مغلّفة بالسلام، لكن طبيعته إعادة هندسة الإقليم على حساب أصحاب الحقوق. وبينما تُروّج إسرائيل لأوهام الاستقرار، تتزايد معاناة أهالى غزة، ويُستدرج الرأى العام العربى لصيغة تطبيع جديدة، ترسخ الاحتلال بغطاء أمريكى.

وكما استخدم بوش الأب "الملف الفلسطيني" كوسيلة لاحتواء التداعيات السياسية لـ"عاصفة الصحراء"، يستخدم ترامب الحصار والحرب والضغوط والعقوبات لترويض الفلسطينيين، وجرّهم إلى طاولة تفاوض مفرغة من أى مضمون، لأن إسرائيل (عقائديًا، وعلى كل الأصعدة) ليس فى قاموسها: حل "الدولتين".

الهدف ليس السلام، ولا الدولة، ولا الحقوق، بل نزع المخالب، وتدجين القضية، وتحويلها إلى نزاع إدارى حول تصاريح عبور وسلال غذائية. أما إيران، فتُعاد شيطنتها بالرواية الإسرائيلية ذاتها القديمة-المتجددة، كتهديد يجب حصاره، تمهيدًا لإضعاف طرف جديد فى توازنات الإقليم.

ولأن التاريخ لا يقبل الخداع، ويسخر ممن يرفضون قراءته، فإن العودة إلى لحظة مدريد تكشف بوضوح أن العرب دُفعوا إلى وهم السلام تحت ضغط الهزيمة لا شروط التوازن. واليوم، يُدفعون إلى وهم آخر، عنوانه "سلام اقتصادي"، ومضمونه تبديد ما تبقى من الإرادة.

من لا يتعلم مما حدث، قبل ربع قرن، سيعيش التداعيات مجددًا بالخدع نفسها، ويتجرع ما يفوق آلام الماضى، ما يتطلب التصدى لمخطط إعادة ترتيب المنطقة، حتى لا تصبح مستعمرة أمريكية-إسرائيلية، لا مجال فيها لتسويات، بل ضعفاء يستعبدهم أقوياء.

هنا، لا بد أن نسأل: إلى أين تنتهى النسخة الثانية من "مدريد-الافتراضي" بغض النظر عن مكان مائدة التفاوض؟ وهل تنطلى الحيلة علينا مرتين؟ أم إنه وسط الركام العربى المتعب، ما يكفى من الوعى لقول "لا" للمخطط الجديد، الذى يستهدف إسدال الستار على ما تبقى من الحقوق التاريخية؟!

ما فعله بوش، يفعله ترامب. وما بدأ فى مدريد، يوشك أن يُغلق اليوم فى غرف المشهد الأخير لـ"صفقة القرن" التى لا يريد لها أصحابها أن تُقرأ، بل أن تُمرَّر كما مرت "عاصفة الصحراء"، تحت دخان القصف، ورائحة النفط، وصفقات التسلح، ووعود الدعم المشروط.

فى خلفية المشهد، تبتسم إسرائيل. تتفرج على العرب وهم لا يتذكرون مشاهد "عاصفة الصحراء" العسكرية، بعد دغدغة مشاعرهم بمؤتمر "مدريد" آنذاك، رغم الأجواء المتشابهة من غزة المكلومة إلى إيران المأزومة، فقط، التمهيد للانخراط الكامل فى مشاريع "تطبيع" لا تنتمى لفكرة الوطن ولا للذاكرة.

الدرس واضح من "عاصفة الصحراء" ومؤتمر "مدريد" إلى الطرح الأمريكي-الإسرائيلى: لا سلام يُبنى على أنقاض القوة العربية، ولا استقرار يتحقق بتفكيك الأمن القومى. مجددًا، تذكروا أن التاريخ يعيد نفسه، فهل سيتعلم العرب هذه المرة؟!

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد بديوي

    أحمد بديوي

    كاتب وصحفي مصري