مقالات رأى

الصراع الإيراني-الإسرائيلى من منظور نظرية "الدومينو"

طباعة

يعيش الشرق الأوسط لحظة تاريخية تتسم بأقصى درجات التعقيد والاحتدام، وسط ما يمكن تسميته بـ "تدحرج أحجار الدومينو الجيوسياسية"، حيث لم تعد حدود التحولات مرهونة بانهيار أنظمة أو تبدل تحالفات، بل باتت تشمل المفاهيم، والهويات، وشبكات الولاء العابرة للدول. وفى مركز هذه الفوضى الخلاقة يتجلى صراع رؤيوى مستحكم بين مشروعين متناقضين على مستوى الهوية والرؤية الكونية: الجمهورية الإسلامية فى إيران، والدولة العبرية فى إسرائيل.

هذا الصراع ليس مجرد تنافس تقليدى على النفوذ، بل هو اشتباك فلسفى عميق يتجاوز الحدود السياسية إلى سؤال وجودى عن من يملك حق إعادة تعريف النظام الإقليمى، وفى أى صورة. لفهم هذا الاشتباك، تقدم "نظرية الدومينو" إطارا تحليليا بالغ الأهمية، إذ تسمح لنا بتتبع كيف يؤدى سقوط حجر (حدث، دولة، كيان أو فكرة) إلى تداعيات متسلسلة ومتراكبة، تُعيد رسم الخريطة الذهنية والاستراتيجية للمنطقة.

أولا- فلسفة إدراك التهديد.. من الجغرافيا إلى الوعى:

فى قلب هذا الصراع، لا تكمن الأزمة فى التحركات الميدانية فحسب، بل فى "إدراك التهديد" كآلية تأسيسية لسلوك الطرفين. فإيران وإسرائيل لا ترصدان الأحداث فحسب، بل تعيدان تأويلها باستمرار كتهديدات وجودية، مما يغذى دورة لا نهائية من التصعيد والردع وإعادة التموضع.

إيران تنظر إلى محيطها كمنطقة محاصرة ثقافيا وعسكريا، حيث يشكل التحالف الأمريكي-الإسرائيلى تهديدا شاملا يستهدف عقيدتها واستمراريتها. ولهذا تتبنى ما يُعرف بـ "الاستراتيجية النبوية"، أى مشروع أممى أيديولوجى يتجاوز الحدود، يستثمر فى الشبكات والأجيال والمجال الزمنى المقاوم، وتتمثل أبرز أدواتها فى:

·          تكتيك اللاحرب واللامصالحة: لتفادى الحرب الشاملة مع إبقاء الاشتباك دائما.

·          الحرب غير المتكافئة عبر الوكلاء: حزب الله، والحوثيين، وفصائل العراق وسوريا.

·          تعميق المجال الحيوى: لتوسيع حدود الأمن القومى إلى ما بعد الجغرافيا.

·          الاحتلال الرمزى للزمن: عبر ترسيخ سرديات مقاومة تعبوية فى الوعى الجمعى.

إسرائيل على الجانب الآخر، تنظر إلى نفسها كدولة غربية حديثة محاطة بعالم عربي-إسلامى يعدها جسما غريبا يهدد هويته، ولهذا فهى تعتمد على:

·          سياسة "جز العشب": عبر ضرب مراكز القوة الإيرانية ووكلائها دوريا.

·          تكوين تحالفات الأطراف: اتفاقيات التطبيع العربية كجدار صد جيوسياسى.

·          الردع السيبرانى: عبر "القبة الذهبية" للردع الإلكترونى والمعلوماتى.

·          معارك الإدراك: تحسين صورتها عربيا ودوليا عبر إبراز التهديد الإيرانى المشترك.

هذا التعارض فى إدراك التهديد يحوّل كل تحرك إلى سبب محتمل لانهيار متسلسل، كما فى أحجار الدومينو، حيث لا يكون الحجر سوى شرارة لبنية تتهاوى  بالكامل بفعل ترابط مكوناتها النفسية والجيوسياسية.

ثانيا- تطبيق نظرية الدومينو على الصراع:

حجر الدومينو الأول: التصعيد المباشر:

السقوط المحتمل:

هجوم عسكرى واسع النطاق، أو ضربة سيبرانية كبرى، تتجاوز قواعد الاشتباك المتعارف عليها.

التداعيات المتسلسلة:

·          دخول قوى إقليمية (الخليج، تركيا) ودولية (الولايات المتحدة، والصين، وروسيا).

·          اشتعال الجبهات الهامشية (غزة، ولبنان، والعراق).

·          انهيار الأسواق النفطية وزعزعة الاستقرار العالمى.

 

حجر الدومينو الثانى: انهيار دولة محورية (سوريا، لبنان):

السقوط المحتمل:

نتيجة تفاقم الضغوط الاقتصادية أو الأمنية.

التداعيات المتسلسلة:

·          تفريغ جيوسياسى تستغله قوى متطرفة أو دول متنافسة.

·          موجات لجوء جديدة، تؤثر على أمن أوروبا والدول المجاورة.

·          انزياح موازين القوة الإقليمية، وعودة لعسكرة الحدود الهشة.

حجر الدومينو الثالث: استهداف الوكلاء:

السقوط المحتمل:

عملية إسرائيلية كبيرة ضد حزب الله أو حماس.

التداعيات المتسلسلة:

·          تصعيد متعدد الجبهات مع رد فعل مزلزل.

·          احتقان داخلى فى دول عربية قد يؤدى إلى إعادة تموضع شعبى ضد التطبيع.

·          تدخل أممى محدود لا يغير طبيعة الصراع بل يجمده مؤقتا.

ثالثا- المرونة التحليلية لنظرية الدومينو.. رؤية ستيفن والت:

وفقا للبروفيسور ستيفن والت، لا يمكن النظر لنظرية الدومينو كآلية ميكانيكية خطية، بل كإطار ديناميكى مرن يسمح بفهم انتشار التأثيرات الجيوسياسية غير المتوقعة. فالصراع فى نقطة ما قد يولد تأثيرات بعيدة غير مرئية:تغييرات فى الخطاب السياسى، أو تحولات فى التحالفات، أو تصعيد فى ساحات ثالثة غير متوقعة.

وهذا ما نشهده فى واقع الأمر:

·          ضربة إسرائيلية فى دمشق قد تؤدى إلى توتر فى اليمن أو العراق.

·          هجوم على منشأة نطنز النووية قد يدفع إيران إلى تصعيد سيبرانى فى أوروبا.

·          استهداف قيادى من حزب الله قد يغيّر حسابات تركيا أو الخليج.

بهذا المعنى، فإن "الدومينو" لا يسقط بالترتيب، بل يتناثر، ويتقاطع، وينتج شبكات تأثير غير متوقعة. وهذا ما يجعل من الصراع الإيراني-الإسرائيلى نموذجا مثاليا لفهم تعقيدات الانهيار الجيوسياسى المتعدد المستويات.

رابعا- السيناريوهات الاستراتيجية المستقبلية:

1- سيناريو التوازن المرعب:

استمرار الصراع دون انفجار، لكن مع تصعيد نوعى فى المجالات السيبرانية والإعلامية.

2- سيناريو الانفجار الشامل:

انهيار أحد خطوط الاشتباك يؤدى إلى حرب متعددة الجبهات، تؤدى إلى تشكل نظام إقليمى جديد بالقوة.

3- سيناريو الاحتواء الدبلوماسي:

تدخل قوى كبرى لرسم خطوط حمراء وضمان استمرار التوازن دون انهيار.

4- سيناريو إعادة التشكيل الناعم:

عبر استمرار "تآكل" النظام القديم، وصعود فاعلين جدد غير دوليين يعيدون رسم خرائط القوة.

فى الختام، ما نعيشه اليوم ليس مجرد صراع جيوسياسى على النفوذ أو الثروات، بل هو تدافع عميق لإعادة تعريف "المنطقة" وهويتها الكلية. فإيران تسعى لفرض سرديتها كمركز أممى مقاوم، بينما تحاول إسرائيل تطويع المنطقة ضمن فضاء أمنى وتقنى متفوق.

وفى ظل هذا الاشتباك، فإن الشرق الأوسط يتحول إلى مسرح لأحجار دومينو لم تعد تنتظر الدفعة الأولى، بل تتحرك بفعل موجات ارتدادية لا يمكن التنبؤ بها. قد لا يكون هناك حجر أول، بل شبكة من الأحجار التى تدفع بعضها بعضا، فى مشهد لا ينتهى بانهيار، بل بإعادة تشكل مستمر.

إنها لحظة تاريخية لا تعاد فيها كتابة الخرائط فحسب، بل يعاد فيها تعريف الكيانات والولاءات والمفاهيم ذاتها. فى هذا المشهد، لا أحد ثابت.. الجميع دومينو.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    أ.د. على حسين حميد

    أ.د. على حسين حميد

    جامعة النهرين-العراق