مقالات رأى

ليبيا بين مشروعى الدولة الدينية والمنطقة الحرة

طباعة

إذا كانت الانتخابات فى تونس قد أسفرت عن تقدم الإسلاميين وتجهزهم لتسلم الحكم، فإن المشهد المصرى يؤكد وبوضوح احتمالية تكرار التجربة، وبينهما تقف ليبيا بأحداث ومشاهد ثورة 17 فبراير وقوة بعض الحركات الإسلامية بدلالات تصب فى الخط نفسه.

أكد ذلك تسابق الكثير من الليبيين فى إظهار ولائهم لله، وتأكيد هويتهم الإسلامية التى تنزع فى كثير من جوانبها إلى التشدد، خصوصا فى واحدة من مناطق الثقل السكانى والثقافى (الجبل الأخضر) وفى مدينة درنة تحديدا، والتى يستمد منها الإسلاميون "مددا"، من طهارة ترتبها التى تضم – فى مسجد الصحابة – جثامين 70 صحابيا استشهدوا بقيادة زهير بن قيس البلوى فى موقعة درنة عام 69 هجرية ضد الرومان، عند محاولتهم استعادة ليبيا.

وتمثل هذه المدينة التى خرج من أحد أحيائها (الساحل الشرقى) وحده ألف شاب للجهاد فى أفغانستان والعراق. وكان شبابها، ومنهم العائدون من أفغانستان وغيرهم، من المؤمنين بصيغة الجهاد فى الإسلام، وانعكاس ذلك على حياته وزيه ومفرداته الأفغانية، والذين مثلوا أهم القوى المنظمة تحملا لعبء المواجهات المسلحة لكتائب القذافى على جبهات القتال، بما لهم من خبرة عسكرية ودراية بحمل السلاح واستعماله.

لذا، كان تركيز الإعلام المرئى عليهم خصوصا فى لقاءاته مع الثوار على جبهات المعارك فى إجدابيا والبريقة ورأس لانوف – كما رأيت بنفسى – وعلى تأكيد هوية الثورة أو محاولة تأكيدها، ربما لتنبيه العالم، وإظهارهم بالصورة النمطية للجهاديين، وكأن ذلك يبدو ردا مجتمعيا – وهو صحيح فى بعضه – على أفعال وممارسات القذافى التى كانت تتعارض مع الشريعة الإسلامية، مثل قوانين الزواج، والتحريف فى القرآن بمحاولة إلغاء كلمة "قل" من بدايات بعض السور، وترديد الناس لحكاية أصوله اليهودية، وادعائه "استلهام" أو انتظار الوحى فى خلواته فى جبل الغريان، بعد نجاح ثورته عام 1969 – كما قال لى اللواء عبد الفتاح يونس قبل اغتياله – ولذا فقد بدا الإسلام الجهادى كواجهة لهذه الثورة على الأقل فى جبهات القتال وبعض ساحات الاحتفال، مثلما شاهدت فى ساحة التحرير (محكمة شمال بنغازى) منتصف شهر مارس الماضى، عند غلق عدد من الشباب يرقصون ويغنون للثورة، مستهزئين بالقذافى وخطابه "دار دار .. زنجة زنجة .. يا معمر ياحمار"، وكان ذلك قبيل أذان العصر. وما إن أغلق مصورو التلفزة والصحف الأجانب عدساتهم، حتى شرعوها مرة أخرى لتصوير خطبة رجل خمسينى ملتح اندس وسط الشباب حول الجهاد والاستشهاد والجنة وإرادة الله التى تنصر المؤمنين، والتوقف بعد كل جملة لينادى بانفعال "تكبير"، فيكبر الشباب، ثم يرددوا وراءه هتافاته التى تحمل الطابع الدينى.

وهكذا، بدا المشهد – أو حاول البعض له أن يبدو – إسلاميا متشددا، فى حين أن الكثير من الثوار كانوا من الشباب من مختلف الاتجاهات الفكرية والتعليمية والمناطق المختلفة فى المنطقة الشرقية التى كان سقوطها سريعا جدا لم يتوقعوه أنفسهم، ولذا صار عليهم المواصلة لإنهاء حكم القذافى، لأن فى بقائه إبادتهم لتجرئهم عليه، كما فعل مع أصحاب ألف محاولة اغتيال، و179 محاولة لقلب نظام حكمه، كما جاء فى ملفات الأمن الداخلى.

ولاشك فى أن ذلك كله جاء ضاغطا على ذهن "الشيخ مصطفى عبد الجليل"، كما يلقبونه فى ليبيا، مفصحا فى كلماته، فى أول خطاب له عند إعلان تحرير ليبيا، عن تعطيل القوانين المتعارضة مع الإسلام، وأن الإسلام هو المصدر الرئيسى، وإن كان حاول بعدها التبرير وتأكيد أن ذلك لا يعنى التشكيل الدينى لحكم البلاد. إلا أن حل هذه الصور جميعها يؤدى فى تصور البعض، بعد فترة من اللادينية والانحلال مع اشتهار المجتمع الليبى بوجود مليون حافظ للقرآن من الملايين الستة، إلى الالتجاء إلى الدين فى صورة إقامة نظام حكم إسلامى، وبذلك يتمدد هذا الاتجاه الدينى المتشدد من حماس غزة إلى طنجة، مرورا بتونس والجزائر، ليلتحم بعد ذلك بجماعات القاعدة فى صحراء موريتانيا وغرب إفريقيا وجماعاتهم الإسلامية المتشددة. كما أن الغرب لن يقبل بوجود شريط ساحلى جنوب المتوسط يمثل معملا لتفريخ الجهاديين الذين لا شك سيحلون محل المهاجرين غير الشرعيين فى قوارب التصدير إلى سواحل أوروبا الجنوبية، وإن كان عبد الحكيم الحصادى، مدرس الجغرافيا الذى أمضى سبع سنوات فى أفغانستان وثلاثا فى السجون، قد اتهمه القذافى، فى أول خطبة له بعد قيام الثورة، بأنه يسعى لتفتيت ليبيا وإقامة إمارة إسلامية فى درنة.

قال ردا على ذلك " لو أننى كما يقول أريد تكوين إمارة إسلامية، فهل تعتقد أن تكون فى مدينة صغيرة مثل "درنة"، وهو ما يحمل معنى أن تكون الإمارة هى ليبيا كلها، ولا شك فى أن ذلك حلم مشروع لأى جهادى إسلامى، وثابت فى أدبيات هذه النوعية من البشر، على امتداد تاريخهم وتنوع جغرافيتهم، وهو ما تتفهمه أوروبا والولايات المتحدة. ولذلك، فليس أمامهم إلا العمل على إيجاد حكومة ليبرالية أو علمانية، وهو نفس ما فعله قبل 60 عاما مع بداية ظهور النفط فى البلدان العربية، بالمساعدة فى انقلابات عسكرية، ودفع الانقلابيين إلى وأد أو محاربة الحركات الإسلامية (الإخوان فى مصر مثلا).

يعزز ذلك التوجه وجود جماعات ليبرالية تطمح إلى دور فى السلطة، بعد أن تحملت عبء السجن والتعذيب والنفى والتشتيت، وطليعتهم من رواد حركة الطلاب فى جامعتى بنغازى وطرابلس عامى 75-1976، والذين كونوا فى أبريل الماضى جمعية السجناء السياسيين، ليصبح لهم صوتهم المسموع فى المجتمع الليبى، وداخل أروقة المجلس الانتقالى، لاسيما وهم يمثلون الطيف القبلى والمناطقى كله تقريبا، وطليعته. هناك أيضا العائدون من منافى الاغتراب ببرامج وأفكار وعلوم الغرب، بعد أن هربوا وانكفأوا على وعيهم وعلومهم لسنوات، خوفا من يد القذافى الإرهابية التى كانت تطول أكثرهم بعدا وأحصنهم أمنا.

وهناك الجيل الجديد من الشباب المتعلم والمتقن للعلوم الحديثة وتقنيات الاتصال والذين أسهموا وأشعلوا شرارة الثورة، وضغطوا على عدد من القيادات بنقاشات حادة، وأحيانا تهديدهم كى ينشقوا عن القذافى وينضموا للثورة، ومنهم مصطفى عبد الجليل، واللواء عبد الفتاح يونس، وخليفته فى قيادة الجيش اللواء سليمان محمود سليمان. وكان لهؤلاء الشباب أيضا دورهم مع طليعة الإعلاميين الذين مثلهم وقادهم أستاذ الإعلام فى جامعة بنغازى الدكتور محمد سالم المنيفى، ليمارسوا من خلال المركز الإعلامى، الذى أنشأوه، دورا مهما فى إيصال المعلومات واللقطات لجميع أجهزة الإعلام، ومساعدة الصحفيين القادمين لتغطية الأحداث.

هناك أيضا شيوخ القبائل بتأثيرهم فى مجتمعاتهم، ويمثلون وسطية تميل إلى التشدد، بل، على العكس، ربما تميل إلى الاستمتاع بمباهج الحياة وثروات البلاد، مماثلين لمجتمع البورجوازية الصغيرة والتجار والرأسماليين الذين نشأ تسربا من بين أصباع النظام، وساعده فى سنواته الأخيرة، عطفا على أفكار وتحركات سيف الإسلام القذافى، الذى أراد له والده الظهور بوجه إصلاحى لنظام شاخ قابضا على السلطة. يضاف إلى ذلك الطموح الشعبى الذى يرغب بعد أربعة عقود من الثراء الفاحش للدولة وشبه الانعدام فى البنية الأساسية، وتأخر سن الزواج لعدم وجود مسكن أو وظيفة (10% بطالة)، وضعف التعليم وترهله، فضلا عن عدم وجود وضوح حقيقى للرؤية المستقبلية للجماعات الإسلامية فى ليبيا، وعدم وجود برنامج محدد جاهز للتنفيذ لبناء دولة وإدارتها، نظرا لمفاجأتهم بالثورة.

وهذه الفكرة، التى ربما يعمل الغرب على تنفيذها، تستند إلى حقيقتين، إحداهما حقه فى الاستفادة من ليبيا، والذى لم يعد يختلف عليه حتى الليبيون أنفسهم، وبذلك يضمن سلامة حدوده الساحلية وبلاده، ووأد تكون فكرة الالتحام الحدودى لحكومة إسلامية، ربما تقود إلى فكرة خلافة ونقل الثقل التجارى والاقتصادى عن دبى التى وصلت إلى مرحلة لا أعتقد أن الغرب سيقبل تصاعدها. لذا، فإن دفع الغرب ليبيا لإقامة منطقة حرة هو الخيار الأقرب إلى استراتيجياته – فى تصورنا – يساعد على ذلك أن الثروة فى ليبيا لم يعد مقبولا أن تظل فى أيدى حفنة من الأفراد، وهو ما سيكون، فى حال وصول الإسلاميين إليها، لأنهم سينوبون عن الشعب بالحاكمية الإلهية، وتفويضهم فيها للتصرف فى أموره، فضلا عن القبلية التى ستعمل على اقتسام الثروة بعد حرمان. والثراء هنا سيؤدى إلى ترف ورفاهية تتجاوز المشروع الدينى الذى عادة ما تلجأ إليه الدول الفقيرة والشعوب المعدمة، ويروج له قادتها بإبراز معانى الفقر والكفاف فى حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته، والتركيز عليها.

طباعة

    تعريف الكاتب

    بول كولير