مقالات رأى

انهيار الأمم المتحدة والنظام الدولي

طباعة

أحداث الماضي البعيد هي بمثابة دروس ماثلة أمامنا ومعالم بارزة في مسيرة التاريخ الطويلة وإن كان ما يعنينا بهذا الصدد هو تلاحق الأحداث والتغيرات السياسية والاستراتيجية في عالمنا، فالعالم يمر بمنعطف خطير وظروف بالغة الدقة ما يتطلب قراءة عميقة وواعية لتداعياته وأهدافه وآثاره القريبة والبعيدة على واقع العرب السياسي . ومن الضروري بيان حقيقة سياسية ماثلة للعيان، ألا وهي استمرار حالة التجزئة والتشظي في دول العالم ما سيكلف جميع الدول الكثير من الأثمان السياسية والاقتصادية، فالعالم اليوم بكل شعوبه وأممه يتجه بخطى متسارعة نحو التجزئة التي تدفع إلى مزيد من الضعف والعجز والضياع، ويعيش ظروفاً استثنائية على مختلف المستويات في هذه المرحلة، التي تعد من أخطر المراحل التي يمر بها العالم في مخاض الأحداث الجادة التي يشهدها العصر الراهن، حيث تجد كافة الأمم نفسها في منعطف حاد الزوايا من جميع الأبعاد من خلال منعطفات التحولات الخطيرة في أفكاره ومضامين مساراته . والسجال الذي يدور اليوم حول أحداث العالم هو ذاته السجال الذي كان يدور حول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يتلخص في أن الولايات المتحدة هي التي تضطلع حاليا بالدفاع الشرعي عن النظام الدولي باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وذلك حين أخفقت الأمم المتحدة في القيام بمسؤولياتها .

فقد نشأت عصبة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الأولى التي اشتعلت بين عامي 1914 و،1918 وكانت الشرارة الأولى لنشوبها اغتيال الأرشيدوق فرانسيس فرديناند ولي عهد النمسا في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك في 28 يونيو/حزيران 1914 على يد برنسيب الصربي، وبحلول صيف عام ،1914 اشتبك الحلفاء انجلترا، فرنسا وروسيا  التي خرجت من الحرب فيما بعد  وبلجيكا، وصربيا، والجبل الأسود، واليابان وانضمت في فترة لاحقة إيطاليا والبرتغال ورومانيا واليونان، وأخيراً الولايات المتحدة، حيث اشتبك الحلفاء مع قوات الحلف الثلاثي المكون من ألمانيا، وإمبراطورية النمسا، والمجر، والدولة العثمانية، وانضمت إلى هذا الحلف فيما بعد بلغاريا، وكانت المحصلة النهائية لهذه الحرب إعلان الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا والمجر وبلغاريا قبول الصلح، فيما وقعت ألمانيا هدنة مع الحلفاء في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 . وتبعاً لاتفاقيات فرساي تغيرت الخارطة السياسية في أوروبا وآسيا، وكان دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب إيذاناً بأن تضع الحرب أوزارها . وانتصر الحلفاء وكان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون قد قام بدور الوسيط بين الدول التجارية عام 1917 وأعلن الخطوط الرئيسية لمشروعه للسلام .

ويظهر أن الصراع الدولي الذي أفضى إلى قيام الحرب العالمية الأولى أدى إلى ظهور نظام عصبة الأمم ولكن من دون الولايات المتحدة الأمريكية، وشهد العالم الصورة الأولى للتنظيم الدولي . وتتلخص المبادئ الرئيسية لهذا النظام في تعهد الدول الأعضاء باحترام استقلال وسلامة أراضي كل دولة منها، والمحافظة على هذا الاستقلال من أي اعتداء، وعدم اللجوء للقوة العسكرية قبل عرض النزاع على التحكيم أو على مجلس العصبة وبشروط معينة، كما أنشأت العصبة المحكمة الدائمة للعدل الدولي ومقرها لاهاي، وكذلك منظمة العدل الدولية التي تتخذ من جنيف مقراً لها .

أما في ما يتعلق بإنجازات عصبة الأمم فمن أسفٍ القول إنها لم تحقق أي نجاح ذي وزن على المستوى الدولي مثل حل النزاع بين فنلندا والسويد عام ،1920 وحل قضية كورفو بين إيطاليا واليونان، وحل مشكلة ترسيم الحدود بين بولندا وألمانيا عام 1921 . وقد بدأ إخفاق الأمم المتحدة بشكل واضح وجلي بعد ذلك عندما أخفقت في دفع العدوان الياباني على ولاية منشوريا بالصين في عام ،1931 وكذلك العدوان الإيطالي على الحبشة عام ،1935 وكان هذا الإخفاق إيذاناً بانهيار نظام عصبة الأمم، وهذا ما حدث فعلياً بعد بضع سنوات حين اشتعلت الحرب العالمية الثانية بين عام 1939 وعام 1945 وتمخض عنها ولادة نظام دولي جديد عُرف باسم هيئة الأمم المتحدة فحلّ هذا النظام الوليد محل عصبة الأمم، وبالتالي انهيارها نتيجة ضعف الميثاق المكون من ست وعشرين مادة حيث يشترط أن تصدر بالإجماع؛ فاستغلت الدول الكبرى هذا الضعف في إفشال أي قرار يتعارض مع مصالحها .

الآن السيناريو يتكرر بسبب تأجج الاضطرابات والصراعات العالمية، والتعبير عن إشاعة المبادئ بالقوة العمياء وسطحية الدراما في تدمير القيم والمثل، وتشويه المنجزات الحضارية بمؤسساتها وهيئاتها ومجلس أمنها، بسبب النزعة الفردية التي يغذيها استعلاء القوة والتحكم . ومع أن الأمم المتحدة قد استحالت خلال سنوات الحرب الباردة إلى منبر للكلام، لم تُحسم معه الكثير من القضايا الدولية الساخنة، خاصة قضايا الدول الصغيرة التي تمثل أكثر من 80% من دول العالم، ومع ذلك فهي لا تملك أي تأثير أو توازن في تمرير هذه القرارات . وهذا ما يسارع بتدشين نهاية النظام الدولي الراهن بعد أن وصلت مواقف الولايات المتحدة إلى درجة عالية من الاستهانة بكافة القوانين والأعراف الدولية .

ولا يخالج الإنسان الشك في أن تغيرات قد تحدث في سياسة الدولتين العظميين، ما قد يؤثر تأثيراً مباشراً على نظام هيئة الأمم المتحدة، وهي تغيرات أساسية وجوهرية وكافية للاستدلال على أن متغيراً جديداً بدأ يفرض نفسه على الساحة السياسية، وأن ثمة سجالاً ممتداً حول المعايير التي ستحكم الأسرة الدولية .

فالعالم تتنازعه حالياً عدة قوى دولية أهمها الولايات المتحدة وروسيا والصين، وظهر ذلك جلياً عندما اتخذت الصين وروسيا حق الاعتراض “الفيتو” على إصدار قرار من مجلس الأمن ضد سوريا، وذلك من أجل إعطاء العالم صورة بأن روسيا والصين لهما تأثيرهما على الساحة الدولية وأنهما حائطا صدّ أمام رغبات الولايات المتحدة وأوروبا . وترد أمريكا على هذا الموقف بأنها سوف تستخدم حق الاعتراض “الفيتو” ضد إعلان الدولة الفلسطينية، ويطرح هذا الموقف الكثير من الأسئلة أكثر مما يتيح من الحلول للمشكلات العالقة، إلى متى تبقى الاستهانة بكافة القوانين والأعراف الدولية؟ ألم تساند الولايات المتحدة الممارسات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، بل وعمدت إلى جر المنظمات الدولية والحكومات الغربية الكبرى إلى عدم اعتبار الحركة الصهيونية حركة عنصرية غير مشروعة ومسيئة للسلام، الأمر الذي يستوجب وقفة تحليلية باحثة عن جذور هذا التحول والتطور في الموقف الأمريكي، وهو تطور لم يأتِ من فراغ؛ بل هو وليد مجموعة من الممارسات والسياسات بدءاً من تدخل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، الذي تم في صورة حرب وقائية قررتها أمريكا من طرف واحد ضاربة عرض الحائط بالقاعدة التي تقول: إن الديمقراطيات لا تخوض حرباً وقائية، منتهكة بذلك أبسط القيم والمبادئ الإنسانية .

إن الرسالة المحزنة المشحونة بالألم التي تنزف بمرارة غطرسة الدول الكبرى تجعل مصير الهيئة العامة الدولية (مجلس الأمن) والجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الهاوية والتلاشي والزوال، وهذا مما سيؤدي أيضاً إلى سقوط سياسة الأحلاف؛ وفي نفس الوقت سقوط الفلسفة المادية بكل ما انبثق عنها من مذاهب رأسمالية وليبرالية واشتراكية، وبداية حقبة جديدة بإيديولوجيات جديدة تصحح ما طرأ على العالم من اختلال واعوجاج في أهدافه السامية، وهذه الظروف تستدعي من العالم العربي جميعاً العمل النوعي والاستراتيجي الذي يعيد ترتيب العلاقات العربية  العربية على كافة الصعد، وتطوير مستوى التضامن والتعاون بين مؤسسات المجتمع في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات .

--------------------
* نقلا عن دار الخليج الأحد ,27/11/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    أسماء محمد فريد

    أسماء محمد فريد

    باحثة مصرية