من المؤكد أننا لن نستطيع أن نضمن بقاءنا المستقبلى ما لم نتبن التفكير العلمى, لذا من المحتم أن يتوج التفكير العلمى على رأس الأمر الحادث فى واقعنا المعيش, ومن هنا يدعو تلميذ العظيم الفيلسوف زكى نجيب محمود وصاحب أعظم مقتنيات (المكتبة المصرية الفلسفية المهجورة!), فؤاد زكريا مؤلف "التفكير العلمى" إلى: "ضرورة احتلال التفكير العلمى مكانة كبيرة ليس فقط بين المشتغلين فى التخصصات العلمية بل بين عامة الناس فى مساحات الحياة اليومية كذلك"، وهو من قال "العلم معرفة تراكمية ولفظ (التراكمية) هذا يصف الطريقة التى يتطور بها العلم التى يعلو بها صرحه, فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذى يشيد طابقا فوق طابق, مع فارق أساسى, هو أن سكان هذا البناء ينتقلون دوما إلى الطابق الأعلى, أى أنهم كلما شيدوا طابقا جديدا انتقلوا إليه وتركوا الطوابق السفلى لتكون مجرد أساس يرتكز عليه البناء", ربما كان من الواجب استنفار النشاط العقلى, وهو التفكير بداية قبل الولوج إلى آليات الآخر فى تنفيذ استراتيجيته علينا.
ومن الطبيعى والمنطقى أن تتضمن تلك الاستراتيجية عددا من السياسات التى تُجزأ وتُمرحل الاستراتيجية إلى توقيتات ومحطات تنتهى إحداها لتُسلم التالية نتائج محققة الأهداف, ليستكمل الفاعل سياسته التالية وهكذا, وصولا إلى إنهاء وتمام تنفيذ الاستراتيجية العامة, وهى احتلال الوطن من جديد! وبشكل جديد! وليس من المستبعد فى اعتماد المنهج العلمى فى التفكير العلمى لتفنيد وتوصيف استراتيجية الآخر، ومن ثم مواجهتها بالمقاومة المناسبة لطبيعة الحرب الدائرة ومعاركها, هو أن نتبع فى تطبيق منهجنا أدوات بحث علمى أيضا بداية من الرصد المباشر والملاحظة المنظمة, ومرورا بتحليل المضمون الكمى والكيفى لمحتوى الرسائل المعادية, ونهاية بالخروج إلى توصيف دقيق لحالنا وإمكاناتنا ومعرفة أهدافنا من خلال خلق استراتيجية مواجهة وسياسات مضادة تصون الوعى الجمعى وتحصن مستقبله أمام الوافد من الجانب المعادى.
بداية، هناك ملاحظتان لابد من الانتباه إليهما، أما الأولى فهى تراجع ريادة العقل الجمعى بإبداعاته المختلفة والمتنوعة بين الفنون والآداب والإعلام بل العلوم وربما التفاسير الشارحة للأديان والشرائع, أما الملاحظة الثانية فهى تحول الحجم السكانى من قوة إيجابية تعد أساسا ركينا داعما للقوتين الصلبة والناعمة للدولة إلى مصدر ضعف وسبب وهن العُضد الجمعى, ولنتوقف عند هاتين الملاحظتين, لنذهب إلى سبب تحولهما السلبى, أولا: لا يخفى على ملاحظ راصد بقليل من التدقيق والعناء أن مصر عندما يقوى إبداعها الجمعى تقود الإقليم (العربى, والإسلامى, والمسيحى الشرقى, والإفريقى), وربما تتصدر مبادئها الثائرة الساعية إلى التغير إلى الأفضل حتى القارة اللاتينية, والمساحات الواسعة فى شرق ووسط آسيا, والأطراف الجنوبية للقارة العجوز (أوروبا).
وتكرر هذا النشاط الإنسانى مرات عديدة فى مفاصل التاريخ الحديث, ودلالات النتائج الإيجابية كانت فى ميلاد كيانات أسهمت مصر فى تشكيل ملامحها كمنظمة الوحدة الإفريقية, ومنظمة دول العالم الإسلامى, ودول عدم الانحياز, وجامعة الدول العربية ربما كانت تلك الأخيرة أولى الخطوات, وفى مرحلة تاريخية شاسعة الأزمان - لعقود متتالية - كانت مصر منارة ثقافية تقود نصف الكرة الجنوبى تجاه التحضر خطوة بأخرى موازية فى سبيل التحرر, واتخاذ موقع فى الوجود الإنسانى الحديث, تلك المنارة الثقافية صاغت درعا للوعى المصرى مؤلفة من طبقات سميكة كطبقات الأرض الجيولوجية, فكانت كما صنفها الراحل المفكر "ميلاد حنا" تتألف من أعمدة سبع, ثلاثة منها مرتبطة بالجغرافيا وهى (العربية والإفريقية والمتوسطية), وعمودان مرتبطان بالتاريخ هما (الفرعونية, واليونانية - الرومانية), وعمودان للديانة وهما (المسيحية والإسلام), وربما الارتكان الدائم على تلك الأعمدة ما يصون الوعى العام.
ولا شك فى أن تلك القوى الداعمة للشخصية المصرية هى من وراء الانتصارات المتتالية, أو حتى المعين على سرعة تخطى النكسات والأزمات, وعندما فطن العدو لمهارة استغلال تلك الأبعاد المتناغمة فى الشخصية المصرية التى كانت سببا مباشرا فى تقويض حلمه الكاذب فى دولته الكبرى, عندما اصطدم بأكتوبر المجيد, كان من المحتم إذابة تلك الطبقات المتماسكة وتفتيتها, وهدم تلك الأعمدة الرواسى الشامخات, من تلك الملاحظة كانت السياسات العامة لاستراتيجيته المعادية, هو إبعاد مصر عن امتدادها الإفريقى, وتفلت ريادتها العربية, وانحسار تأثيرها الإقليمى, من جانب, ومن جانب آخر فقدانها للزعامة الروحية الإسلامية بتعظيم أدوار المنافسين الإقليميين، وتقليل الدعاية العالمية المعادية من مكانة الأزهر الشريف, واستخدام المال والضغط السياسى لتسرب الكنائس التابعة للدول ذات الأهمية الاستراتيجية من تبعية الكنيسة المصرية (الأم الكبرى)، كما حدث مع إثيوبيا مع مقارنة بسيطة لعام 63 عندما قدم لمصر إمبراطورها هيلا سيلاسى لتنصيبه من مقر الكنيسة الأم أولا, وما يحدث منذ 2010, هذا من ضمن سياسات التقزيم, والانحسار, والعزل ليسهل التهام الثيران البيضاء والسوداء والحمراء - وقد حدث! - (مع العودة إلى الحكى الشعبى وعِظم تأثيره), وتبقى مصر منفردة.
الأمر الثانى هو تفتيت صلابة الشخصية المصرية من خلال التأثير بالتغير السلبى على مبادئها الإسلامية السمحة وتعاليمها المسيحية المحبة, ولا يخفى على الراصد الملاحظ تفجيرات بالمساجد كما هى بالكنائس والضحايا فى النهاية أقباط مسلمون ومسيحيون مصريون, والقتلة من المؤدلجين الشاردين – سيأتى استهدافهم بالدراسة -, ومن خوارج الجيران والأعداء, ومن خلال آليات هدم النسق الإخلاقى والبنيان القيمى للشخصية المصرية بدعاوى التخلف والرجعية وخلق ما يسمى الثنائية المضطربة فى الوعى الجمعى, كما ذكر الراحل الخالد زكى نجيب محمود :"إن مشكلة الحقيقية هى كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد وبين تراثنا", وإيجاد ظرف يحقق انعدام تحقيق التوازن بين الأصيل والحديث ليأتى الحاضر مسخا بلا ملامح منتمية إلى التراب المصرى المؤلف من العناصر الأساسية والمتشابهة فى تكوينه بتكوينات تراب وطنه من مواد معدنية, ومحلول أرضى, بالإضافة إلى مكونات الهواء, هذا الإنسان القديم قدم التاريخ والمتحضر إلى ما بعد الحداثة, ولا أجد إنسانا على ظهر الكوكب منتميا إلى تراب أرضه كما المصرى الذى عاش منذ سبعة آلاف عام, وسيستمر إلى نهاية التاريخ, ما دمنا نعتقد فى صدق الكتب المقدسة, فكل - وليس معظم- سكان التجمعات السكانية تجد دولهم لا تبتعد عن الألف عام فى التاريخ, ومنها الكثير الذى لا يتحرج – أمامنا- من احتفاله بتأسيس دولته منذ مائتين أو مائة أو خمسين عاما! ومعظمهم رُحّل, ومحتلون لأراضى غيرهم بعدما أبادوا السكان المحليين, أو فى طريقهم لإبادتهم!
ومن هنا كانت السياسات الفرعية للاستراتيجية العامة المعادية التى أخذت فى استخدام معاول العزل للمكانة والتأثير, وآليات الهدم للقيم والأخلاق وتشويه الذوق العام.
تلك سياسة استراتيجية متعة القتل, وفى القادم إن شاء الله سنتعرض لآليات تنفيذها لطمس الهوية الثقافية, ولتحقيق التراكم العلمى للمعرفة سنبدأ من حيث انتهى د. زكى نجيب محمود؛حيث حذر من حالنا: "وقعت الثقافة والمثقفون العرب فى فخ التنافر حين تم إعلان الحرب على كل ما هو قديم, واعتباره شيئا ولى زمانه, وانقضت أوقاته, ومات زخمه بموت رجاله, من ناحية, والإقبال على ثقافة الغرب إقبال العطشى المعدمين من ناحية أخرى"!.