تحليلات - قضايا عالمية

خسائر الحرب الروسية - الأوكرانية وتهديد الأمن الاجتماعي العالمي!

طباعة

يتمثل التأثير الرئيسي للصراع الروسي - الأوكراني على الاقتصاد العالمي في ارتفاع أسعار الطاقة وضعف الثقة وتراجع الأسواق المالية، تحت وطأة العقوبات الدولية ضد روسيا. وإذا أخذنا في الحسبان ثقل الاقتصادين الروسي والأوكراني من حيث قيمة معاملاتهما مع دول العالم، فسيتضح حجم الخسائر التي سيتأثر بها الاقتصادان، جنبا إلى جنب مع اقتصادات تلك الدول. وبينما ترتبط أوكرانيا بشراكات محدودة مع الاقتصادات الكبيرة، تتمتع روسيا، في المقابل، بخبرة وثقل في التعامل مع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ودول أمريكا اللاتينية ونمور آسيا. على سبيل المثال، تتصدر ألمانيا وفرنسا وإيطاليا الشركاء التجاريين لروسيا، وتصل قيمة وارداتها إلى 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي. هذا بالإضافة إلى استثماراتها في قطاعات الطاقة والصناعات التكنولوجية الروسية. ويحذر الخبراء من أن ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي إلى تصعيد المخاوف من "الركود التضخمي"، حيث ارتفعت أسعار النفط واقتربت من حاجز الـ120 دولاراً للبرميل، وهو أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، ما يعرض أمن الطاقة العالمي للتهديد جراء الأزمة الأوكرانية. ولا يزال الخبراء يلاحقون ضربات المدافع لإحصاء الخسائر المتراكمة جراء الحرب؛ فإلى أين تتجه الخسائر الاقتصادية دون أن يلوح أي أمل في انفراجة قريبة؟!

التأثير الاقتصادي من جراء الحرب الأوكرانية متفاقم، وقد يتضح أكثر بالنظر إلى حصة روسيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي التي كانت من المتوقع أن تصل إلى 1.6% في نهاية عام 2022، وفقًا لصندوق النقد الدولي. في حين كان من المتوقع أن يمثل الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا عن نفس الفترة 0.2% فقط. صحيح أن الاقتصادين الروسي والأوكراني  محدودان في حجمهما مقارنة بالاقتصاد العالمي، غير أن أهميتهما كبيرة في بعض المجالات الحيوية، خاصة الطاقة والغذاء.

نزيف الخسائر المتراكمة:

بحسب دراسة جديدة أجراها مركز التعافي الاقتصادي وشركة الاستشارات "سيفيتا وايزي بيزنس"، فقد تكبدت روسيا خلال الأسبوع الأول للحرب خسائر بلغت 7 مليارات دولار. يأتي ذلك في الوقت الذي أعلن صندوق النقد الدولي أن أوكرانيا طلبت الحصول من الصندوق على تمويل طارئ قدره 1.4 مليار دولار في إطار "أداة التمويل السريع".

وبحسب دراسة أخرى صدرت حديثا من المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، رجحت أن الصراع في أوكرانيا قد يقلل من معدل نمو الناتج الإجمالي العالمي بنسبة 1% بحلول عام 2023، وهو ما يمثل نحو تريليون دولار من إجمالي الناتج العالمي. كما قدر النموذج ارتفاع معدلات التضخم عالميا بنحو 3 نقاط مئوية فى العام 2022 ونقطتين مئويتين فى العام 2023. وتتوقع الدراسة تفاقم مشاكل سلاسل التوريد لمستهلكي السلع الأساسية مع استمرار الحرب، بما في ذلك التيتانيوم والبلاديوم والحديد، مما يؤثر سلبيا على صناعة السيارات والهواتف الذكية والطائرات حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا من الموردين المهمين لتلك السلع على المستوى العالمي. كما ترجح الدراسة أن تطال أوروبا أضرارا أكثر من غيرها، بالنظر إلى الروابط التجارية مع الدولتين والاعتماد على إمدادات الطاقة والغذاء الروسية، بينما سيكون تأثير التداعيات على الأسواق الناشئة بدرجة أقل من الاقتصادات المتقدمة. وشددت الدراسة على تأثير الصراع الروسي - الأوكراني فى أسعار السلع الغذائية، والطعام اليومي وهو الخبز، حيث أن غالبية دول العالم مستوردة للقمح والذرة والصويا، وبالتالي إنفاق الأسرة وجيب المواطن هما الأكثر تضررا، مما قد يهدد الاستقرار الاجتماعي في الاقتصادات الناشئة.

خبز المواطن يحترق:

هذا ما أكده أيضا تقرير حديث لوزارة الزراعة الأمريكية (2022)، حيث أشار إلى أن صادرات القمح الروسي والأوكراني تمثل نحو ربع المجموع العالمي، بجانب صادرات الذرة والأعلاف التي تمثل خمس الصادرات العالمية. يضاف إليها حوالي 80% من إجمالي صادرات زيت الذرة وعباد الشمس. وسيؤدي ارتفاع أسعار تلك السلع الأساسية إلى المزيد من الضغوط التضخمية في الاقتصاد العالمي بحسب نفس التقرير. ويلفت إلى احتمال ظهور تداعيات سياسية في بعض الاقتصادات الناشئة التي تعتمد كليا على استيراد الحبوب، حيث يشكل الغذاء نسبة عالية من إنفاق الأسرة، وسيتعين على المستهلكين الآن دفع ثمن باهظ مقابل ذلك، حيث وصل تأثير الصراع بين أكبر منتجين للحبوب إلى"محفظة المواطن العادي"وخبزه الذي يحترق بالغلاء. في الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة، تبلغ نسبة الخبز في مؤشر المستهلكين نحو 2% في المتوسط، بحسب تقرير وزارة الزراعة الأمريكية، حيث أن الدقيق هو نسبة صغيرة نسبيًا من تكلفة رغيف الخبز في حين تكلفة الإنتاج والمكونات المضافة والتعبئة والتغليف والإعلان نسبتها أكبر بكثير. لذلك يمكن أن تضيف 0.1% إلى التضخم. أما في الأسواق الناشئة التي تستورد القمح والذرة والصويا من روسيا وأوكرانيا، فقد تنعكس بنسب أكبر على مؤشر المستهلك وأرقام التضخم، خاصة مع الأخذ في الاعتبار ارتفاع تكلفة الطاقة والنقل وشح الإمدادات.

روسيا تعوض خسائرها:

بالنسبة لروسيا، تقول دراسة المعهد البريطاني إنها ستحاول تخفيف الركود الاقتصادي من خلال تعويض خسائرها الناتجة عن العقوبات الدولية المفروضة عليها بفضل ارتفاع أسعار صادرات الغاز والنفط. لكن الحصيلة النهائية للاقتصاد الروسي ستكون سلبيةً بالتأكيد، حيث من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 1.5% هذا العام، وأكثر من 2.5% بحلول نهاية عام 2023. ومن المرجح أن يرتفع معدل التضخم الروسي إلى أكثر من 20% هذا العام في ضوء انهيار سعر صرف الروبل. ورغم كون روسيا هي الخاسر الاقتصادي الأكبر على المدى الطويل من الصراع، خاصة إذا تم تصعيد الصعوبات إلى حد وقف شحنات النفط والغاز إلا أن الدول الغربية وخاصة الأوربية لن تسلم بدورها من التداعيات، حيث يستمر التضخم في الارتفاع أيضا مع تزايد مخاطر الركود.

ويوجه العديد من المراقبين في مراكز الأبحاث الأوروبية ملاحظات مفصلية لصانعي السياسات في إطار النقد الذاتي وإعادة تقويم السياسات؛ في مقدمة تلك الملاحظات أن أوروبا لم تفعل شيئًا يذكر في السنوات الأخيرة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، وبشكل خاص ألمانيا التي ستتفاقم لديها الإشكالية بسبب نقص الغاز، لأنها تخلت عن الطاقة النووية. لذلك ستواجه تلك البلدان المستوردة للنفط رياحاً معاكسة من موجات ارتفاع الأسعار. أما الولايات المتحدة، فهي أكثر تحوطًا، نظرًا لأن إنتاجها من النفط يساوي استهلاكها منه، خاصة أن النفط الأكثر تكلفة لديها يكون تقريبًا خارج  حساب الناتج المحلي الإجمالي. لكن ارتفاع أسعار النفط سيضر بالمستهلكين الأمريكيين بينما يساعد فقط شريحة محدودة من الشركات والعاملين المرتبطين بصناعة النفط والغاز. وسيؤدي ارتفاع الأسعار أيضًا إلى زيادة التضخم، الذي وصل بالفعل إلى أعلى مستوياته منذ ما يزيد على عقد في الولايات المتحدة وبقية الاقتصادات المتقدمة الأخرى. ورغم أن سعر برميل النفط اقترب من حاجز الـ 120 دولارا إلا أن أسعار العقود الآجلة أقل من الأسعار الفورية، مما يشير إلى أن السوق قد تتوقع أن تكون هذه الزيادة مؤقتة. وهكذا فإن الحرب الدائرة الآن تزيد من حدة المعضلة التي تواجه صانعي السياسة النقدية لأنها ستضيف إلى التضخم وتضعف النمو وتضر بثقة المستهلك والاستثمارات التي قوضتها بالفعل زيادات الأسعار التي تسببت فيها جائحة كورونا.

زيادة ميزانية الأمن والإغاثة:

من جهة أخرى، من المتوقع زيادة الإنفاق العام لتعزيز إجراءات الأمن ودعم أنشطة الإغاثة أمام التدفق الهائل لطالبي اللجوء من أوكرانيا مما يزيد من الضغط على الموارد، وبالتالي التضخم. وقد أعلن مسئول في الأمم المتحدة أن الأسبوع الأول لبدء الصراع  أدى إلى فرار أكثر من 50 ألف أوكراني إلى دول مثل بولندا ومولدوفا، كما يوجد نحو 3 ملايين آخرين بحاجة إلى طعام وضروريات أخرى. بينما قدر صندوق النقد الدولي في بيان صادر عن اجتماع مجلسه التنفيذي "موجة من اللاجئين قوامها أكثر من مليون لاجئ إلى البلدان المجاورة".

بالإضافة إلى ذلك، من المرجح أن ترتفع ميزانيات الدفاع في أوروبا والولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى لتعكس الوضع العالمي الخطير بشكل متزايد. لن يقلل هذا من نمو الناتج المحلي الإجمالي فحسب، لكنه سيقلل من رفاهية المواطنين، لأن الموارد المخصصة للدفاع هي موارد لا يمكن أن تُوجه نحو الاستهلاك والاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية. وكلما طال أمد الحرب تفاقمت العواقب على الاقتصاد العالمي. وإذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحكومات أخرى اعتمدت على خيار العقوبات، فإن روسيا ردت بأنها ستمنع المواد الخام من التصدير وأنها أعدت قائمة بتلك المواد والمنتجات وقائمة بالدول التي ستمنع عنها "خيراتها". وبقدر التصعيد في العقوبات والردود المضادة عليها، ستكون التكاليف أكبر - أولاً وقبل كل شيء بالنسبة لروسيا وأوكرانيا– ولكن أيضًا بالنسبة لبقية الاقتصاد العالمي. الأهم من ذلك بكثير، هو عالم تشعر فيه الشعوب والبلدان بغياب الأمن والأمان، وهذا أمر يستحق أن يدفع ثمنه أكثر بكثير مما دفعه قادة العالم حتى الآن. 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية