كثيرون من المتابعين لتطورات الأزمة الليبية وتعقيداتها، يعتقدون أن “فك شيفرة” اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس رئيس هيئة أركان “الثوار” الليبيين هو المدخل الأهم، إن لم يكن الوحيد، لفهم “ألغاز” ما يحدث في  ليبيا، بل وما سيحدث في ليبيا إذا ما أسقط أو إذا ما سقط نظام معمر القذافي . فالغموض الذي يكتنف عملية اغتيال اللواء يونس لا ينافسه غير غموض ما ينتظر ليبيا إذا ما أسقط نظام القذافي .

المعلومات القليلة التي جرى تسريبها عقب اكتشاف عملية الاغتيال ظلت تراوح بين ما هو صراعات داخلية بين أجنحة “الثوار”، بين من هم ليبراليون قادمون من المنافي الأوروبية، وبين من هم إسلاميون، وبين ما هو اختراق  خارجي وأدوار لقوى دولية تتنافس على مستقبل نفوذها في ليبيا وحصتها من النفط الليبي، وهي معلومات تؤكد كلها، أن ليبيا ما بعد القذافي مرشحة للدخول في دوامة صراعات هائلة ومكثفة من شأنها أن تلقي بظلالها على ما  يحدث وما سوف يحدث في سوريا، وما سوف يترتب على موجة الثورات العربية الراهنة من تداعيات على مجمل الشأن العربي .

لقد جرى تسريب اتهامات من جانب الليبراليين في المجلس الانتقالي الليبي تقول إن عناصر تابعة لسرية أبوعبيدة بن الجراح، المعروفة بميولها الإسلامية المتشددة هي من اغتال اللواء عبدالفتاح يونس، وأن هناك اتصالات جرت  بين سيف الإسلام القذافي والدكتور علي الصلابي زعيم الجناح الإسلامي في أوساط الثورة الليبية، هذه المعلومات والتلميحات لم تؤكد، لكن في المقابل يجري الترويج لدور إيطالي وبالذات لرئيس الحكومة الإيطالية في اغتيال  يونس بسبب خلافات على رفض اللواء يونس لحجم الديون التي يتحدث عنها قادة “الناتو” نظير المشاركة أو قيادة الحملة العسكرية ضد نظام القذافي، واعتقاد هؤلاء أن الرجل سيكون حجر عثرة أمام النفوذ الأوروبي في ليبيا  بعد سقوط نظام القذافي باعتباره أكثر ميلاً للأمريكيين . هذه المعلومات تنقل حواراً جرى بين مندوب لحلف “الناتو” واللواء يونس قال فيه مندوب الناتو ليونس “إنكم مدينون لنا بألف مليار دولار حتى الآن”، وإن رد يونس  كان الانزعاج الشديد والقول: “ألف مليار . . تريليون دولار في خمسة شهور؟ ماذا فعلتم؟ هل كانت القنابل والرصاص الذي استخدمتوه مصنوعاً من الذهب الخالص؟ هذه أكبر عملية سرقة في التاريخ، هذه ليست سياسة ولا عمل  أخلاقي، هذا عمل عصابات مافيا وليس أعمال دول” .

مثل هذه المعلومات المشوشة وغير المؤكدة تدور في ظل تنامي الصراعات داخل أجنحة المجلس الانتقالي بين ليبراليين يتهمون إسلاميين بالعداء لهم، والتحفظ على التعاون مع حلف الناتو، والرغبة في التوصّل إلى تسوية سلمية  مع نظام القذافي تحقن الدماء، وبين إسلاميين يتهمون ليبراليين بالعمالة للغرب والحرص على إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني وتوصيل رسائل تحمل هذا المعنى إلى المسؤولين في الكيان عبر من يسمى بالفيلسوف الفرنسي “ برنارد هنري ليفي” الذي زار بنغازي والتقى عدداً من قادة هذا الجناح الليبرالي في المجلس الانتقالي .

كل هذه الصراعات والانقسامات الداخلية تجري جنب إلى جانب مع تعقد السيناريوهات المحتملة لما يسمى ب”اليوم التالي” لسقوط نظام القذافي، وغياب أي استراتيجية واضحة لإدارة مثل تلك السيناريوهات . هذا يحدث على  مستوى “فرقاء” المجلس الوطني الانتقالي، وعلى مستوى الحلفاء أو الشركاء الغربيين أنفسهم، لكن الأخطر أنه يحدث في ظل التشكك وعدم اليقين في العملية العسكرية الراهنة .

صراعات فرقاء أو شركاء الداخل طغت على أولوية الاهتمام بالبحث في سيناريوهات “اليوم التالي” أما الدول الغربية فمنقسمة حول العديد من السيناريوهات بعد افتقاد الثقة في السيناريو المفضل الذي كان يتلخص في أن  تؤدي الضربات العسكرية التي يقوم بها حلف الناتو لمعاقل كتائب القذافي إلى تمكين “الثوار” من الزحف على معاقل القذافي وإسقاطه عسكرياً .

من أهم هذه السيناريوهات ما يطرح من جانب الفرنسيين ويتلخص في ما يسمى ب”الصيغة البديلة” للخيار العسكري عبر خيارين: إما التفاوض المباشر مع القذافي لإقناعه باعتزال الحكم طواعية في مقابل إشراك التيارات  الموالية له في ترتيبات الفترة الانتقالية، وإما استمالة أركان العسكر الموالين للقذافي، إما للتخلي عنه أو لإطاحته، وإلى جانب هذين الخيارين يوجد خيار بريطاني يتحمس للتحذير من مخاطر الاقتتال الداخلي بعد سقوط النظام أو  تفكك الدولة وفرض ما يسمى “بالخيار العراقي”، وفي مسعى لتحاشي هذه المخاطر يطرح فكرة دعوة الأمم المتحدة لنشر قوات دولية تحمي الأمن وتحفظ الدولة وإدارة المرحلة الانتقالية .

هذه الأفكار بقدر ما تكشف عن تخبّط في الرؤى، تؤكد أن الخطر يواجه ليبيا في كل الأحوال، وأن غياب فهم خلفيات اغتيال اللواء يونس سيظل يمثل تحدياً لفهم ما يمكن أن يحدث في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي .

-------------------------------------------------

* نقلا عن صحيفة دار الخليج الاثنين ,22/8/2011