من المجلة - الدراسات

حلف الناتو:| من "الشراكة الجديدة" إلي التدخل في الأزمات العربية

طباعة
بعد انتهاء الحرب الباردة، شهدت استراتيجية حلف الناتو تطورا ملحوظا، حيث امتد نشاطه، خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلي منطقة حلف وارسو السابق، وسعي لضم العديد من دولة إلي عضويته. وقد تطورت عقيدة الحلف، خلال الفترة ما بين عامي 1991 حتي 2001، من "الردع" إلي "الدفاع عن المصالح الجماعية" لأعضائه خارج أراضيه. كما أصبحت تشكيلات تأخذ شكلا يناسب التدخل السريع، حال اندلاع أزمة من شأنها تهديد مصالح  أعضاء الحلف، خاصة في منطقة حوض البحر المتوسط..

أطلق الحلف حوارا عام 1994 مع سبع دول متوسطية، هي: المغرب، وتونس، وموريتانيا، ومصر، وإسرائيل، والأردن، والجزائر، وذلك للتعاون في محاربة تهديدات محتملة لأعضاء الحلف، مثل الهجرة غير الشرعية، وتهديد المخدرات، والأنشطة الإرهابية. بعد اعتداءات سبتمبر 2001 علي الولايات المتحدة، شهدت استراتيجية الحلف تطورا جديدا، حيث تم الاتفاق في قمة براج نوفمبر 2002 علي خطة عمل مشتركة ضد الإرهاب، وإنشاء قوة رد سريع متطورة عام 2006.

اهتم الحلف في هذه الفترة أيضا بتطوير التعاون الأمني الثنائي بين دول الحلف وبلدان الشرق الأوسط الموسع. وتم طرح مبادرة اسطنبول للتعاون الاستراتيجي في يونيو 2004، لتكون بداية لهذا التعاون. انضمت لهذه المبادرة  أربع دول خليجية هي الكويت، والإمارات، وقطر، والبحرين، بينما بقيت كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج إطارها.

تضم هذه المبادرة قائمة يمكن للدول الاختيار فيما بينها في ستة مجالات، هي: الإصلاح الدفاعي والتعاون العسكري، ومكافحة الإرهاب، والتصدي لانتشار أسلحة الدمار الشامل، وأمن الحدود، والإرهاب، والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وإدارة الأزمات.

وفي ظل الانتقادات الموجهة للسياسة الأمريكية، عقب ما سمته "الحرب علي الإرهاب"، والتي خاضت بموجبها حروبا في أفغانستان والعراق، سادت لدي الحلف رغبة في أن يتمايز -ولو نظريا- عن تلك السياسة. أطلق الحلف في هذا الإطار مبادرات للشراكة تتضمن "الأمن الناعم"، متمثلا في التدريب والاستشارات، وإدارة الأزمات، علي نحو مغاير "للأمن الصلب" الذي ظل نهجا للإدارات الأمريكية علي اختلاف توجهاتها. وفي هذا الإطار، فقد أنشأ الحلف قسم الدبلوماسية العامة ضمن الجهاز المؤسسي للحلف ببروكسل، ضمن جهوده لتغيير صورته السلبية، خاصة في المنطقة العربية.

ونظرا لسيادة هذه النظرة السلبية عن الأحلاف في المنطقة    العربية، لم يكن هناك تدخل أطلسي مباشر في الأزمات العربية ما قبل الثورات التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن، وإنما شارك أعضاء الحلف الرئيسيون خلال  أزمتين. كانت الأزمة الأولي هي حرب الخليج الثانية عام 1991، التي شاركت بها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، لضمان عدم سيطرة العراق علي نفط دولة الكويت أو نفط المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، مما كان سيعني تغيير المشهد الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي. أما الأزمة الثانية، فكانت خلال الحرب العراقية - الإيرانية، حيث شارك بعض أعضاء الحلف في عملية عسكرية استهدفت تأمين إمدادات النفط من خلال حماية عبور ناقلات النفط عبر الخليج. وتمكنت الدول الحليفة من أسر بعض السفن الإيرانية التي كانت تقوم بزرع ألغام مضادة في الخليج، واشتبكت في إطلاق نيران مع القوات الإيرانية التي استغلت منصات النفط لمهاجمة السفن. ومع أن تلك العملية لم يضطلع بها الحلف كمؤسسة، فإنها تمثل نموذجا علي تعاون "ائتلاف من الدول الراغبة" لتأمين منطقة استراتيجية(1).

أما بالنسبة للتدخل في الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي من شأنه نزع فتيل صراعات وأزمات عديدة في المنطقة العربية، فإن الأمين العام السابق للحلف أكد أن التدخل في هذا الصراع سيظل محكوما بضوابط ثلاثة: أن يكون ذلك وفق قرار من مجلس الأمن، مشاركة الأطراف المعنية بالشرق الأوسط في ذلك الأمر، أن يكون دور الحلف ضمن المراحل النهائية لهذا الصراع والتي تتضمن تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة(2). بيد أن ذلك لا يعني أن الحلف ظل بعيدا عن هذا الصراع،  حيث إن الاتفاق الأمني الذي تم توقيعه بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في 16 يناير 2009، بشأن منع تهريب السلاح إلي قطاع غزة، قد أشار إلي دور الناتو في ذلك الاتفاق بالقول "تعمل الولايات المتحدة مع شركائها الإقليميين وحلف الناتو لمواجهة مشكلة تهريب الأسلحة ونقلها إلي حركة حماس .."(3).

وفي هذا الإطار، فقد أثار تدخل الناتو في الأزمة الليبية تساؤلا مؤداه: لماذا تدخل الناتو في ليبيا؟ وما هي أسس هذا التدخل وأسبابه؟، بل والأهم من ذلك ما هو تأثير ذلك في الأمن القومي المصري والعربي؟

تسعي هذه الدراسة لاختبار مقولتين رئيسيتين، الأولي: إن لحلف الناتو استراتيجية تجاه النزاعات في العالم تمت بلورتها عقب انتهاء الحرب الباردة وتتيح التدخل في الأزمات، ومن ثم فإن الأزمة الليبية لم تكن منشئة لدور الناتو بقدر ما كانت كاشفة له. والثانية: إن سعي حلف الناتو للتدخل في أزمات المنطقة العربية، وإن لم ينته بحالة "الاحتلال"، فإنه يعطي الحلف وجودا غير مباشر في المنطقة من خلال ما يقدمه من "الأمن الناعم"، وهو ما يعد تحديا للأمن القومي المصري والعربي.

أولا - "التدخل" في استراتيجيات الناتو :

منذ نشأة حلف الناتو وحتي الحرب الباردة، ظل مفهوم التدخل الأطلسي في الأزمات محددا بما نصت عليه المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تنص علي أن أي هجوم مسلح ضد أي من أعضاء الحلف يعد هجوما علي دول الحلف كافة بما يتيح لها حق الدفاع عن النفس. ويعني ذلك أمرين، الأول: إن التدخل ما قبل انتهاء الحرب الباردة ظل محددا بمنطقة جغرافية معينة هي أراضي الدول الأعضاء، والثاني: هو ارتباط ذلك بوقوع عدوان من عدمه علي أحد أعضاء الحلف.

إلا أن التحولات العالمية في مطلع عقد التسعينيات وما رتبته من تهديدات، مثل الحرب في يوغسلافيا وكوسوفو، مثلت تحديا لحلف الناتو، ومن ثم كان قرار الحلف بالتدخل في تلك الأزمات بدلا من الاكتفاء بمراقبتها. من ناحية أخري، فقد سعي حلف الناتو لانتهاج استراتيجية جديدة ما بعد انتهاء الحرب الباردة تستجيب ومعطيات البيئة الأمنية العالمية المتغيرة، ومنها منطقة جنوب المتوسط والشرق الأوسط (4). إذ شهدت قمة الحلف في روما، عقب انتهاء هذه الحرب، التوصية بصياغة استراتيجية جديدة للحلف، مفادها أنه يتعين علي الحلف إيلاء السياسة الأمنية للدول المتوسطية غير الأوروبية أهمية خاصة، انطلاقا من أن تحقيق الاستقرار والأمن علي الحدود الجنوبية للدول الأوروبية يعد أمرا مهما لأمن الناتو(5). ومن ثم، فقد تمثلت معضلة الحلف في تحقيق الاتساق بين ميثاقه الذي لا يتيح التدخل خارج أراضيه ومواجهة التهديدات الأمنية التي تهدد مصالح أعضائه، مما حدا بالحلف لإصدار مفهومين استراتيجيين، الأول عام 1999، والثاني عام 2010.

1- المفهوم الاستراتيجي الأول (1999) :

حدد ذلك المفهوم وبوضوح مهمة جديدة لحلف الناتو، هي"إدارة الأزمات" دون تحديدها بمنطقة جغرافية معينة. وجاء في ذلك المفهوم "ضرورة أن يبقي الحلف علي أهبة الاستعداد للإسهام في كل حالة علي حدة وبصورة جماعية في الوقاية بفاعلية من النزاعات، والمشاركة بنشاط في إدارة الأزمات بما يتضمنه ذلك من عمليات للرد علي الأزمات، وذلك وفق القرارات الأممية". كما جاء في المفهوم "يجب علي الحلف أن يضع في اعتباره الإطار الكوني، إذ يمكن أن تتأثر المصالح الأمنية للحلف ودوله بسبب مخاطر تتجاوز مجرد العدوان علي أراضي أحد أعضائه، بما فيها الأعمال الإرهابية، والجريمة المنظمة، وإعاقة تدفق الموارد الحيوية إلي الدول الأعضاء". ووفقا لهذا المفهوم، فقد اتسعت مجالات التدخل العسكري للحلف لتشمل الأسباب الإنسانية، وعمليات حفظ السلام، ومنع الانتشار النووي، سواء داخل أوروبا أو خارجها، وهو ما يعني تعديل المادة الخامسة التي لم تكن تتيح ذلك التدخل من قبل(6).

2- المفهوم الاستراتيجي الثاني (2010) :

انطلاقا من إدراك أعضاء حلف الناتو لاستمرار التهديدات التي تواجه مصالح أعضائه خارج أراضيه، فقد جاء إصدار ذلك المفهوم أكثر وضوحا وتحديدا عن سابقه بشأن التدخل الأطلسي في الأزمات، حيث تضمن ما يلي:

- يمتلك الحلف مقدرات سياسية وعسكرية نادرة يمكنها التعامل مع الأزمات، سواء قبل أو أثناء أو بعد نشوئها.

- البيئة الأمنية لم تعد أراضي الناتو، إذ إن الصراعات والاضطرابات التي تشهدها الدول الواقعة خارج حدود الناتو قد تلقي بظلالها علي أمن دول الناتو ذاتها،  يقع ضمن هذا الإطار قضية أمن الطاقة، حيث إن الجزء الأكبر من الاستهلاك العالمي من إمدادات الطاقة يمر عبر أراضي مختلف بلدان العالم، وبالتالي فإن تلك الإمدادات قد تكون عرضة للمخاطر والهجمات والانقطاع.

- إن الأزمات والصراعات التي تدور خارج أراضي الناتو قد تهدد مصالحه بشكل مباشر، وبالتالي يتعين علي الناتو التدخل حيثما أمكنه وحينما اقتضت الحاجة ذلك للحيلولة دون اندلاع الأزمات أو إدارتها، حال وقوعها، ثم إعادة الاستقرار إلي المنطقة بعد انتهائها، والمساعدة في إعادة إعمار المنطقة.

وانطلاقا من هذين المفهومين، فقد جاء تدخل الحلف انطلاقا من الاعتبارات الإنسانية في كل من كوسوفا 1999 وأفغانستان في عام 2003، حيث كانت أفغانستان أول عملية عسكرية للحلف خارج منطقة عمله التقليدية في أوروبا.

وكان الهدف منها المساعدة علي ضمان الأمن، وعقد الانتخابات العامة، وتحسين قدرات القوات المسلحة وقوات الأمن الأفغانية، وذلك من خلال قوات الناتو المعروفة باسم "إيساف". إلا أنه بعد مرور أكثر من ثمانية أعوام، لم يستطع الحلف إنجاز تلك المهمة، وهو ما عكسته الخسائر البشرية الهائلة لقوات الحلف مع استمرار مقاومة حركة طالبان.

ثانيا - تدخل الناتو في الأزمة الليبية :

لم يكن قرار حلف الناتو بالتدخل في الأزمة الليبية أمرا يسيرا بالنظر إلي خبرات الحلف السلبية في أزمات سابقة، ومنها حملات الحلف في البلقان التي كانت تتطلب موافقة كل من أعضائه علي حدة، مما أدي إلي تخبط تلك العمليات، بالإضافة إلي  المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي شهدت اختبارا حقيقيا في أفغانستان لتعكس الفجوة بين الأقوال والأفعال(7).

ومن ثم، فقد كان لتدخل الناتو في تلك الأزمة مرجعية إقليمية ودولية، وعوامل أخري خاصة بالحلف ذاته.

1-  المرجعية الإقليمية والدولية :

علي الرغم من صدور قراري مجلس الأمن رقمي 1970 و1973 بشأن الحالة الليبية (ومضمونهما إحالة الوضع في ليبيا إلي المحكمة الجنائية الدولية، وحظر الأسلحة والسفر، وتجميد الأصول الليبية في الدول الغربية، وإقامة منطقة حظر طيران جوي في الأجواء الليبية)، فضلا عن قرار الجامعة العربية رقم 7298 بتاريخ 2 مارس 2011 بشأن الطلب من مجلس الأمن تحمل مسئولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بفرض منطقة حظر جوي علي حركة الطيران العسكري الليبي، وإقامة مناطق آمنة في الأماكن التي تتعرض للقصف(8) -فإن حلف الناتو لم يتدخل كمنظمة سوي في نهاية شهر مارس 2011، أي بعد ما يقرب مما يزيد علي شهر من اندلاع الأزمة، حيث بدأ أعضاؤه الرئيسيون في شن هجمات جوية علي الكتائب الليبية. وبرغم مرجعية الناتو للتدخل، فإنها قد أثارت ثلاث إشكاليات:

الأولي: مع أن مضمون القرارات المشار إليها هو "فرض منطقة حظر جوي علي حركة الطيران العسكري الليبي كإجراء وقائي لتوفير الحماية للشعب الليبي وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة"، فإن مهمة الناتو قد تجاوزت ذلك من خلال قصف مواقع مدنية ومقرات حكومية تابعة للرئيس الليبي.

الثانية: لم تشر قرارات مجلس الأمن إلي الأطراف المنوطة بالعمليات في ليبيا سوي بالقول "يؤذن للدول الأعضاء التي أخطرت الأمين العام، وهي تتصرف علي الصعيد الوطني أو عن طريق منظمات أو ترتيبات إقليمية وبالتعاون مع الأمين العام، باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين وإبلاغ الأمين العام بها".

وربما تدارك مجلس الأمن الإشكاليات القانونية التي أثارتها قراراته السابقة المماثلة، فكان جل تركيزه في الحالة الليبية علي الإعلاء من قضية حماية المدنيين، وهو بدوره تعزيز لقوة "بروتوكول مسئولية الحماية" الذي يخول للدول الأعضاء والمجتمع الدولي مسئولية "المساعدة في حماية الشعوب من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية". وبموجب ذلك البروتوكول، فقد تمكن مجلس الأمن من سد الفجوة بين "التدخل الشرعي" وهو المبرر أخلاقيا و"التدخل القانوني". وهي القضية التي أثيرت خلال تدخل الناتو في كوسوفو عام 1999، إذ وصفت عمليات الناتو بأنها "غير قانونية ولكنها مشروعة"، حيث تمكن أعضاء، الناتو من إنقاذ شعب كوسوفو من التطهير العرقي، ولكن دون عقوبة قانونية يفرضها مجلس الأمن ضد "سلوبودان ميلوسيفيتش"(9).

أما الإشكالية الثالثة،  فهي أنه مع أهمية المرجعية الإقليمية، التي تتمثل في قرار الجامعة العربية وما تلاها من مشاركة دول خليجية، وهي قطر والإمارات والكويت في عمليات الناتو في ليبيا، فإن الحديث عن ازدواجية المعايير الدولية كان حاضرا وبقوة. ففي الوقت الذي تتحدث فيه الدول الغربية عن انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا واستهداف قوات القذافي للمدنيين، فإن تلك الدول ذاتها هي من قدمت دعما هائلا للقوات المسلحة في ليبيا، وهو ما عكسته مشاركة هذه الدول علي نطاق واسع في معرض السلاح الذي أقيم في ليبيا "نوفمبر 2010". كما كانت هناك تساؤلات حول سبب التدخل في ليبيا، وغض الطرف عن حالات أخري ربما مماثلة أو أكثر سوءا (سوريا أو اليمن)، حيث قال أمين عام الحلف "إن الحلف ليس لديه خطط للقيام بمهمة عسكرية في سوريا"(10). وأضاف أن "تحرك الناتو ضد النظام الليبي كان بمقتضي تفويض قوي من مجلس الأمن ودعم واضح من دول المنطقة، وهو مزيج نادر لم نشهده في مواقف أخري"(11). ولاشك في أن السيطرة الأوروبية علي المنطقة، إبان أعوام القرنين التاسع عشر والعشرين، من شأنها تعزيز استمرارية مشاعر الشك والريبة في السياسات الغربية عموما تجاه المنطقة العربية، حتي وإن كانت بغطاء أممي مدعوما بتأييد عربي(12).

2 - التهديدات التي تواجه مصالح أعضاء الحلف :

أ- الدولة الفاشلة ومخاطرها :

تمثل الدول الفاشلة تحديا لحلف الناتو كما جاء علي لسان أمينه العام بالقول "هناك تحديات ومخاطر أمنية يواجهها الحلف، منها الدول الفاشلة، والإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، والقرصنة، وأمن الطاقة". وهي الرؤية التي عززتها بعض الدراسات الأكاديمية الصادرة عن كلية الدفاع التابعة للحلف، ومؤداها أن فشل الدولة هو المرحلة التي تسبق انهيارها. ووفقا لهذه الرؤية، "فإن اهتمام الناتو بمثل هذا النوع من الدول يتعين أن يكون سابقا ولاحقا للانهيار والفشل. فإذا كان الناتو قد بذل الكثير من موارده في مواجهة مخاطر فشل الدولة، فإنه كان بالأحري أن يحول دون فشلها من خلال بناء مؤسسات الدولة وترسيخها. فإن لم يحالفه النجاح في ذلك، يتدخل بعد فشل الدولة -إذا لزم الأمر ذلك- من خلال خطط لهذا التدخل"(13). وهو ما تجسده الحالة الليبية بوضوح، إذ لن يقتصر التدخل علي الهدف المعلن، وهو حماية المدنيين، وإنما سوف يكون للحلف دور في بناء مؤسسات الدولة، وفقا لورقة عمل أصدرتها كلية الدفاع بحلف الناتو ومفادها "أنه حتي بعد إسقاط النظام الحالي وتسلم الثوار مقاليد الحكم، ستظل ليبيا بحاجة إلي الجهود الدولية لبناء الدولة التي عانت لعقود طويلة افتقارا لهياكل ومؤسسات الحكم. ومن ثم، فإن التخلي عن تلك الدولة وعدم تقديم الدعم اللازم لبناء عناصرها الأساسية من شأنه أن يفضي إلي حالة من الفوضي والاضطراب السياسي"(14).

ب - الهجرة غير الشرعية للدول الأوروبية:

ليست قضية الهجرة غير الشرعية بالأمر الجديد، إلا أن التحولات السياسية التي تشهدها دول الشمال الإفريقي أدت إلي تنامي مخاطرها، حيث نزح آلاف المهاجرين إلي إيطاليا التي قامت بدورها بمنح هؤلاء المهاجرين تأشيرة الدخول للدول الأوربية الأخري، مما دفع فرنسا للتهديد بإيقاف العمل باتفاقية "شنجن". وتكمن مخاوف هذه الدول من هؤلاء المهاجرين في النقل التدريجي للأفكار والمعتقدات من دول الجنوب إلي نظيرتها في شمال المتوسط، في ظل تعارض القيم بين الجانبين. فضلا عن أن تدني المستوي التعليمي لهؤلاء المهاجرين يجعل لديهم قبولا بأي وظائف، وهو ما يمثل ضغوطا علي فرص العمل في الدول المضيفة. وتقدر الأمم المتحدة أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلي دول العالم المتقدم خلال الأعوام العشرة الأخيرة بنحو 155 مليون شخص(15).  ويعاني هؤلاء المهاجرون صعوبة الاندماج في المجتمعات الأوروبية، بالرغم من حصول أغلبيتهم علي الجنسية التي تعني تمتعهم بحقوق المواطنة الكاملة، وبالتالي يظل هؤلاء المهاجرون في حالة من الإقصاء المجتمعي والمهني(16).

ج - تنامي نشاط تنظيم القاعدة في دول المغرب العربي :

ومن ذلك مؤشران، الأول: الشهادة التي أدلي بها الأدميرال جيمس ستارينديس، قائد قوات حلف الناتو، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي خلال شهر مارس 2011، وأكد خلالها وجود مؤشرات استخباراتية علي احتمال وجود أو تأثير للقاعدة وحزب الله في المعارضة الليبية(17). أما الثاني، فهو ما أشار إليه الرئيس التشادي إدريس ديبي من أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي يسهم بقدر كبير فيما يجري في ليبيا(18). وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه، وأخذا في الاعتبار تراجع دور التنظيم بعد مقتل زعيمه أسامة بن لادن، فإن ذلك لا ينفي حقيقة نشاط التنظيم في الدول المنهارة عموما.

د - تهديدات أمن الطاقة :

بدأ الاهتمام المباشر بهذه القضية من جانب حلف الناتو في قمتي ريجا 2006 وبوخارست 2008، عندما تضمن البيان الختامي ما مؤداه أن المصالح الأمنية للحلف يمكن أن تتأثر بانقطاع إمدادات الموارد الحيوية، مما يتطلب التعاون بين الناتو والمنظمات المعنية للحفاظ علي ذلك المورد الحيوي. بل إن الأمين العام للحلف قال أمام البرلمان الأوروبي في مايو 2006 "إن الناتو سوف يبحث استخدام القوة إذا ما هددت إمدادات الطاقة"(19)، بما يعني أن الأزمة الليبية، وما ترتب عليها من انقطاع في إمدادات النفط الليبي لأعضاء الحلف وتأثير ذلك في أسعار النفط، قد عدت تحديا مباشرا لمصالح دول الحلف، انطلاقا مما يمثله النفط الليبي من أهمية لهذه الدول، سواء علي صعيد الاحتياطيات أو الإنتاج.

ونستنتج مما سبق أن تهديد تدفق النفط الليبي كان يعد أول اختبار للخطط التي سبق أن وضعها الحلف لحماية أمن الطاقة، وأن ارتفاع أسعار النفط، التي تجاوزت 110 دولارات للبرميل إبان الأزمة، قد عد تهديدا مباشرا للدول الغربية المستهلكة للنفط الليبي، مما استدعي تدخلا أطلسيا في تلك الأزمة.

3-  اعتبارات خاصة بحلف الناتو ومدي ملاءمة العمليات في ليبيا له :

في ظل حالة الانقسام التي تسود الأمم المتحدة إزاء الأزمات التي تتطلب تدخلا علي نحو عاجل، ربما يري الناتو أنه يمثل البديل العملي لهذه المنظمة، إذ يضم 55 دولة، منها 28 عضوا رئيسيا، و20 دولة ترتبط مع الحلف باتفاقات ثنائية (28+1)، و7 دول هي أعضاء الحوار المتوسطي، أي أن الحلف يضم أكثر من ربع أعضاء الأمم المتحدة. يتيح ذلك للحلف التدخل عسكريا خارج نطاق الأمم المتحدة، وإن ظلت القرارات الأممية محددا لهذا التدخل(20) إلي الحد الذي وصف فيه البعض ذلك بالقول "إن مجلس الأمن ليس لديه قوة عسكرية، إلا أن الناتو وأعضاءه لديهما". كما أن طبيعة التدخل في الأزمة الليبية تبدو مغايرة لمهمة الناتو الراهنة في أفغانستان، والتي كبدته خسائر بشرية ومادية هائلة. ومن ثم، ربما رأي صانعو القرار في الحلف أن الطلعات الجوية التي تضطلع بها قوات الأطلسي تبقي علي جنوده في مأمن، ومن جهة أخري رغب الحلف في تخفيف العبء عن الولايات المتحدة التي تتحمل العبء الأكبر حاليا في كل من العراق وأفغانستان(21).

ثالثا - تأثيرات التدخل في الأزمة الليبية :

علي الرغم من تسلم حلف الناتو قيادة العمليات العسكرية في ليبيا لمدة تجاوزت الشهرين، فإنه -حتي كتابة هذه السطور في أوائل يونيو 2011- لم تحسم المواجهات لأي من الجانبين، فكتائب القذافي تعتمد علي أسلوب الكر والفر في مقابل بطء عمليات الأطلسي. وقد أكد الأمين العام للحلف أنه "لا  يوجد حل عسكري للصراع في ليبيا، وإنما الحل الدائم سيكون حلا سياسيا يستجيب للتطلعات المشروعة للشعب الليبي"(22). ولكنه من التبسيط المخل توقع أن المشكلة الليبية سوف تشهد انفراجا مع انتهاء نظام القذافي، سواء بالاعتقال أو الاغتيال أو الهروب، إذ إن الحالة الليبية تبدو فيها الأمور أكثر تعقيدا من حالتي مصر وتونس.

فهناك شكوك عما إذا كانت ليبيا ستظل كيانا موحدا بعد رحيل القذافي أم لا(23). وفي ظل الوضع الميداني علي الأرض، فإن تقسيم ليبيا إلي منطقة غربية يسيطر عليها القذافي، بينما تتكون حكومة للمعارضة في الشرق يظل احتمالا قائما. ونظرا لطبيعة الدولة الليبية حديثة النشأة، والتي لا تظل أسيرة للولاءات القبلية، بالإضافة إلي وجود انقسام حاد في المعارضة الليبية بين التيارين الإسلامي والليبرالي دون تبلور جبهة معارضة موحدة، فإن ذلك ينذر بتجربة حرب أهلية طويلة المدي، من شأنها تقسيم الدولة علي أسس جغرافية(24).

ولفكرة التقسيم ما يعززها تاريخيا. فقد جري تقسيم ليبيا إلي كيانات ثلاثة عقب الحرب العالمية الثانية: القسم الأول تحت اسم ولاية برقة وكان تحت السيطرة البريطانية. أما الثاني، فهو فزان تحت السيطرة الفرنسية، بينما الثالث كان طرابلس تحت سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية التي أقامت فيها قاعدة هويلس العسكرية الشهيرة(25).

وبافتراض أن المجلس الوطني الانتقالي هو من سوف يتقلد السلطة بعد رحيل النظام الحالي، فإن عقبة بناء الإجماع بين الليبراليين والإسلاميين والقبائل وعناصر باقية من النظام القديم ستمثل تحديا أساسيا له.

من ناحية أخري، ليس هناك إجماع داخل ليبيا علي تدخل الناتو. فقد كشف استطلاع للرأي -أجري علي 1785 شخصا في المناطق التي يسيطر عليها الثوار- عن أن 65% من سكان المدن الواقعة شرق ليبيا يرون أن عمليات الحلف علي ليبيا غير كافية، بينما كان 28% فقط راضين عن أداء الحلف(26).

هذا ويجعل تحليق طائرات الحلف علي ارتفاع كبير خشية إسقاطها من الصعب علي طياريها التمييز بدقة بين الوحدات العسكرية والمدنيين الأبرياء. وفقا لتقارير الأمم المتحدة، فقد أسفرت الأزمة الليبية عن آلاف القتلي، فضلا عن نزوح 893 ألف شخص(27).

وفي ظل الصورة السلبية للحلف السائدة في المنطقة العربية بسبب حالتي العراق وأفغانستان، فضلا عن دعم أعضاء الحلف الأنظمة العربية قبل اندلاع الحركات الاحتجاجية الحالية، فإن أي دور للحلف في ليبيا بعد القذافي يظل محلا للشك والريبة، من حيث استغلال فكرة المساعدة الإنسانية لأهداف استعمارية.

من ناحية أخري، سوف يكون هناك تأثير سلبي لهذا التدخل العسكري في مبادرات الناتو تجاه المنطقة العربية، حيث بذل الناتو جهودا مضنية في إقناع دول مجلس التعاون الخليجي بالانضمام لمبادرة اسطنبول عام 2004 (انضمت إليها أربع دول بينما ظلت كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان خارج المبادرة حتي الآن)، بناء علي أن الحلف يعمل بعيدا عن الهيمنة الأمريكية. إلا أن سير العمليات العسكرية في ليبيا قد أكد محدودية القدرات العسكرية للناتو بدون الولايات المتحدة(28).

رابعا-  الوجود الأطلسي في ليبيا وتأثيره في الأمن  المصري والعربي :

أ- شكل الوجود الأطلسي في ليبيا بعد القذافي :

جاء علي لسان الأمين العام لحلف الناتو أن "الحلف لا يعتزم نشر قوات برية في ليبيا"(29)، ولكن للحلف أشكالا أخري للوجود، وفقا لاستراتيجية "الأمن الناعم". ويتمثل ذلك في الحالة الليبية في "بناء المؤسسات الأمنية"، وذلك كما جاء في الرؤي الأكاديمية الصادرة عن الحلف إبان الأزمة الليبية، ومضمونها "أن رحيل نظام القذافي لا يعني بالضرورة استقرار الدولة، حيث لاتزال بحاجة إلي الجهود الدولية لبنائها، إذ تفتقر لهياكل ومؤسسات الحكم التي تعد عناصر ضرورية للأمن والاستقرار"(30). وواقع الأمر أن دور حلف الناتو تجاه بناء المؤسسات الأمنية داخل الدول ليس أمرا مستحدثا، وإنما بدأها الحلف في دول شرق أوروبا التي قام بعمليات علي أراضيها. ويعد إصلاح هذا القطاع خطوة أولي نحو سيادة نمط العلاقات المدنية - العسكرية داخل الدول التي تبدي قبولا للإصلاح الدفاعي. ولحلف الناتو تجربتان بارزتان بشأن إصلاح الجهاز الأمني في كل من العراق وأفغانستان، حيث تسهم 23 دولة من أعضاء الناتو في بعثة تدريب قوات الأمن العراقية، والتي تضطلع بمهمة رفع درجة احترافية القوات المسلحة العراقية من خلال تدريب و تعليم تلك القوات، ودعم القيادة العراقية وهيكل القيادة من خلال تحسين مراكز العمليات(31).

وفي ظل عدم وجود جيش نظامي في ليبيا -حيث إن الكتائب الأمنية التابعة للرئيس الليبي هي أهم أركان الهيكل الأمني غير الرسمي للسلطة ويقود معظمها أبناء القذافي(32)- فإن الفرصة تبدو مواتية للناتو لتكرار تجربتي أفغانستان والعراق، وهو ما يتيح للحلف نفوذا هائلا فيها. وربما كان قرار إيفاد خبراء أمنيين من أعضاء الحلف الخطوة الأولي ضمن هذه الاستراتيجية التي أشار إليها صراحة الأمين العام للحلف، أندريس فوج راسموسن، بالقول " إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أعلن سياسة بعيدة المدي لدعم الإصلاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وبإمكان الناتو تقديم إسهامات فريدة في هذا المجال. حيث ستشكل المؤسسات الدفاعية والأمنية الحديثة، الخاضعة بشكل كامل للمساءلة من جاب سلطات منتخبة ديمقراطيا، أولوية حيوية أمام ليبيا والكثير من الدول الأخري بالمنطقة". وأضاف "نرحب بليبيا الديمقراطية كشريك في الحوار المتوسطي"(33).

إلا أن ذلك لا يعني أنه لا نية لدي الحلف لنشر قوات برية في ليبيا، بل إن هناك ثلاثة مؤشرات مهمة في هذا الصدد. أول هذه المؤشرات تصريح وزير الخارجية الروسي بأن "اعتزام كل من فرنسا وبريطانيا استخدام مروحيات قتالية يعد بداية لتحول مهمة الناتو في ليبيا إلي عملية برية(34). ثانيها: ما أشار إليه قائد القوات البحرية الفرنسية، بيير فرانسوا فوريسيه، عن "نية قوات التحالف الانتشار في ليبيا بمجرد انتهاء القتال، وذلك من أجل تقديم المساعدات الإنسانية، إذ ستكون الوسائل العسكرية المستخدمة في المرحلة الأولي هي الأسرع والأسهل في التنفيذ"(35). أما المؤشر الثالث، فهو إشارة صامويل لوكير، رئيس قيادة العمليات المشتركة في نابولي -وهي التي تدير الحملات العسكرية علي ليبيا- إلي أنه "ربما تكون هناك حاجة لقوة صغيرة بمجرد انهيار نظام القذافي للمساعدة علي الانتقال إلي الديمقراطية". والجدير بالذكر أن وزراء دفاع الحلف -خلال اجتماعهم في بروكسل 7 يونيو 2011- قد اتفقوا علي ضرورة التخطيط لدور الحلف في ليبيا بعد انتهاء نظام القذافي(36).

ب- تأثير وجود الناتو في الأمن القومي المصري :

إن الوجود المباشر لقوات حلف الناتو في ليبيا، حتي وإن اقتصر هدفه علي تدريب قوات الأمن الليبية، من شأنه أن يرتب نتائج بالغة الخطورة بالنسبة للأمن القومي المصري من عدة نواح:

- الحد من القرارات الاستراتيجية لصانع القرار المصري. إن اكتمال الوجود العسكري الكثيف في المنطقة، ابتداء بالاحتلال الأمريكي للعراق، ومرورا بوجود قوات حلف الناتو في ليبيا، وانتهاء بإمكانية استدعاء دولة جنوب السودان لقوات دولية للحماية من تهديدات السودان مستقبلا، في ظل استمرار قضايا مثار نزاع بين الجانبين، يعني أن عناصر نظرية شد الأطراف لإضعاف منطقة الوسط تكون قد اكتملت أركانها في الحالة المصرية.

- يظل الأمن القومي المصري مرتهنا بمدي استقرار الأوضاع الداخلية في ليبيا. وربما تري بعض التيارات السياسية الليبية أو تنظيم القاعدة أن وجود الناتو يعد بمنزلة "احتلال" يتطلب "الكفاح المسلح". يعني ذلك أننا قد نكون إزاء صراع ممتد يعد تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري في ظل حدود  بين الدولتين تمتد إلي نحو (1.49 كم2)، وعمالة مصرية علي الأراضي الليبية تصل إلي نحو مليوني عامل.

ج - تأثير وجود الناتو في الأمن القومي العربي :

إن تدخل الناتو في الأزمة الليبية علي ذلك النحو يعد انتهاء عمليا للحدود بين ما هو "عالمي" و"إقليمي". وقد قدم د. حامد ربيع تعريفا للأمن الإقليمي بأنه "سياسة مجموعة من الدول تنتمي إلي إقليم واحد تسعي، من خلال وضع وتنظيم تعاون عسكري لدول ذلك الإقليم، إلي منع أي قوة أجنبية أو خارجية من التدخل في ذلك الإقليم". أي أن جوهر هذه السياسة هو التعبئة الإقليمية من جانب، والتصدي للقوي الدخيلة علي الإقليم من جانب آخر، وحماية الوضع القائم من جانب ثالث(37). إلا أنه في ظل احتواء الأقاليم، ومنها الإقليم الإفريقي، علي مصالح استراتيجية، سيظل هناك حافز للتدخل الدولي. وفي هذا الصدد، تعد ليبيا ثغرة مهمة لنفاذ الناتو للقارة الإفريقية التي تمثل تهديدا لمصالح أعضائه، من حيث تزايد معدلات الهجرة غير الشرعية، ناهيك عن المصالح النفطية. أما التحدي الأهم الذي يواجهه الحلف، فهو التصدي لتنظيم القاعدة في دول الشمال الإفريقي(38).

إن ولوج منظمة عسكرية بحجم ووزن الناتو إلي المنطقة العربية يعد تطورا مهما بالنسبة للأمن القومي العربي علي أكثر من صعيد. إن منح الحلف لنفسه حق القيام ب-"المهام الأمنية" في مناطق مختلفة من العالم، وهو مصطلح فضفاض قدم بموجبه دعما للولايات المتحدة في غزوها للعراق، ثم التدخل في ليبيا، يعني فقدان الجامعة العربية -وهي الكيان المؤسسي الذي يجسد هوية الأمن القومي العربي- زمام المبادرة بشأن الأزمات العربية لصالح منظمة حلف شمال الأطلسي(39). كما أن ذلك يشير إلي إمكانية تدخل حلف الناتو في أزمات أخري، وبخاصة تلك التي ترتبط بالموارد المائية في دول حوض النيل. إذ ورد في المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف الصادر في عام 2010 أن "قضايا ندرة المياه والتغير المناخي وازدياد حجم الطلب علي موارد الطاقة تشكل محاور أخري للبيئة الأمنية التي سوف يضعها الحلف في بؤرة اهتمامه، خلال المرحلة القادمة، لتأثيرها في خطط الحلف وعملياته". من ناحية ثالثة، تمثل العلاقات الأطلسية - الإسرائيلية المتنامية تحديا جديدا للدول العربية، وبخاصة في ظل استمرارية انحياز الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل. وهو ما عكسه خطاب الرئيس الأمريكي بشأن الشرق الأوسط في (19 مايو 2011) بالقول "إن التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل لا يتزعزع"(40). الجدير بالذكر أن حلف الناتو قد وافق عام 2009 علي مشاركة إسرائيل -بناء علي طلبها- في عمليات المسعي النشط التي يقوم بها الحلف في البحر المتوسط، بما يعنيه ذلك من أن الدول التي ستكون في حالة عداء مع إسرائيل ربما تواجه الناتو(41).

وفي ظل الوجود الأطلسي في المنطقة العربية، فإن الحلف سيكون طرفا في الترتيبات الأمنية المستقبلية. وقد تصبح منطقة الخليج، التي لم ينشأ فيها حتي الآن نظام أمني إقليمي، جزءا من "فكرة الناتو الشرق أوسطي". وهي إحدي الصيغ التي طرحت لأمن الخليج، وتضم إلي جانب دول الخليج الدول الأخري "المعتدلة"، بالإضافة إلي أطراف أخري من دول الجوار(42).

خاتمة :

في الوقت الذي استطاع فيه حلف الناتو تطوير سياسات استراتيجية محددة في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة -وذلك مع تطور مصادر التهديدات وطبيعتها - ابتداء بالدفاع الجماعي، ومرورا بالأمن الجماعي، وانتهاء بالتدخل في

الأزمات، لا توجد استراتيجية عربية للتعامل مع الأزمات التي تشهدها المنطقة، بما يعني ترسيخ آلية التدخل الدولي كحل لتلك الأزمات.

وفي ظل مبادرتي حلف الناتو تجاه المنطقة العربية -الحوار المتوسطي عام 1994، واسطنبول عام 2004- فضلا عن موافقة تركيا علي قرار الناتو بنشر الدرع الصاروخية علي أراضيها بنهاية عام 2015، وتأكيد وزير الدفاع التركي أن قاعدة أزمير الجوية التابعة لحلف الناتو سوف تتحول إلي مركز قيادة للقوات البرية للحلف(43)، بالإضافة إلي العلاقات المتنامية بين حلف الناتو وإسرائيل، وخطط الناتو لإصلاح المؤسسات الدفاعية في الدول العربية (حالة العراق نموذجا) ضمن ما يعرف ب-"الأمن الناعم" ، فإننا إزاء معادلة أمنية جديدة آخذة في التشكل، طرفها الرئيسي هو حلف الناتو، إلي جانب أطراف إقليمية أخري قد لا تتوافق مصالحها بالضرورة مع المصالح العربية.

وبغض النظر عما ستئول إليه تطورات الأزمة الليبية الراهنة، بالإضافة إلي قرار تقسيم السودان، فإنها جميعها مقدمات لانتهاء عصر الدولة القومية الموحدة، وهي بيئة ملائمة لعمل حلف الناتو الذي يقدم إلي جانب القوة العسكرية "الأمن الناعم" للنهوض بالدول المنهارة.

والخلاصة هي أن تدخل الناتو في الأزمة الليبية ربما لن يكون الأخير من نوعه في المنطقة العربية، وقد يتكرر إذا ما توافرت بيئة مماثلة. وهو ما يتعين أن يؤخذ بعين الاعتبار من جانب صانع القرار العربي بشأن تأثير هذا التدخل في مجمل الأمن القومي العربي.

1- Panl Galiis، NATO and  Energy Security، GRS Report for Congerss، March 2006.

علي الرابط التالي  http://www.fas.org

2- انظر تصريح الأمين العام للحلف في صحيفة الوطن الكويتية، 27 يناير 8002.

3- نص الاتفاق منشور علي الرابط التالي: http://nouon.maktoobblog.com/.1605478

4- أثير ناظم عبد الواحد، الوطن العربي في استراتيجية حلف الناتو بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، رسالة ماجستير منشورة، معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، القاهرة 2008، ص ص29-03.

5- د. محمد حسون، الاستراتيجية التوسعية لحلف الناتو وأثرها علي الأمن القومي العربي، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 26، العدد الثاني 2010، ص943.

6- د. مصطفي علوي سيف، استراتيجية حلف شمال الأطلسي تجاه منطقة الخليج العربي، سلسلة دراسات استراتيجية، العدد 129، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 8002.

7- Steven Metz، Is Libya the End of NATO?، Global Times، 16 April 2011، www.realclearpolitics.com

8- انظر نصوص القرارات الثلاثة علي موقع منظمة الأمم المتحدة علي الرابط التالي: http://www.un.org/en/

وموقع الجامعة العربية علي الرابط التالي: http://www.arableagueonline.org/las/index.jsp

9- Michael W.Doyle، The Folly of Protection، Foreign  Affairs، March 20، 2011،

www.foreignaffairs.com/node/67503/talk

10- صحيفة البيان الإماراتية، 21 مايو 1102.

11- أندريس فوج راسموسن، الناتو والربيع العربي، صحيفة الشرق الأوسط، 3 يونيو 1102.

12- Paul Rogers، Libya's War، History's Shadow، OpenDemocracy، 24 March 2011:

www.opendemocracy.net/paul.../libyas-war-historys-shadow

13- Rolf Schwarz، Preventing State Failure: Apropsed agenda for NATO، in: Complex Operations:

NATO at war & on margins of war، Christopher M. Schnaubelt editor، NATO Defense College، July 2010

14- NATO in Libya: The Alliance between Emergency Help and Nation Building، NATO Defense College،

Rome، March 29، 2011

www.aicgs.org/documents/advisor/natolibya.0411pdf

15- Dr. Ashraf Kishk، NATO's two initiatives Towards the Mediterranean and Gulf states:

Achievements and Challenges، A lecture before the officers of NATO Defense College، Rome، April

15، 2010.

16- سلام الكواكبي، الجاليات العربية في أوروبا ومدي اندماجها في المشهد المدني والسياسي، مجلة شؤون عربية، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 141، عام 2011، ص011.

17- التصريح منشور في صحيفة الاتحاد الإماراتية، 2 أبريل 1102.

18- تصريحات الرئيس التشادي منشورة في صحيفة الشمس الليبية، 20 أبريل 1102.

19- أشرف محمد كشك، تطور الأمن الإقليمي الخليجي منذ عام 2003 .. دراسة في تأثير استراتيجية حلف الناتو، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عام 2009، جامعة القاهرة،  ص ص174-671.

20- Dr. Ashraf Kishk، The Istanbul Co-operation Initiative Agreement between NATO and the Gulf   

         Co-operation Council Countries: Obstacles and Propositions، NATO Defense College، Rome،

2009، p.42.

21- JAMES JOYNER، Back in the Saddle، Foreign Policy،  MAY 21، 2011،

www.backinthesaddle.com

22- أندريس فوج راسموسن، الناتو والربيع العربي، مرجع سابق.

23- Paul Rogers، op.cit.

24- Diana Johnstone، Another NATO Intervention? Libya: Is This Kosovo All Over Again?، Global

Research، March 8، 2011، www.globalresearch.ca/index.php?context=va&aid-

25- صحيفة القدس العربي، 25 أبريل 1102.

26- نتائج الاستطلاع منشورة في صحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 25 أبريل 1102.

27- وكالة الأنباء الفرنسية، 1 يونيو 1102.

28- رياض قهوجي، تأثيرات الأداء السيئ لحلف الناتو وإخفاقه في ليبيا، موقع الأمن والدفاع العربي، 10 مايو 2011، علي الرابط التالي: http://www.sdarabia.com.

29- صحيفة الأهرام، 21 مايو 1102.

30- NATO in Libya، Op.cit،

31- Florance Gaub، Building a new military: The NATO Training Mission.- Iraq، Nato Defense

College، Research Paper No67.، April، 2011.

http://www.nato.int/lisbon2010/strategic-concept-2010-eng.pdf    

32- زياد عقل، عسكرة الانتفاضة .. الفشل الداخلي والتدخل الخارجي في الجماهيرية الليبية، مجلة السياسة الدولية، العدد 184، أبريل 2011.

33- أندريس فوج راسموسن، الناتو والربيع العربي، مرجع سابق.

34- صحيفة الرياض، 6 يونيو2011.

35- التصريح منشور في صحيفة الوطن السورية، 5 يونيو 2011.

36- التصريح منشور في صحيفة الوطن السورية، 9 يونيو 2011.

37- د. حامد ربيع، نظرية الأمن القومي العربي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط، دار الموقف العربي، 1984، القاهرة، ص83.

38- د. أشرف محمد كشك، التدخل الأطلسي في ليبيا .. انتهاء الحدود بين الأمن الإقليمي والعالمي، صحيفة عمان العمانية، 12 أبريل 2011.

39- د. محمد حسون، الاستراتيجية التوسعية لحلف الناتو وأثرها علي الأمن القومي العربي، مرجع سابق.

40- صحيفة الأهرام، 20 مايو 2011.

41- د. أشرف محمد كشك، السياسات الجديدة لحلف الناتو ودلالاتها الإقليمية، صحيفة عمان العمانية، 12 يناير 2011.

42- Dr. Ashraf Kishk، Raegional Security Models Propsed for the Gulf Region (analysis of GCC  

Iran interactions) Gulf Researsh meeting، Cambride University 7-10 July، 2010.

 
43- التصريح منشور في صحيفة الأنباء الكويتية، 8 يونيو 2011.
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. أشرف محمد كشك

    د. أشرف محمد كشك

    ‮ ‬خبير في قضايا أمن الخليج العربي بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة‮. ‬