مقالات رأى

المقاومة وإشكالية العلاقة بين الثقافة والتعبئة: الحالة اللبنانية (2)

طباعة
في مثل سياق أقلمة العمل المقاوم ضد إسرائيل وحلفائها في العالم تسارع تفكك مؤسسات دولة التوافق والتحاصص المذهبي في لبنان، وتوسع التعارض بين مواقف زعامات المذاهب الأخرى المعارضة للمقاومة الشيعية، وذلك بحكم ارتباطها، هي أيضا، بمراجع إقليمية معارضة لمحور المقاومة الاقليمي. هكذا، لم تعُد ظاهرة أقلمة المقاومة نادرة في مواجهة عولمة التحالف المعادي لحقوق الشعوب في التحكم بمصائرها: فمقاومة الروس في منطقة محدودة شرق أوكرانيا تتمظهر فيها مواجهة عالمية باردة بين «الحلف الأطلسي» والاتحاد الروسي، تدفع إلى إعادة النظر بمعاهدات الحدّ من التهديدات النووية بين الطرفين.
 
لقد انعكس هذا التطور في تركيبة العوامل الاقليمية والدولية المؤثرة في نهج العمل المقاوم المشروع في الشرعات الدولية. وبات توازن القوى بين الحكومات الداعمة والمعارضة للعمل المقاوم، بالإضافة إلى توفر العوامل المحلية المرتبطة بمعتقدات الجماعة وبتحسسات عوامها للبذل من أجل فرض وجودها، يؤثران مجتمعين في اختيار شكل المقاومة. وان هذا الاختيار المتعدد الأطراف للمقاومة، يفرض مضمون التعبئة المحركة لجمهورها ويفرض إعلاما ملائما لتحصين إيمان هذا الجمهور بقداسة بذله في مواجهة التعبئة المضادة. وهو إعلام تقوده نخب لا تتقبل نقداً يتعارض مع تعبوية خطابها الموجّه لعوامها.
 
وهنا نجد أنفسنا قد وصلنا إلى عقدة المقارنة بين مقاومة متمذهبة تخلق حاضناتها في مجموعة من الدول الإسلامية المتنوعة مذهبياً، وهي مقاومة أسرع تعبئة وأعنف جهاداً دينياً يقترن بالشهادة والاستشهاد من جهة، وبين مقاومة وطنية تعددية يتوسع احتضانها داخل الأديان المختلفة تواجه العدو الصهيوني وتحالفاته النيوليبرالية بإسم حقوق الإنسان والشعوب، وهو عدو يهدف لعنصرة يهوديته فيغتصب أراضي المسلمين والمسيحيين في فلسطين لإقامة دولته الدينية القائمة على التمييز التعنصري. أجل إنه سؤال يدور حول اشكالية الاختيار بين ثقافتين للتعبئة في محاربة العدو:
 
ـ بين تعبئة جهادية متمذهبة صاعقة تتوجسُ من امتداداتِها الاقليميةِ بقيةُ المذاهب.
 
ـ وبين تعبئة وطنية متعلمنة قابلة للاستقطاب والتوسع داخل المذاهب وامتداداتها.
 
ففي السياق الذي توسعت فيه معارك المقاومة إلى خارج الحدود، انكفأت التعبئة الى حدود المذهب الحاضن لها. وأصبح إعلامها المتمذهب أعمق تواصلاً واستثارة لغالبية جماهير الطائفة الشيعية في الإقليم والعالم من الثقافة السياسية النقدية القائمة على حسابات وطنية دنيوية. وقد وفر هذا الإعلام فرص تواصل لا يمكن للمقاومتين اليسارية والقومية اللتين تفتقدان لامتدادات طائفية قابلة للتعبئة، أن تحظيا بها مهما زاد حجم التأييد الذي يأتيهما من العلمانيين في العالم. بعد هذا السؤال الصعب الذي سيظل يُطرح حول ثقافة المقاومة وهويتها في لبنان وحول العوامل الداخلية والاقليمية التي أثّرث في تبلور نهجها وتوسع ميادينها، نتساءل:
 
ـ هل هناك غير الثقافة النقدية لتمكين «المقاومة الإسلامية» من تجاوز مغريات واكلاف التعبئة التي توفرت لها الأجهزة البشرية وتكنولوجيات البث والاتصال العالية ومن تجاوز توجسات عوام الطوائف الأخرى؟ وهل يمكن للمقاومة ان تعطل تحريك هذه التوجسات من دون اعادة الشعائر والمناسبات المذهبية في الميادين كما في الجوامع والحُسينيّات، الى اسلامها اللبناني الذي سبق وتوطّنت في خصائصه فجذبت المذاهب الأخرى للمشاركة فيها؟
 
ـ وهل هناك غير الثقافة النقدية لانفتاح «المقاومة الإسلامية» وتواصلها مع الجماعات السياسية اللبنانية المعروفة تاريخيا بحرصها على مواجهة العدوانية الإسرائيلية، وذلك بهدف تعزيز الجبهة الداخلية التعددية والانتقال بالعمل المقاوم الذي لا يقتصر هدفه على تحرير المجتمع من الاحتلال فحسب، بل يقترن باهداف التحرير من التبعية والفقر المدقع والاقصاء الاجتماعي؟
 
هكذا، تتكامل جبهات المقاومة متوجهة إلى التناقض الأساس مع النيوليبرالية التي تنهب موارد العرب وأسواقهم وتدعم العدو الإسرائيلي. وبمثل هذا الفهم، تتجاوز المقاومة الحصرية المذهبية لتعبئتها، وهي حصرية يعتمدها نظام العدو في تعطيل أي معارضة جدية داخل المجتمع الإسرائيلي. والأخطر من ذلك أنها تعبئة يعتمدها امراء المذاهب العابرون للحدود في تحالفاتهم ضد اي مقاومة كانت.
 
نحن نعلم أن ثقافة المقاومة غالبا ما تكون ثقافة ايمانية تصل لدى جمهورها إلى حد الارتياب والاشتباه أحياناً كثيرة بمن يقدم على نقد بعض من خطابها أو بعض أشكال من انواع تعبئتها. ونعلم أيضاً أن تمذهب ثقافة المقاومة وشعائريتها المغالية داخل رأسمالها الرمزي يجعل منها كياناً يعلو على الثقافة النقدية ومثقفيها. ونُدرك ان الثقافة كعملية نقد وتحليل استراتيجي قلما تُحرّك العوام المتمذهبة وتجمهرها. ولكننا نُدرك ايضا أن تقُّبل النقد وممارسته في إعلام وخُطب المقاومة يرفعان من وعي دعمها في بيئتها الحاضنة حتى لا يبقى وعياً منزلاً، يضع الجهاد الديني في مواجهة جهاد ديني آخر. والتاريخ يعلمنا ان الجهادات الدينية المتواجهة لا تنتهي. إن عدم تقبل النقد الجدي الإيجابي يُبقي وعي الكثير من العوام المعبأ مقترنا بحوافز التنفع أو المكايدة لعصبيات لبنانية معارضة للمقاومة، خدمة لحلف نفطي نيوليبرالي، او يُبقى على الوعي المتملق القائم على الاستتار بالمألوف إلى أن يخلق الله ما لا نعلم.
 
هكذا، أصبحت المغالاة في المظاهر الثقافية التراثية لتشيُّع المقاومة تحركّ في مواجهتها مغالاة ثقافية تراثية تستثمرها تحالفات متمذهبة معارضة لـ «المقاومة الإسلامية» وعابرة للحدود مثلها. وقد ذهبت تعبئة العداء المتمذهب «للمقاومة الإسلامية» الى حدود سوّغت ظهور شبكات عملاء متعددة لإسرائيل، نبتت في بيئات اسلامية لتقوم بتفجيرات في الضواحي والأحياء القريبة من مواقع «حزب الله» داخل بيئته الحاضنة.
 
ونخلص إلى القول إن استهوان تعبئة وجمهرة عصبية المذهب وحصر فهم المقاومة بكونها حربا دينية فحسب، هو فهم يعتمده التعنصر الصهيو - نيوليبرالي أيضاً. وهو الفهم الأكثر خطرا على الاجتماع المتعدد طائفيا وعلى التنوع الثقافي وعلى وعي العوام في فهم تحرر السياسي والاجتماعي. فهل نغالي اذا قلنا ان الثقافة النقدية المنوّرة لدروب التحرير هي التي ترتقي بالشعوب من موروثاتها العصبوية ليس الى مرتبة التحرر من الاحتلال فحسب، بل الى مراتب التقدم التي ظلت شعوب عاشت ثورات مجيدة دون الارتقاء إليها، ومنها شعب الجزائر على سبيل المثال لا الحصر؟
 
------------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، السبت، 6/6/2015.
طباعة

تعريف الكاتب

أحمد بعلبكي