مقالات رأى

المفاوضات النووية: تأجيل المؤجل وتمديد الممدد

طباعة
المسألة النووية الإيرانية لم تولد في الأمس القريب ولا المفاوضات بشأنها . فالرئيس ريغان كان أول من فرض عقوبات على الدول والشركات التي تبيع لطهران معدات وأجهزة تستخدم في المجال النووي .وكل الرؤساء الأمريكيين التزموا حصار إيران سياسياً ونووياً واقتصادياً وتجارياً . أما المفاوضات، فبدأت عملياً في العام ،2002 عندما كشف معارضون إيرانيون عن أنشطة إيرانية مشبوهة تشي بوجود برنامج نووي عسكري . وبعد إنكار واتهامات وتهديدات وغيرها توجه وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى طهران، في العام ،3002 واتفقوا معها على أن تفتح أبواب مفاعلاتها أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مقابل دعمهم لقطاعها النووي السلمي . لكن موقف المحافظين الجدد في واشنطن، في عهد الرئيس بوش وفي ذروة غزوه للعراق، عطل الاتفاق الإيراني الأوروبي .
 
في العام 2005 وصل المتشدد أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية، معلناً فشل السياسة الانفتاحية التي قادها سلفه خاتمي ومفتتحاً سياسات شعبوية كان من المستحيل معها الحوار مع متهورين في البيت الأبيض . هؤلاء راحوا يمارسون كل الضغوط الممكنة على إيران مباشرة وعن طريق الحلفاء والوكالة الدولية ومجلس الأمن الذي أصدر قرارات بعقوبات اقتصادية . لكن في العام 2009 وصل أوباما إلى البيت الأبيض ليمد يديه إلى إيران ويبدأ قطيعة وعد بها مع سياسات سلفه . لكن إرادته الانفتاحية اصطدمت بعقبات كثيرة فباءت سياساته بالفشل في ولايته الأولى . وفي إيران كان يجب انتظار وصول حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية، في يونيو/حزيران 2013 كي تعود المفاوضات مع الغرب للانطلاق بسرعة ملفتة وبروحية جديدة، على خلفية عقوبات دولية بدأت تنتج مفاعيلها على كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
 
وبالفعل حققت المفاوضات هذه المرة تقدماً ملحوظاً لم تحققه في عشر سنوات ماضية . ووصل أمر التقارب الإيراني الأمريكي إلى درجة أن عدداً من أصدقاء وحلفاء واشنطن في المنطقة بدأوا يشعرون بالقلق على مستقبل التوازنات في المنطقة . فبعد أسابيع معدودة من وصوله إلى السلطة توصل روحاني إلى تفاهم مع الخمسة + واحد على أن تنتهي المفاوضات إلى اتفاق نهائي في غضون شهر يوليو/تموز 2014 . وقد حصل تقدم واضح في هذه المفاوضات رغم عدم التوصل إلى الاتفاق "التاريخي" المأمول، فتم تمديد المهلة إلى 24 نوفمبر/تشرين الثاني على خلفية أجواء تفاؤلية ووعود بنجاح وشيك .
 
كشف الطرفان الأمريكي والإيراني عن رغبة حقيقية بالتوصل إلى اتفاق يحتاج إليه كل من الرئيسين روحاني وأوباما في وجه المتشددين في الداخل . وتميزت المفاوضات هذه المرة، من جنيف إلى عُمان ثم فيينا، بتسارع وتيرة اللقاءات الثنائية، إذ اجتمع وزيرا الخارجية كيري وظريف سبع مرات متتالية ليخرج كل منهما في كل مرة مشيداً ب"التقدم الجوهري" المتحقق و"خطة العمل المشتركة" و"الفجوات التي تضيق" والاتفاق الذي بات قريباً . . إلخ . بدت المفاوضات وكأنها ثنائية بين طهران وواشنطن وفقط حول الملف النووي الإيراني، وفشلت في المحصلة في تبديد الخلافات "التقنية" التي بقيت قائمة حول مسألة تخصيب اليورانيوم حجماً ونسبةً وكيفية، ونوع أجهزة الطرد المركزي وعددها وتوقيت رفع العقوبات الدولية، بشكل متزامن مع توقيع الاتفاق النهائي أم بعد فترة للتأكد من احترام طهران للاتفاق،وما مصير قرارات العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن، لاسيما القرار 1992 الصادر في يونيو/حزيران 2010 المرفد بالفصل السابع والذي يطال مجمل العقوبات التي فرضت على إيران اقتصادياً ومالياً ونووياً وتسلحياً وغيرها . . إلخ .
 
لقد تبين بأن القسم الظاهر من جبل الجليد يخفي جزءاً مستوراً أكبر وأعقد . فالملف النووي مرتبط،شئنا ذلك أم أبينا،بملفات المنطقة المعقدة . وأمريكا ليست وحدها في الميدان، ففرنسا تحمل لواء منع الانتشار النووي وتزايد على الأمريكيين بفعالية، إذ تمكنت، في يونيو/حزيران الماضي من إعاقة اتفاق تم التوصل إليه، وهي مدعومة بموقف السعودية ودول الخليج العربي التي تشعر بأن واشنطن تدير لها الظهر . حتى روسيا نفسها حليفة إيران لا مصلحة لها أن تنهي هذه الأخيرة خلافها مع الغرب، والقائم منذ خمس وثلاثين عاماً، لتفتح أمامه أبواب العقود والمشاريع الضخمة وتبيع نفطها في السوق العالمي ما يسهم في انخفاض أسعاره المنخفضة أصلاً والتي تتسبب بأضرار مالية جسيمة لروسيا . أما الموقف "الإسرائيلي" فمعروف ولا حاجة إلى تعليق عليه سوى التذكير بفعاليته في أروقة القرار الأمريكي لاسيما الكونغرس الذي بات يسيطر عليه الجمهوريون . وبالمناسبة يقول الإيرانيون إن كيري أبلغ ظريف بأنه لا يضمن امتثال الكونغرس لرفع العقوبات، بل يضمن ما فرض منها بأمر رئاسي . وقد صدرت دعوات عديدة من نواب جمهوريين، وديمقراطيين أيضاً، للتصويت على عقوبات جديدة ضد إيران حالما يتسلم الكونغرس الجديد مهامه في يناير/كانون الثاني المقبل .
 
وهكذا، فالتأجيل الذي حصل يعمل لمصلحة إيران وليس أوباما، والتي سيكون أمامها سبعة أشهر إضافية ستستمر خلالها أجهزة الطرد المركزي بالعمل، على ما صرح الرئيس روحاني الذي أضاف "لم نتنازل، إذاً لم نفشل وسنواصل التفاوض" . ومن جهته، اعتبر المرشد خامنئي أن "أمريكا والدول الاستعمارية الأوروبية حاولت في المجال النووي أن تبذل كل ما في وسعها لتركيع الجمهورية الإسلامية، لكنها لم ولن تقدر على ذلك" . وإذا أضفنا إلى ذلك تصريحات قادة من الحرس الثوري حول نفوذهم في المنطقة، يبدو واضحاً أن المفاوض الإيراني، وإن فشل في رفع العقوبات، إلا أنه كسب المزيد من الوقت، إضافة إلى 700 مليون دولار شهرياً ستدفع لإيران من أرصدتها المجمدة في المصارف الغربية خلال الأشهر السبعة المقبلة .
في الانتظار لا شيء يدل على أن متغيرات جذرية ستحصل في الأفق المنظور تدفع في اتجاه اتفاق نهائي طال انتظاره . وعلى الأرجح أن يصبح تأجيل المؤجل وتمديد المفاوضات الممددة مخرجاً معتاداً لفشل لا يجرؤ أحد على الاعتراف به .
 
----------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 30/1/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

د. غسان العزي