لم يكن إنشاء منظمة الأمم المتحدة في 24 أكتوبر 1945، بعد التصديق على ميثاق سان فرانسيسكو من قبل الدول الخمس الدائمة (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، بريطانيا، فرنسا، والصين) وغالبية الدول الأخرى، تعبيرًا عن انتصار نهائي ومطلق لمبادئ القانون الدولي على منطق القوة. بل كان، في جوهره، محاولة عقلانية وبراجماتية لاحتواء تلك القوة داخل أطر قانونية ومؤسسية منظمة، تهدف إلى منع انفلاتها الكامل الذي أدى إلى كارثتي الحربين العالميتين الأولى والثانية. خرج العالم من رماد الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتها أكثر من 70 مليون إنسان، مثقلًا بإدراك مرير وعميق مفاده أن ترك العلاقات الدولية لمنطق السيادة الوطنية المطلقة، والتوازن التلقائي للقوى، والصراع غير المنضبط، يقود حتمًا إلى كوارث شاملة تهدد وجود البشرية ذاته.
ومع ذلك، لم تصل هذه القناعة التاريخية يومًا إلى حد الإيمان الساذج أو الفلسفة الطوباوية بإمكانية إلغاء الصراع جذريًا من جوهر السياسة الدولية، كما تخيل بعض المثاليين في عصبة الأمم سابقًا. بل اقتصرت على محاولة تنظيمه بشكل أكثر عقلانية، وتقليل كلفته الإنسانية والمادية والسياسية قدر الإمكان، من خلال إنشاء آليات جماعية لإدارة النزاعات ومنع التصعيد غير المدروس. من هنا، نشأت الأمم المتحدة بوصفها حلًا وسطًا دقيقًا ومعقدًا بين مثال أخلاقي طموح يستلهم مبادئ ويلسون الـ14 وإعلان حقوق الإنسان، وواقع سياسي صلب وقاسٍ تحكمه موازين القوة المتفاوتة بين الدول المنتصرة والمهزومة.
هذا التناقض التأسيسي، الذي تم التعايش معه نسبيًا طويلًا في ظل الاستقطاب الثنائي خلال الحرب الباردة (1947-1991)، ثم في مرحلة الهيمنة الأحادية الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عاد اليوم ليطفو على السطح بقوة غير مسبوقة، مع تصاعد الصراعات الدولية المتعددة شديدة التعقيد والتشابك (غزة، أوكرانيا، إسرائيل-إيران، أزمات السودان وليبيا واليمن)، وتآكل الإجماع العالمي حول القواعد الحاكمة للنظام الدولي الليبرالي الذي بني بعد 1945.
لم تعد الأزمة محصورة في فشل المنظمة في تسوية نزاع بعينه أو إخفاق في مهمة حفظ سلام محددة، بل باتت تعكس مأزقًا بنيويًا أعمق وأكثر تعقيدًا يتعلق بقدرة القانون الدولي ذاته على أداء وظيفته التنظيمية في عالم يشهد تحولات جذرية في توزيع القوة (صعود الصين، روسيا، الهند، البرازيل، مصر، جنوب أفريقيا، نيجيريا)، وتراجعًا ملحوظًا في الثقة بالمؤسسات متعددة الأطراف من قبل قطاعات واسعة في الجنوب العالمي.
في هذا السياق، تبرز مبادرة “UN80” التي أطلقها الأمين العام أنطونيو جوتيريش في مارس 2025 كمحاولة طموحة لإعادة هيكلة داخلية شاملة، تركز على تحسين الكفاءة الإدارية والتكامل في مواجهة التحديات العالمية المعقدة مثل تغير المناخ، الذكاء الاصطناعي، والأمن الغذائي، وسط تضييق الموارد المالية بسبب تأخر مساهمات بعض الدول الكبرى. غير أن هذه المبادرة، رغم أهميتها، تبقى إدارية وبيروقراطية في جوهرها، ولا تمس الجذور السياسية الحقيقية للأزمة، مثل امتياز حق النقض (الفيتو) للدول الخمس الدائمة، أو غياب تمثيل عادل للدول الصاعدة والجنوب العالمي في مجلس الأمن.
ينطلق هذا التحليل من أطروحة مركزية مفادها أن الأمم المتحدة لا تعاني فقط من أزمة أداء مؤقتة أو قصور في آليات التنفيذ، بل من أزمة شرعية وفعالية عميقة ناجمة عن انفصال متزايد ومقلق بين القواعد القانونية المعلنة في الميثاق والقرارات، وممارسات القوة الفعلية على الأرض من قبل الدول الكبرى. ومن ثم، فإن أي نقاش جاد ومسؤول حول إصلاح المنظمة لا يمكن فصله عن تفكيك البنية السياسية التاريخية التي أنتجتها في 1945، ولا عن فهم التحولات العميقة والمتسارعة في طبيعة الصراع الدولي المعاصر، الذي أصبح أكثر تعقيدًا وتعددية مع صعود قوى إقليمية جديدة، انتشار التكنولوجيا المدمرة، وتآكل الثقة في النظام الغربي-المركزي.
يعتمد هذا التحليل الشامل على مقاربة واقعية نقدية (critical realism) ترى أن القانون الدولي لا يعمل أبدًا في فراغ سياسي أو أخلاقي محايد، ولا يمتلك فاعلية ذاتية مستقلة تمامًا عن علاقات القوة السائدة في النظام الدولي. الواقعية الكلاسيكية، كما صاغها هانز مورجنثاو في كتابه “السياسة بين الأمم” (1948)، شددت على أن السياسة الدولية هي في الأساس مجال صراع دائم على المصالح الوطنية والقوة، وأن القواعد القانونية لا تصبح ملزمة فعليًا إلا حين تتقاطع مع مصالح القوى القادرة على فرضها أو الحفاظ عليها بالقوة إذا لزم الأمر. في المقابل، سعت الليبرالية المؤسسية، كما طورها روبرت كيوهان وجوزيف ناي في أعمال مثل “القوة والاعتماد المتبادل” (1977)، إلى بناء نظام دولي قائم على القواعد والمؤسسات المتعددة الأطراف، يُقيَّد فيه انفراد القوة عبر آليات القانون الدولي، والتجارة المتبادلة، والتعددية الديمقراطية.
غير أن التجربة التاريخية العملية على مدى الثمانين عامًا الماضية كشفت بوضوح حدود هذين النهجين النظريين وتناقضاتهما الداخلية: الشرعية القانونية، حين تنفصل تمامًا عن القدرة الفعلية على الإلزام والتنفيذ، تتحول تدريجيًا إلى خطاب أخلاقي جوفاء بلا تأثير حقيقي على السلوك الدولي اليومي. وهنا تتجلى الأزمة المعاصرة للنظام الدولي الليبرالي الذي بني بعد الحرب، فالأمم المتحدة تمتلك شرعية رمزية واسعة النطاق، مستمدة من عضوية 193 دولة وتمثيلها النظري للمجتمع الدولي بأكمله، لكنها تفتقر في كثير من الحالات الحرجة إلى أدوات التنفيذ الفعالة والمستقلة. أما القوى الخمس الكبرى، فتمتلك أدوات الفعل والإكراه العسكري والاقتصادي، لكنها تتعامل مع الشرعية الدولية بانتقائية واضحة وممنهجة، تستخدمها كغطاء عندما تخدم مصالحها الوطنية، وتتجاهلها أو تعطلها عندما تعيق تلك المصالح.
هذا التناقض البنيوي يفضي إلى سؤال نظري جوهري ومستمر: هل القانون الدولي أداة حقيقية لتحقيق العدالة الشاملة والمساواة بين الدول، أم إطار تنظيمي مرن لإدارة الهيمنة وتوزيع النفوذ بين القوى الكبرى؟الواقع العملي على مدى عقود يشير بوضوح إلى أن القانون الدولي كثيرًا ما يُستخدم بوصفه آلية لتنظيم النفوذ وتكريسه لا لتقييده جذريًا، ما يفسر تصاعد النقد الموجه لمنظومة الأمم المتحدة، خاصة من قبل دول الجنوب العالمي والقوى الصاعدة مثل أعضاء مجموعة بريكس الموسعة، والتي انتقدت في قممها الأخيرة في كازان (أكتوبر 2024) وفي 2025 الهيمنة الغربية على المؤسسات الدولية، مطالبة بإصلاح جذري يعكس التغيرات في موازين القوة العالمية.
لعل ذلك ما تحاول الأمم المتحدة تنفيذه مع استمرار تنفيذ مبادرة UN80التي حددت ثلاثة مسارات رئيسية (تحديد الكفاءات الأساسية، مراجعة تنفيذ الولايات الوطنية، وإعادة هيكلة بنيوية شاملة)، حيث يُقترح دمج بعض الوكالات المتداخلة، تقليص عدد التقارير البيروقراطية، وإعادة توزيع الموظفين لتحسين الاستجابة للأزمات. لكن هذه الإصلاحات تبقى محدودة النطاق، ولا تمس بشكل مباشر امتيازات الدول الدائمة أو هيكل مجلس الأمن.
الأمم المتحدة كمنتج تاريخي لتوازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية
لم تُصمم الأمم المتحدة، في ميثاقها الذي وقّع في سان فرانسيسكو عام 1945، كسلطة فوقية تتجاوز سيادة الدول الأعضاء، بل كإطار توافقي يعكس بدقة ميزان القوة السائد في نهاية الحرب العالمية الثانية. كان المنتصرون الخمسة – الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي (روسيا اليوم)، بريطانيا، فرنسا، والصين – يدركون أن أي نظام دولي جديد يجب أن يحتوي خلافاتهم المحتملة داخل المؤسسة، لا خارجها. لذا، جاء منح حق النقض (الفيتو) للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن اعترافًا صريحًا وغير خفي بعدم المساواة في القوة، ومحاولة لاحتواء هذا الخلل داخل إطار واحد يمنع عودة الصدامات الكبرى التي أدت إلى الحرب.
كان الهدف الأساسي، كما يوضح المؤرخون مثل ستيفن شليزينجر في كتابه “Act of Creation”، هو ضمان مشاركة القوى الكبرى في النظام الجديد، حتى لو كان ذلك على حساب المساواة. غير أن ما كان يُفترض أن يكون أداة للحفاظ على التوازن تحول، مع مرور الزمن، إلى مصدر شلل مؤسسي مزمن، خاصة مع تصاعد الاستقطاب. على سبيل المثال، خلال الحرب الباردة، استخدم الاتحاد السوفييتي الفيتو أكثر من 100 مرة، والولايات المتحدة أكثر من 70 مرة، مما أعاق عمل المجلس في قضايا مثل كوريا والمجر وفيتنام.
في السنوات الأخيرة، وخاصة من 2022-2025، شهدنا استخدامًا مكثفًا للفيتو يعكس الاستقطاب الحالي. الولايات المتحدة استخدمت الفيتو عدة مرات لمنع قرارات تطالب بوقف إطلاق نار فوري في غزة، بينما استخدمت روسيا والصين الفيتو لمنع إدانة أفعال روسيا في أوكرانيا أو قضايا أخرى. هذا الاستخدام السياسي المكثف أفرغ مفهوم “الأمن الجماعي” الوارد في الفصل السابع من الميثاق من مضمونه الحقيقي، وجعل مجلس الأمن ساحة لتكريس الاستقطاب بدلاً من احتوائه، مما أضعف الثقة في النظام الدولي ككل ودفع دول الجنوب العالمي إلى البحث عن بدائل مثل توسيع بريكس.
بدأت إرهاصات ذلك مع نهاية الحرب الباردة عام 1991، التي شكلت لحظة مفصلية بدا فيها أن الأمم المتحدة قد تستعيد دورًا أكثر فاعلية مع تراجع الاستقطاب الثنائي. في التسعينيات، شهد المجلس زيادة في التفويضات لحفظ السلام، كما في الصومال والبوسنة ورواندا، وبدا أن غياب التوازن السابق سيؤدي إلى تعزيز دور القانون الدولي. لكن هذا التفاؤل تبدد سريعًا، إذ أدى غياب المنافس الاستراتيجي إلى إطلاق يد القوة المهيمنة – الولايات المتحدة – فأصبحت المنظمة، في كثير من الأحيان، أداة لإضفاء الشرعية على تدخلات أحادية، كما في غزو العراق عام 2003 الذي تجاوز المجلس تمامًا.
أسست هذه المرحلة ما يُعرف بـ”أزمة التوقعات”، حيث ارتفع سقف الدور المنتظر من الأمم المتحدة مع انتشار الليبرالية الدولية، بينما تراجعت قدرتها الفعلية على الفعل المستقل. في سبتمبر 2024، وعد “ميثاق المستقبل” (Pact for the Future) في قمة المستقبل بإصلاحات شاملة في السلام والأمن، التنمية المستدامة، والحوكمة الرقمية. ومع ذلك، في ديسمبر 2025، يواجه تنفيذه عقبات كبيرة مع استمرار الشلل في مجلس الأمن، وتصاعد الانتقادات من بريكس لعدم تمثيل الجنوب بشكل عادل، مما يعكس انتقال العالم إلى مرحلة “السيولة الاستراتيجية” حيث تتعدد القوى وتتآكل الهيمنة الأحادية.
القانون الدولي كأداة صراع: التسييس والانتقائية
لم يعد القانون الدولي، كما تجلى في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، إطارًا محايدًا لإدارة النزاعات، بل أصبح ساحة صراع بحد ذاتها. تُفعَّل قواعد معينة في سياقات تخدم مصالح القوى الكبرى، بينما تُهمش أو تُعاد تفسيرها في سياقات أخرى، وفق حسابات سياسية بحتة. هذا التسييس الوظيفي حوّل الشرعية الدولية إلى مورد سياسي يُستخدم لتعزيز مواقف معينة ونزع الشرعية عن خصوم، كما في استخدام “مسؤولية الحماية” في ليبيا 2011 مقابل تجاهلها في حالات أخرى.
يتجلى ذلك بوضوح في تآكل مفهوم السيادة الوطنية، الذي لم يعد مبدأً متساويًا بين الدول كما نص عليه الميثاق، بل حقًا مرنًا يُحترم حين يخدم مصالح الكبرى، ويُخترق تحت ذرائع إنسانية أو أمنية. في 2025، انتقدت دول بريكس، خاصة في قمة ريو دي جانيرو، هذه المعايير المزدوجة، معتبرة أن القانون الدولي يُطبق بشكل انتقائي: سريع ضد الضعفاء، وبطيء أو معدوم ضد القوى الكبرى أو حلفائها، مما يعزز الدعوات لإصلاح جذري.
من هنا، تُعد الصراعات المعاصرة اختبارات حقيقية ومباشرة لقدرة النظام الدولي على الصمود أمام التحديات المتزايدة، وتكشف بوضوح حدود القانون الدولي أمام منطق القوة الخام والمصالح الوطنية الضيقة. في عالم متعدد الأقطاب يشهد تصاعد الاستقطاب بين الغرب والقوى الصاعدة، أصبحت هذه الصراعات مرآة تعكس التناقضات البنيوية في منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث يُعطل حق النقض (الفيتو) التنفيذ الفعال للقرارات، ويُستخدم بانتقائية لحماية الحلفاء، مما يرسخ صورة نظام دولي غير عادل وغير قادر على فرض العدالة الشاملة. هذه الصراعات لا تقتصر على الخسائر الإنسانية الهائلة، بل تمتد إلى تآكل الثقة في المؤسسات الدولية، وتعزيز الدعوات لإصلاح جذري أو بدائل إقليمية مثل تلك التي تقترحها مجموعة بريكس.
الحالة الفلسطينية (غزة): يُعد الصراع في غزة أبرز مثال على التناقض البنيوي في النظام الدولي، حيث تتراكم القرارات الدولية التي تؤكد عدم شرعية الاحتلال والانتهاكات، لكنها تبقى حبرًا على ورق بسبب الفيتو الأمريكي المتكرر. في 2024-2025، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو أكثر من ست مرات لمنع قرارات تطالب بوقف إطلاق نار فوري أو إدانة الانتهاكات الإسرائيلية. رغم دخول وقف إطلاق نار هش حيز التنفيذ في أكتوبر 2025 بوساطة أمريكية-قطرية-مصرية، يظل الوضع هشًا جدًا في ديسمبر 2025، مع استمرار الانتهاكات الإسرائيلية التي أسفرت عن مقتل مئات الفلسطينيين، وتدمير واسع للبنية التحتية، وأزمة إنسانية حادة تشمل نقص الغذاء والدواء والمأوى. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 70% من المباني في غزة تضررت أو دمرت، وأن آلاف الخيام غمرتها الأمطار الشتوية، مما يفاقم معاناة النازحين. هذا الوضع يرسخ صورة قانون دولي “بلا أسنان”، حيث يُعامل الاحتلال كأمر واقع محمي سياسيًا، بينما يُدان الآخرون بسرعة.
غزو العراق 2003: يبقى هذا الغزو نقطة انكسار تاريخية في مصداقية النظام الدولي، حيث تجاوزت الولايات المتحدة وبريطانيا مجلس الأمن تمامًا، مستندتين إلى ادعاءات كاذبة عن أسلحة دمار شامل، مما أدى إلى احتلال طويل الأمد وفوضى إقليمية أنجبت تنظيمات إرهابية مثل داعش. هذا التجاوز قوض فكرة منع الحروب الاستباقية، وأظهر كيف يمكن للقوى الكبرى فرض إرادتها خارج الإطار الدولي.
ليبيا: يُظهر تسييس مفهوم “مسؤولية الحماية” (R2P) في التدخل عام 2011 كيف يمكن تحويل مبادئ إنسانية إلى أدوات لتغيير الأنظمة، مما أدى إلى فوضى مستمرة حتى 2025، مع انقسام البلاد بين حكومات متنافسة وميليشيات مسلحة.
أوكرانيا: في ديسمبر 2025، تستمر الحرب مع تقدم روسي بطيء ولكنه مكلف، وخسائر هائلة على الجانبين، وسط مفاوضات أمريكية-روسية محتملة. شُل مجلس الأمن بفيتو روسي متكرر، واقتصر الدور الأممي على إدانات رمزية، مما يعكس عجز النظام أمام صراعات بين قوى كبرى.
هذه الصراعات جميعها تكشف حدود النظام الدولي أمام صراعات تشمل قوى كبرى أو حلفاءها، حيث يصبح القانون أداة انتقائية لا ملزمة.
العقوبات، العدالة الدولية والإعلام: أدوات مكملة للصراع
تحولت العقوبات الدولية، التي تُفرض عادة تحت مظلة مجلس الأمن أو بشكل أحادي من قبل دول كبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من أداة قانونية تهدف إلى تغيير سلوك الدول المستهدفة إلى آلية ضغط جماعي تُلحق أضرارًا واسعة وغير متناسبة بالمجتمعات المدنية، دون أن تحقق غالبًا تغييرًا جذريًا في سياسات النخب الحاكمة. هذا التحول يثير انتقادات متزايدة بأن العقوبات غير فعالة في أهدافها السياسية، بل تزيد من معاناة الضعفاء والفقراء، مما يجعلها أشبه بـ”عقاب جماعي” يتعارض مع مبادئ القانون الدولي الإنساني. في ديسمبر 2025، أظهرت دراسات وتقارير صادرة عن منظمات مثل برنامج الأغذية العالمي (WFP) ومنظمة الصحة العالمية أن العقوبات تساهم في تفاقم انعدام الأمن الغذائي والأزمات الصحية، خاصة في دول مثل إيران وسوريا وفنزويلا وكوريا الشمالية.
أما المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، التي أُنشئت عام 2002 لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة، فتواجه انتقادات حادة ومستمرة بالانتقائية والتحيز، حيث تركز تحقيقاتها بشكل أساسي على دول أفريقية وضعيفة (مثل قضايا في ليبيا والسودان وأوغندا وكينيا)، بينما تتجنب أو تتأخر في التعامل مع انتهاكات مزعومة من قبل قوى كبرى أو حلفائها. هذا التحيز أدى إلى اتهامات بأن المحكمة أداة “استعمارية جديدة” تخدم مصالح الغرب، مما دفع دولًا أفريقية عدة إلى التهديد بالانسحاب من نظام روما. في 2025، بلغت الانتقادات ذروتها مع فرض الولايات المتحدة عقوبات متكررة على قضاة ومدعين في المحكمة بسبب تحقيقاتها في جرائم مزعومة في غزة وأفغانستان. في ديسمبر 2025، أعلنت إدارة ترامب عقوبات على قاضيين إضافيين (غوتشا لوردكيبانيدزه من جورجيا وإردينيبالسورين دامدين من منغوليا) لمشاركتهما في رفض طعن إسرائيلي ضد التحقيق في غزة، مما اعتبرته واشنطن “استهدافًا غير شرعي” لإسرائيل. سبق ذلك عقوبات على قضاة آخرين في يونيو وأغسطس 2025، وكذلك على منظمات حقوقية فلسطينية تدعم التحقيق. هذه الإجراءات أثارت إدانات من خبراء الأمم المتحدة، الذين وصفوها بـ”هجوم صارخ على استقلالية المحكمة”، ومن دول بريكس والجنوب العالمي، التي رأت فيها دليلاً على معايير مزدوجة تحمي القوى الكبرى وحلفاءها.
وفي الوقت نفسه، يلعب الإعلام الدولي، خاصة الغربي الرئيسي (مثل CNN، BBC، New York Times)، دورًا محوريًا في صناعة الشرعية الانتقائية، من خلال تضخيم أزمات معينة وتجاهل أو تهميش أخرى، مما يحول الرأي العام إلى أداة غير مباشرة في الصراعات. دراسات في 2025 أظهرت تفاوتًا صارخًا في تغطية الصراع في غزة مقارنة بأوكرانيا: استخدام لغة عاطفية أكثر للضحايا الإسرائيليين أو الأوكرانيين، مقابل تصوير الفلسطينيين كأرقام إحصائية أو “ضحايا غامضين” دون ذكر الجاني صراحة.
الأمم المتحدة كضرورة ناقصة
واقع الأمر، تبقى الأمم المتحدة، في جوهرها، ضرورة ناقصة في عالم مضطرب؛ ضرورية لأنها الإطار الوحيد المتاح الذي يجمع 193 دولة تحت سقف واحد، ويوفر قنوات حوار متعددة الأطراف قد تمنع، في أحيان نادرة، الانزلاق نحو فوضى شاملة أو حرب عالمية ثالثة، ولكنها في المقابل ناقصة لأنها عاجزة، في بنيتها الحالية، عن فرض عدالة متساوية أو إلزام القوى الكبرى بقواعد مشتركة، بسبب الاستقطاب الشديد، والفيتو الانتقائي، والمعايير المزدوجة في تطبيق القانون والعقوبات والإعلام.
هذا النقص ليس عرضيًا أو مؤقتًا، بل هو نتيجة مباشرة للتناقض التأسيسي الذي ولدت به المنظمة عام 1945؛ محاولة احتواء منطق القوة داخل أطر قانونية دون إلغائه تمامًا.
هنا، يبرز السؤال الجوهري: هل تستطيع المنظمة التكيف مع الواقع الجديد عبر مبادرات مثل UN80وميثاق المستقبل، أم ستفقد شرعيتها تدريجيًا أمام بدائل إقليمية أو متعددة الأقطاب (مثل توسيع بريكس، أو منظمات إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي أو آسيان)؟
الإجابة ليست حتمية، بل تعتمد على إرادة سياسية جماعية نادرة. فبين وهم قانون دولي بلا قوة إلزامية فعلية، وشريعة قوة خام بلا قيود قانونية أو أخلاقية، تظل الأمم المتحدة ساحة صراع مفتوحة بين الواقعية السياسية القاسية – التي تقبل عدم المساواة كأمر واقع –، وطموح العدالة الدولية الذي يسعى لمساواة حقيقية بين الدول، مهما كانت قوتها. هذا الصراع لن ينتهي قريبًا، لكنه يحدد مستقبل النظام الدولي: إما إصلاح تدريجي يعيد بعض الشرعية، أو تآكل مستمر يفتح الباب لعالم أكثر فوضى وانقسامًا.
لذا، لكي تبقى الأمم المتحدة، يجب الانتقال من الخطابات الرمزية إلى إجراءات ملموسة، حتى لو كانت تدريجية. وهو الأمر الذي يمكن أن يتحقق من خلال التوصيات الواقعية التالية، مقسمة حسب المدى الزمني والجهة المعنية:
1. على المدى القصير (2026-2030):إصلاحات إدارية وآليات عملية دون تغيير الميثاق
• تعزيز تنفيذ مبادرة UN80بشكل كامل: دمج الوكالات المتداخلة (مثل تلك المعنية بالتنمية والإغاثة)، تقليص البيروقراطية، وإنشاء “وحدة استجابة سريعة” للأزمات الإنسانية تكون مستقلة نسبيًا عن مجلس الأمن.
• تقييد الفيتو في حالات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية: اعتماد قرار من الجمعية العامة (عبر آلية “الاتحاد من أجل السلام” Resolution 377) يحد من استخدام الفيتو في هذه الحالات فقط، كما اقترحت فرنسا والمكسيك سابقًا.
• إنشاء آلية تمويل مستدامة: فرض رسوم رمزية على المعاملات المالية الدولية الكبرى أو التجارة في الأسلحة لتغطية عجز الميزانية، بدلاً من الاعتماد على مساهمات الدول الكبرى التي تستخدمها كورقة ضغط.
2. على المدى المتوسط (2030-2040):إصلاحات سياسية جزئية
• توسيع مجلس الأمن جزئيًا، مع إضافة 6-10 أعضاء دائمين جدد بدون فيتو (مثل الهند، البرازيل، ألمانيا، اليابان، جنوب أفريقيا، نيجيريا، مصر)، مع زيادة الأعضاء غير الدائمين لضمان تمثيل أفضل للجنوب العالمي.
• تعزيز دور الجمعية العامة، من خلال منحها صلاحيات أكبر في حال شلل مجلس الأمن، مثل الموافقة على عمليات حفظ السلام أو فرض عقوبات محدودة بأغلبية الثلثين.
• إصلاح نظام العقوبات، عبر إنشاء لجنة مستقلة لتقييم التأثير الإنساني للعقوبات قبل وبعد فرضها، مع آلية تعويض تلقائية للمتضررين المدنيين.
3. على المدى الطويل: رؤية جذرية
• مراجعة شاملة للميثاق بحلول 2045 (الذكرى المئوية): عقد مؤتمر دولي مشابه لسان فرانسيسكو لإعادة صياغة هيكل مجلس الأمن وآليات اتخاذ القرار، مع النظر في نموذج “فيتو محدود زمنيًا” أو “تصويت بأغلبية مزدوجة” (أغلبية في المجلس + أغلبية إقليمية).
• تعزيز البدائل التكميلية: دعم منظمات إقليمية قوية (الاتحاد الأفريقي، آسيان، منظمة الدول الأمريكية) كشركاء للأمم المتحدة، مع منحها دورًا أكبر في حل النزاعات الإقليمية.
• بناء تحالف “الوسط العالمي”: تشجيع دول متوسطة القوة (كندا، إندونيسيا، المكسيك، تركيا، كوريا الجنوبية) على تشكيل كتلة ضغط للإصلاح، بعيدًا عن الاستقطاب الأمريكي-الصيني-الروسي.
4. أدوار الجنوب العالمي وبريكس
• عدم الانسحاب من الأمم المتحدة، بل تعزيز التنسيق داخلها: استخدام الجمعية العامة والمجموعات الإقليمية لتمرير قرارات رمزية قوية، كما فعلت في قضية غزة.
• بناء بدائل موازية دون مواجهة مباشرة: توسيع مؤسسات بريكس (بنك التنمية الجديد، نظام دفع بديل عن سويفت) كأدوات اقتصادية تحمي من العقوبات الانتقائية.
• الاستثمار في “الدبلوماسية العامة”: دعم إعلام متعدد اللغات ومنصات رقمية لمواجهة الهيمنة الإعلامية الغربية في صناعة السرديات.
في النهاية، إنقاذ الأمم المتحدة ليس مجرد مسألة إصلاح مؤسسي، بل اختبار لقدرة البشرية على تجاوز منطق القوة الخام نحو نظام أكثر عدلاً. إذا فشلت في التكيف، فإن العالم لن يعود إلى ما قبل 1945 فحسب، بل قد يدخل عصرًا أكثر خطورة يغلب فيه القوي دون قيود. لكن إذا نجحت، ولو جزئيًا، فستظل الضرورة الناقصة أفضل من غياب أي ضرورة على الإطلاق.
نقلا عن جريدة الجمهورية 26 ديسمبر 2025.