في خضم التحولات الجيوسياسية العاصفة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط، يبرز في العمق الإسرائيلي هاجس وجودي يتجاوز في خطورته التهديدات الأمنية التقليدية، ليمس الجذور البنيوية لاستمرار "المشروع الصهيوني" برمته. هذا الهاجس، الذي بات يُعرف في الأدبيات السياسية والإعلامية ومراكز التفكير في تل أبيب بـ "لعنة العقد الثامن" (The Curse of the Eighth Decade)، لم يعد مجرد استعارة تاريخية عابرة أو نبوءة دينية هامشية تقتصر على الحلقات الحاخامية الضيقة، بل تحول إلى مادة للتحليل الاستراتيجي وتوجيه السياسات على لسان أرفع القادة السياسيين والعسكريين في الكيان. إن البحث المعمق في هذا الأمر يتطلب تفكيكا دقيقا ومجهريا للعوامل الداخلية التي تنخر في جسد الكيان، بدءا من التصدع الاجتماعي الهوياتي العمودي، مرورا بتآكل عقيدة "العقيدة الأمنية الإسرائيلية" التي شكلت لسنوات طويلة الركيزة الجامعة لمكونات المجتمع، وصولا إلى الاستنزاف الاقتصادي البنيوي والديمغرافيا المتفجرة التي تعيد تشكيل وجه إسرائيل.
يحاول هذا التقرير التحليلي تقديم مسح استقصائي للأدبيات الإسرائيلية الداخلية، وتصريحات صناع القرار، وتقارير مراكز التفكير الاستراتيجي المرموقة، مثل معهد دراسات الأمن القومي (INSS) والمعهد الإسرائيلي للديمقراطية (IDI)، لرسم خريطة طريق لصور التآكل الداخلي الذي قد يؤدي، وفقا للمعطيات الراهنة والأدلة الموثقة، إلى تحقق المخاوف التاريخية من عدم قدرة إسرائيل على تجاوز عتبة الثمانين عاما. إن التزامن غير المسبوق بين أزمة قضائية دستورية شرخت المجتمع، وحرب استنزاف متعددة الجبهات بلا أفق سياسي، وانهيار في العقد الاجتماعي، يضع إسرائيل أمام اختبار تاريخي قد يكون الأصعب ربما منذ عهد الممالك القديمة.
لمحة تاريخية:
تتغذى المخاوف الإسرائيلية المعاصرة من سردية تاريخية متجذرة في الوعي الجمعي اليهودي، مفادها أن الكيانات السيادية اليهودية المستقلة لم تعمر طويلا عبر التاريخ، وأنها تحمل في داخلها بذور فنائها بمجرد الاقتراب من العقد الثامن. يشير المؤرخون والسياسيون الإسرائيليون بقلق بالغ إلى فترتين سابقتين للممالك اليهودية في فلسطين التاريخية: الفترة الأولى هي مملكة داوود وسليمان الموحدة، والفترة الثانية هي مملكة الحشمونائيم. في كلتا الحالتين التاريخيتين، بدأ التفكك والانهيار يلوح في الأفق مع الاقتراب من العقد الثامن من عمر الممالك القديمة.
في الحالة الأولى، انقسمت المملكة الموحدة بعد حكم النبي سليمان(الذي حكم 40 عاما بعد حكم النبي داوود لـ 40 عاما) إلى مملكتين متناحرتين: "مملكة يهودا" في الجنوب و"مملكة إسرائيل" في الشمال، مما سهل القضاء عليهما لاحقا من قبل القوى الإمبراطورية الخارجية (الآشوريين والبابليين). أما في الحالة الثانية، فقد دمرت مملكة الحشمونائيم، التي تأسست بعد ثورة المكابيين، نتيجة للصراع الداخلي والحرب الأهلية بين الأخوين أرستوبولوس وهيركانوس، مما استدعى التدخل الروماني الذي أنهى حكم المملكة اليهودية في عام 63 قبل الميلاد، أي أيضا في العقد الثامن من عمر المملكة. هذه السوابق التاريخية ليست مجرد دروس في كتب التاريخ بالنسبة للإسرائيليين، بل هي "صدمة جينية" وعقدة تاريخية تعيد إنتاج نفسها في الخطاب السياسي الإسرائيلي المعاصر.
تصريحات القادة الإسرائيليين والاعتراف بالمأزق الوجودي:
لم تكن هذه المخاوف وليدة خيال المعارضين السياسيين أو المبالغات الصحفية، بل جاءت موثقة على ألسنة رؤساء وزراء سابقين وحاليين لإسرائيل، مما يمنحها وزنا استراتيجيا كبيرا:
إيهود باراك:كان رئيس الوزراء الأسبق ووزير الأمن إيهود باراك الأكثر وضوحا وجرأة في التعبير عن هذا القلق الوجودي. في مقال تحليلي نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، حذر باراك من أن "التاريخ اليهودي لم يشهد مملكة استمرت لأكثر من 80 عاما إلا في فترتين، وكلاهما بدأتا بالتفكك في العقد الثامن". وأشار باراك بوضوح إلى أن الخطر ليس خارجيا بالأساس، بل داخلي، نابع من "الكراهية المجانية" والانقسام بين القبائل والطوائف اليهودية.
بنيامين نتنياهو:في مفارقة لافتة، وظف بنيامين نتنياهو، الزعيم الأطول بقاءً في السلطة، هذه السردية لخدمة أغراضه السياسية. في حملته الانتخابية لعام 2020، ادعى نتنياهو أن وجوده في السلطة هو الضمان الوحيد لتجاوز إسرائيل لعقدها الثامن بسلام، مشيرا إلى أن التاريخ اليهودي لم يمنحهم مملكة يهودية استمرت طويلا، وأنه يسعى لكسر هذه اللعنة عبر القيادة القوية. هذا التوظيف السياسي يؤكد عمق تغلغل الفكرة في عقلية الناخب الإسرائيلي.
نفتالي بينيت:رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت حذر بدوره في رسالة مفتوحة للإسرائيليين من أن إسرائيل تقف أمام اختبار وجودي، مشيرا إلى أن الانقسامات الداخلية هي التي أسقطت الممالك السابقة، وأن "إسرائيل الثالثة" تواجه خطر التفكك والزوال بسبب الاستقطاب السياسي الحاد الذي يمنع تشكيل إجماع قومي.
البعد الديني والأسطوري: مصدر القلق الإسرائيلي:
على الرغم من الطابع العلماني لإسرائيل ظاهريا ومؤسساتيا، إلا أن البعد الديني يلعب دورا محوريا وغير مرئي في تشكيل الوعي الجمعي بالخطر. النبوءات التوراتية وتفسيرات الحاخامات حول أسباب سقوط "الهيكل الأول" و"الهيكل الثاني" تتقاطع اليوم بشكل مع تحليلات الخبراء العلمانيين حول مخاطر الحرب الأهلية. هذا التقاطع يخلق حالة مرضية من "القلق العام" تجعل المجتمع الإسرائيلي شديد الحساسية والهشاشة تجاه أي أزمة داخلية، معتبرا إياها نذيرا بالنهاية المحتومة. إن مصطلحات مثل "خراب الهيكل الثالث" باتت تستخدم في الصحافة اليومية لوصف السيناريوهات السياسية المحتملة، مما يعكس عمق الأزمة النفسية.
أولا- الانقسام العمودي.. "يهودا" ضد "إسرائيل":
إن أخطر التحديات التي تواجه إسرائيل في عقدها الثامن، والتي تتجاوز في تأثيرها التهديد النووي الإيراني أو صواريخ الفصائل الفلسطينية، هو التفسخ الداخلي للهوية الإسرائيلية وتمزق النسيج الاجتماعي. لم يعد الحديث يدور عن خلافات حزبية تقليدية بين يمين ويسار حول قضايا الأمن والاقتصاد، بل تحول الصراع إلى صراع وجودي بين هويتين متناقضتين لا يمكنهما التعايش في إطار سياسي واحد: "إسرائيل" الليبرالية الديمقراطية (ذات التوجه الغربي والعلماني)، و"يهودا" الدينية القومية (ذات التوجه الثيوقراطي).
الانقلاب القضائي كشرارة للحرب الأهلية الباردة:
شكلت خطة "الإصلاح القضائي" التي طرحتها حكومة نتنياهو السادسة في يناير 2023 (التي وصفت بأنها الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، بضمها لرموز اليمين المتطرف، مثل (إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش) نقطة اللاعودة في هذا الصراع الهوياتي. لقد نظر المعسكر الليبرالي، الذي يضم النخب الاقتصادية، والعسكرية، والتكنولوجية، إلى هذه الخطة ليس كإصلاح قانوني، بل كمحاولة لتغيير الحمض النووي للنظام السياسي، وتحويل إسرائيل من ديمقراطية ليبرالية (كما تدعي) إلى ديكتاتورية دينية استبدادية.
تحذيرات إسحاق هرتزوج.. نذير الانهيار:
وصل الانقسام إلى الحد الذي دفع الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتزوج"، الذي يمثل رمز الوحدة في إسرائيل، للتحذير صراحة وبشكل متكرر من "حرب أهلية". في سلسلة خطابات، أشار فيها "هرتزوج" إلى أن إسرائيل تقف على "حافة الهاوية"، وأن العنف الداخلي بات "على مسافة لمسة يد"، محذرا من أن "برميل البارود يوشك على الانفجار". فقد كانت هذه التحذيرات غير مسبوقة من حيث لغتها ومصدرها، مما يعكس إدراك المؤسسة الرسمية لعمق الشرخ الذي لا يمكن جسره.
تآكل التضامن الاجتماعي.. الأرقام لا تكذب:
تشير استطلاعات الرأي والتقارير الصادرة عن معهد دراسات الأمن القومي (INSS) والمعهد الإسرائيلي للديمقراطية (IDI) لعامي 2023 و2024، إلى انخفاض حاد ومقلق في الشعور بالتضامن الاجتماعي والثقة المتبادلة داخل المجتمع الإسرائيلي.
· وهم الالتفاف حول العلم:بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، شهدت إسرائيل لحظة عابرة من "الالتفاف حول العلم"، لكن البيانات سرعان ما أظهرت أن هذا التضامن كان هشا ومؤقتا. تشير الدراسات إلى أن الخطاب الاستقطابي عاد للظهور بقوة وشراسة أكبر، حيث أظهرت البيانات أن نحو 20% فقط من الإسرائيليين يعتقدون أن التضامن قد تعزز فعليا، بينما يرى الأغلبية الساحقة أن الشرخ يتسع، وأن الخلافات السياسية عادت لتطفو على السطح حتى أثناء المعارك.
· انهيار الثقة بالمؤسسات:يظهر "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية لعام 2024" تآكلا خطيرا في ثقة الجمهور بالمؤسسات الإسرائيلية. بينما لا يزال الجيش يحظى بنسبة ثقة عالية نسبيا (وإن كانت في تراجع)، فإن الثقة في الحكومة والكنيست والأحزاب السياسية وصلت إلى أدنى مستوياتها التاريخية (أقل من 25% للحكومة وأقل من 16% للكنيست). (جدول 1) هذا الانهيار في الثقة يعني أن إسرائيل تفقد شرعيتها في نظر مواطنيها، وهو شرط أساسي لتفكك الدول.
|
المؤسسة
|
مستوى الثقة (مايو 2024)
|
مستوى الثقة (أكتوبر 2024)
|
الاتجاه العام
|
|
الجيش الإسرائيلي(IDF)
|
مرتفع (نسبيا)
|
تراجع طفيف
|
تآكل هالة القداسة، خاصة بعد إخفاق 7 أكتوبر
|
|
المحكمة العليا
|
37%
|
39.5%
|
استقطاب حاد؛ ملاذ للعلمانيين وعدو للمتدينين
|
|
الحكومة
|
18%
|
25%
|
انعدام ثقة عميق في القدرة على الإدارة
|
|
الكنيست (البرلمان)
|
13%
|
16%
|
يُنظر إليه كساحة للصراع الحزبي وليس للتشريع الوطني
|
|
الأحزاب السياسية
|
منخفض جدا
|
منخفض جدا
|
في قاع هرم الثقة الجماهيرية
|
(جدول 1) مستويات الثقة في المؤسسات الإسرائيلية. المصدر: المعهد الإسرائيلي للديموقراطية (IDI)
سيناريوهات الانفصال.. "الكانتونات" والكيانات المتصارعة:
تتجاوز المخاوف الحالية مجرد الاحتجاجات في الشوارع أو الخلافات البرلمانية لتصل إلى طرح سيناريوهات تفكك إسرائيل فعليا جغرافيا وإداريا.
1- دولة يهودا (State of Judea):يرى المحللون الاستراتيجيون أن المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، المدعوم من الصهيونية الدينية وتيار "شباب التلال"، يسعى لتأسيس كيان يلتزم بالشريعة اليهودية (Halacha) أكثر من التزامه بالقانون المدني الإسرائيلي. هذا الكيان، الذي يسميه البعض في إسرائيل بـ "دولة يهودا"، يمتلك مقومات الانفصال: ميليشيات مسلحة، ونظام تعليمي مستقل، وقيادة أيديولوجية راديكالية، ورؤية مسيانية لا تعترف بالحدود الدولية ولا بالديمقراطية الليبرالية. يسعى هذا التيار للسيطرة على المركزية الإسرائيلية أو الانفصال عنها في حال تعارضت قوانينها مع الشريعة.
2- الكانتونات (Cantonization):في مواجهة سيطرة اليمين الديني والهيمنة الديمغرافية للحريديم، بدأت أصوات نخبوية في المعسكر الليبرالي (سكان تل أبيب ومدن الساحل) تتحدث بجدية عن ضرورة الانفصال المالي والإداري عن القدس والمستوطنات والمدن الحريدية. يُطرح نموذج "الكانتونات" السويسري كحل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حيث تحتفظ "إسرائيل" العلمانية بنمط حياتها واقتصادها المتطور، وتتوقف عن تمويل الفئات غير المنتجة (الحريديم) والمشروع الاستيطاني المكلف. هذا الطرح يعكس يأسا من إمكانية العيش المشترك.
التناقض الدستوري.. "يهودية" أم "ديمقراطية"؟
لطالما حاولت إسرائيل الموازنة، ولو لغويا، بين صفتها كـ "يهودية" وكـ "ديمقراطية". إلا أن العقد الثامن كشف زيف واستحالة هذه الموازنة. وهو ما تشير إليه دراسات المعهد الإسرائيلي للديمقراطية (IDI) بحدوث تحول جذري في أولويات الجمهور اليهودي. حيث باتت الأغلبية اليهودية (خاصة المتدينين والحريديم والتقليديين) تفضل وتمنح الأولوية لـ "يهودية إسرائيل" على حساب "الديمقراطية" في حالات التعارض، بينما يرى المعسكر العلماني أن هذا التحول هو نهاية المشروع الصهيوني الحديث الذي أسسه هرتزل وبن جوريون. هذا التناقض الجوهري لم يعد يقبل الحلول الوسط أو التسويات اللفظية، مما يضع إسرائيل أمام خيارين أحلاهما مر: إما التحول إلى نموذج ثيوقراطي منبوذ دوليا، أو الدخول في حرب ثقافية طاحنة قد تتحول إلى عنف مادي يمزق الجيش والمجتمع الإسرائيلي.
ثانيًا.. انهيار العقيدة الأمنية:
تعتبر القوات الإسرائيلية (IDF) العمود الفقري و"قدس الأقداس" في المجتمع الإسرائيلي، و"بوتقة الصهر" التي توحد القبائل المختلفة من مهاجرين شرقيين، وغربيين، وعلمانيين، ومتدينين. إلا أن أزمة العقد الثامن ضربت هذه المؤسسة في مقتل، محولة إياها من عامل توحيد واستقرار إلى ساحة صراع سياسي واجتماعي خطير.
أزمة الاحتياط ورفض الخدمة: تمرد النخبة:
لأول مرة في تاريخ إسرائيل، شهد عام 2023، حركة رفض واسعة ومنظمة للخدمة العسكرية في قوات الاحتياط، قادها طيارون في سلاح الجو، وضباط في وحدات الاستخبارات العسكرية (أمان)، ووحدات السايبر (8200)، والوحدات الخاصة، وذلك احتجاجا على التعديلات القضائية.
· انهيار العقد غير المكتوب:يحذر الخبراء العسكريون وعلماء الاجتماع العسكري الإسرائيليون من أن نموذج "جيش الشعب" قد انتهى عمليا ولم يعد قابلا للتطبيق. الجيش لم يعد يمثل كل الشعب، بل بات يعتمد بشكل متزايد وغير متوازن على فئات محددة: الصهيونية الدينية التي تسيطر على الوحدات القتالية الميدانية، والنخبة العلمانية التي تسيطر على الوحدات التكنولوجية وسلاح الجو. هذا الانقسام الوظيفي والاجتماعي يجعل المؤسسة العسكرية في قلب التجاذبات السياسية الداخلية، ويهدد وحدتها القيادية في أوقات الأزمات.
· الإرهاق والاستنزاف:مع استمرار الحرب في غزة ولبنان لمدد غير مسبوقة (أطول حرب في تاريخ إسرائيل منذ 1948)، يواجه جنود الاحتياط حالة من الإنهاك الشديد (Burnout) والاستنزاف المادي والنفسي. التقارير الميدانية تشير إلى ضغوط اقتصادية هائلة على عائلات الجنود (إغلاق مصالح تجارية، وطلاق، مشكلات نفسية)، مما يهدد بتآكل الدافعية للقتال في حروب بات يُنظر إليها من قبل قطاعات واسعة على أنها تخدم بقاء نتنياهو السياسي وليس مصلحة الأمن الإسرائيلي.
الفشل الاستراتيجي وعدم الجاهزية (تحذيرات الجنرال بريك):
تذكر التقارير الإسرائيلية أنه في قلب النقاش العسكري الإسرائيلي، برز الجنرال احتياط "إسحاق بريك"، مفوض شكاوى الجنود السابق، كصوت صارخ ومزعج للمؤسسة العسكرية هناك، محذرا منذ سنوات من عدم جاهزية الجيش للحرب الكبرى متعددة الجبهات، وقد تحولت تحذيراته بعد 7 أكتوبر إلى "نبوءات محققة".
· إهمال القوات البرية:انتقد بريك بشدة العقيدة العسكرية التي تبناها رؤساء الأركان في العقدين الأخيرين، والتي قامت على تقليص حجم الجيش البري، وإهمال سلاح المدرعات والاحتياط، والاعتماد المفرط والساذج على سلاح الجو والاستخبارات التكنولوجية الدقيقة. هذا الاعتماد ثبت فشله الذريع في 7 أكتوبر، وفي تعثر العمليات البرية البطيئة والمكلفة في لبنان وغزة، حيث لم تتمكن التكنولوجيا من حسم المعركة ضد مقاتلين يعتمدون تكتيكات غير متناظرة.
· فقدان الروح القتالية:يشير بريك وغيره من القادة القدامى بقلق إلى تراجع الروح القتالية وقيم التضحية مقارنة بالأجيال السابقة (جيل 1948 و1967)، واستبدال عقلية "الشركة" والمصالح الشخصية والمهنية داخل المؤسسة العسكرية. الضباط باتوا يبحثون عن التقاعد المريح والوظائف في القطاع الخاص بدلا من التفاني في الخدمة العسكرية الطويلة.
معضلة تجنيد الحريديم..القنبلة الموقوتة:
تمثل قضية إعفاء اليهود المتشددين (الحريديم) من الخدمة العسكرية قنبلة موقوتة اجتماعية وسياسية انفجرت في وجه المجتمع الإسرائيلي في عام 2024. مع حاجة الجيش الماسة للمقاتلين (بسبب الخسائر البشرية الكبيرة وتوسع الجبهات والحاجة لزيادة حجم القوات)، لم يعد المجتمع العلماني والديني القومي مستعدا لتحمل "عبء الدم" وحده، بينما يكتفي الحريديم بالصلاة في المعاهد الدينية.
· التهديد بالتمرد: محاولات فرض التجنيد بقوة القانون وقرارات المحكمة العليا تواجه بمقاومة شرسة من القيادات الحريدية وصلت حد التهديد بـ "الموت ولا التجنيد" والتهديد بمغادرة البلاد جماعيا (وهو تهديد بلاغي لكنه يعكس عمق الأزمة). هذا يضع إسرائيل أمام خيار مستحيل: إما كسر شوكة الحريديم وخسارة حليف سياسي ضروري لليمين الحاكم، أو المخاطرة بتمرد جنود الاحتياط العلمانيين الذين يرفضون الخدمة والموت بينما يدرس الآخرون في المعاهد الدينية ممولين من ضرائبهم.
· تآكل الردع وعدم القدرة على الحسم:منذ حرب لبنان الثانية عام 2006، وعبر جولات القتال المتكررة في غزة، وصولا إلى الحرب الحالية، أظهر الجيش الإسرائيلي عجزا متزايدا عن تحقيق "الحسم العسكري" (Decisive Victory) الواضح والسريع، وهو ركن أساسي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية (بن جوريون: الردع، الإنذار، الحسم)، كما أن الحرب الطويلة والاستنزاف المستمر يستهدفان هذه الهشاشة الداخلية تحديدا، مما يحول التفوق العسكري الإسرائيلي إلى عبء بدلا من أن يكون ميزة. المحلل العسكري عاموس هاريل يشير بوضوح إلى الشعور العام بـ "عدم القدرة على الانتصار" (Inability to Win)، مما يولد إحباطا مجتمعيا وتآكلا في صورة إسرائيل، حسب قوله.
ثالثًا- النزيف الصامت للاقتصاد.. الهجرة العكسية للنخبة النوعية:
بينما تتركز الأنظار والكاميرات على المعارك العسكرية والدخان المتصاعد، تدور في الخفاء معركة لا تقل ضراوة وخطورة تتمثل في استنزاف الموارد البشرية والاقتصادية لإسرائيل. وترسم البيانات الحديثة لعامي 2023 و2024، صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد الإسرائيلي وقدرته على الصمود والاستدامة.
هروب الأدمغة ورحيل النخبة النوعية:
تشير التقارير الإحصائية والأكاديمية الإسرائيلية ذاتها إلى ارتفاع حاد وغير مسبوق في معدلات الهجرة العكسية (Emigration)، خاصة بين الفئات الأكثر تعليما وإنتاجية، وهو ما يطلق عليه "هروب العقول".
· هجرات جماعية نوعية:كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة تل أبيب (البروفيسور إتاي أتير، والبروفيسور نيتاي بيرجمان، ودورون زامير) أن نحو 90 ألف إسرائيلي غادروا البلاد بين يناير 2023 وسبتمبر 2024، ولم يعودوا، وانضموا إلى من سبقوهم. الأخطر من العدد المطلق هو النوعية؛ فهؤلاء المهاجرون ليسوا عمالا بسطاء، بل يشملون نخبة المجتمع: مهندسين، أطباء، باحثين، وأكاديميين من حملة الدرجات العليا.
· هروب الأطباء:النظام الصحي الإسرائيلي، الذي كان يعتبر من الأفضل في العالم، يواجه خطر الانهيار الحقيقي. البيانات تشير إلى مغادرة المئات من الأطباء المتخصصين والاستشاريين، وتشير بيانات وزارة الصحة إلى أن نسبة "عدم العودة" بين خريجي الطب الإسرائيليين الذين يدرسون في الخارج في تصاعد مستمر. وفقا للتقارير الإسرائيلية فإن هذا النزيف يهدد المنظومة الصحية الإسرائيلية في وقت الحرب حيث الحاجة ماسة لكل طبيب وممرض.
· دوافع أيديولوجية للخروج: لم تعد الأسباب الدافعة للهجرة اقتصادية أو بحثا عن فرص عمل أفضل فقط، بل أصبحت سياسية وأيدولوجية وشعورا بعدم الانتماء. النخبة الليبرالية تشعر بأن إسرائيل "تُسرق" منها لصالح القوى الدينية واليمينية المتطرفة، ولذلك يختارون الرحيل بحثا عن مجتمعات ديمقراطية مستقرة تحترم قيمهم. عبارة "غادروا قبل أن تموتوا" أو "لنربي أطفالنا في مكان آمن" نصيحة يتداولها البعض في الداخل الإسرائيلي وعلى مجموعات الواتساب الخاصة بالأطباء والمهندسين.
تراجع "قطاعات الشركات الناشئة والتكنولوجيا الفائقة":
يعاني قطاع التكنولوجيا الفائقة (High-Tech)، الذي يمثل القاطرة الرئيسية للاقتصاد الإسرائيلي (حيث يشكل نحو 50% من الصادرات و18% من الناتج المحلي الإجمالي)، من ركود وأزمة بنيوية غير مسبوقة.
· هروب رءوس الأموال:المستثمرون الأجانب والمحليون يهربون من حالة عدم اليقين السياسي، والأمني، والقانوني. البيانات تظهر انخفاضا حادا في الاستثمارات الأجنبية في التكنولوجيا الإسرائيلية بنسبة تجاوزت 26% في عام 2024، في وقت يشهد فيه قطاع التكنولوجيا العالمي (في الولايات المتحدة وأوروبا) تعافيا ونموا. إسرائيل عمليا "انفصلت" (Decoupled) عن مسار التعافي العالمي للتكنولوجيا بسبب الحرب والانقلاب القضائي.
· الخسائر الضريبية:هجرة العاملين في هذا القطاع وتراجع الاستثمارات تكبد الخزانة العامة خسائر بمليارات الشواكل من عائدات الضرائب (ضريبة الدخل، وضريبة الشركات، وضريبة أرباح رأس المال)، مما يفاقم العجز المالي ويقلص قدرة إسرائيل على تمويل الحرب الباهظة التكلفة والحفاظ على مستوى الخدمات العامة.
|
المؤشر
|
التغير/ القيمة
|
الدلالة الاستراتيجية
|
|
عدد المهاجرين (صافي)
|
90,000+ (يناير 23 - سبتمبر 24)
|
فقدان دائم لرأس المال البشري
|
|
نزيف الأطباء
|
المئات غادروا، ارتفاع نسبة عدم العودة
|
تهديد مباشر للأمن الصحي
|
|
تمويل التكنولوجيا(VC)
|
انخفاض بنسبة 81% (2022-2024)
|
جفاف محرك النمو الاقتصادي
|
|
التمويل الاستثماري
|
انخفاض بنسبة 26%
|
تراجع ثقة المستثمرين عالميا
|
|
الخسارة الضريبية
|
1.5 مليار شيكل (تقديري مباشر)
|
عجز مالي متفاقم
|
(جدول 2) مؤشرات التراجع الاقتصادي وهروب الكفاءات في إسرائيل (2023-2024).
رابعًا- المعضلة الديمغرافية الإسرائيلية:
إذا كان الاقتصاد والجيش في إسرائيل يواجهان أزمات فورية وحادة، فإن الديمغرافيا تمثل التهديد الاستراتيجي الصامت وطويل الأمد الذي قد يغير وجه إسرائيل وطبيعتها بلا رجعة بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين أو قبل ذلك.
التمدد الحريدي:
المجتمع الحريدي ينمو بمعدلات تفوق بكثير بقية فئات المجتمع اليهودي، مما يخلق اختلالا هائلا في التوازن الديمو-اقتصادي والسياسي.
· الإسقاطات المستقبلية: تشير التوقعات الديمغرافية الرسمية إلى أن الحريديم، الذين يشكلون اليوم نحو 13-15% من السكان، قد يشكلون ثلث السكان اليهود بحلول عام 2065. هذا النمو الأسي يعني أن شريحة واسعة ومتزايدة من السكان لا تشارك بفعالية في سوق العمل الحديث (خاصة الرجال)، ولا تخدم في الجيش، ولا تدرس المواد الأساسية (الرياضيات، والإنجليزية، والعلوم)، وتعتمد بشكل كلي على المخصصات الحكومية والرفاه الاجتماعي.
· العبء الاقتصادي:يحذر الاقتصاديون في بنك إسرائيل ومعهد "تاوب" من أن استمرار هذا الاتجاه سيقود إسرائيل حتما إلى الإفلاس وتدهور مستوى المعيشة إلى مستويات العالم الثالث. فئة قليلة ومتناقصة (العلمانيون والدينيون القوميون المعتدلون) ستجد نفسها مضطرة لتمويل إسرائيل تعيش فيها أغلبية غير منتجة، مما سيعجل من وتيرة هجرة النخبة المنتجة (دافعي الضرائب) الذين سيرفضون حمل إسرائيل على أكتافهم، تاركين الكيان للغرق في الفقر والتخلف.
الانزياح نحو اليمين المتطرف:
التحولات الديمغرافية تعني حكما وتلقائيا انزياح الخريطة السياسية والانتخابية نحو اليمين واليمين المتطرف بشكل دائم ومستدام. الفئات الشابة في إسرائيل (الحريديم والمتدينين القوميين) هي الأكثر تطرفا وتدينا وعداءً للعرب وللقيم الليبرالية. هذا يعني أن أي أمل سياسي في عودة "معسكر السلام" أو حتى الوسط الليبرالي للحكم يتلاشى مع كل جيل جديد يبلغ سن التصويت. هذا الواقع يرسخ عزلة إسرائيل الدولية كنموذج يميني متطرف، ويجعل الصدام مع الفلسطينيين والمحيط العربي حتميا ومستمرا، ويقضي على أي فرصة لتسوية سياسية.
"يهودا" تبتلع "إسرائيل":
النمو الديمغرافى للمستوطنين في الضفة الغربية، والذي يتجاوز النمو داخل الخط الأخضر، يخلق واقعا لا رجعة فيه (One State Reality). "يهودا" لم تعد مجرد مشروع استيطاني هامشي، بل باتت تسيطر على مفاصل إسرائيل المركزية، وتفرض أجندتها على الجيش، والحكومة، والميزانية، مما يحول إسرائيل تدريجيا إلى نموذج ثنائي القومية بحكم الواقع، لكنها تدار بنظام فصل عنصري (Apartheid) قانوني، وهو ما يسرع من نزع الشرعية الدولية عنها.
خامسًا- العمى الاستراتيجي والجبهات المتعددة:
في الوقت الذي تتآكل فيه الجبهة الداخلية وتنزف الموارد، تفتح إسرائيل النار على نفسها بفتح جبهات صراع متعددة في الإقليم.
الحرب متعددة الجبهات.. كابوس "بريك":
لطالما حذر الجنرال "إسحاق بريك" من سيناريو الحرب الشاملة على خمس أو ست جبهات في وقت واحد (غزة، ولبنان، وسوريا، والضفة الغربية، واليمن، والعراق/إيران). هذا السيناريو، الذي اعتبره قادة الجيش سابقا "مبالغة"، بات واقعا يوميا يستنزف الجيش الإسرائيلي الذي لم يُصمم ولم يُبن لخوض حروب استنزاف طويلة الأمد. القتال على عدة جبهات يشتت الجهد العسكري، يستنزف مخزونات الذخيرة الدقيقة (التي تعتمد إسرائيل فيها كليا على الولايات المتحدة)، وينهك الجبهة الداخلية، ويطال مراكز الثقل الاقتصادي والسكاني.
العزلة الدولية وتآكل الشرعية.. "النموذج المنبوذ":
إن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة والممارسات الوحشية في غزة، وعنف المستوطنين المنفلت في الضفة الغربية (تحت حماية وزراء، مثل بن غفير وسموتريتش)، حولت إسرائيل تدريجيا وبشكل متسارع إلى "نموذج منبوذ" في نظر الرأي العام العالمي. الانتقادات لم تعد تقتصر على الأعداء التقليديين أو اليسار الراديكالي، بل طالت أقرب الحلفاء الغربيين. كما تآكل الدعم الغربي، خاصة بين الأجيال الشابة في الولايات المتحدة (الذين يرون إسرائيل كنموذج استعماري توسعي وليس ديمقراطيا)، يهدد "القبة الحديدية الدبلوماسية" التي حمت إسرائيل لعقود في مجلس الأمن والمحافل الدولية. فضلا عن صدور مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، وقرارات محكمة العدل الدولية، وهي في مجموعها مؤشرات على أن الحصانة الإسرائيلية قد انتهت.
فشل "المفهوم":
كشف طوفان الأقصى عن فشل ذريع ومركب للمفهوم الاستراتيجي الإسرائيلي الذي ساد لعقود: الاعتقاد بأن القوة العسكرية المفرطة، والتكنولوجيا المتطورة، والجدران العازلة، والتطبيع مع الأنظمة العربية، يمكن أن يوفر الأمن والهدوء دون حل القضية الفلسطينية. هذا "العمى الاستراتيجي" قاد إسرائيل إلى النوم في العسل بينما كان الآخرون يراكمون القوة ويخططون لضربة استراتيجية هزت أركان إسرائيل.
سادسًا- سيناريوهات المستقبل.. هل تتحقق نبوءة لعنة العقد الثامن؟
بناءً على التحليل المنهجي للمؤشرات الداخلية والخارجية، واستقراء الاتجاهات التاريخية والسياسية، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية لمستقبل إسرائيل في عقدها الثامن الحرج:
السيناريو الأول- التفكك البطيء والكانتونات (الأقرب للواقع):
في هذا السيناريو، لا تنهار بضربة قاضية عسكرية واحدة، بل تتآكل وتضمحل تدريجيا من الداخل. تضعف السلطة المركزية، وتنشأ ما يمكن تسميته "دولة داخل دولة" بحكم الأمر الواقع. تنفصل المناطق الليبرالية الغنية (غوش دان / تل أبيب) عن المناطق الدينية والمستوطنات والمدن الهامشية اقتصاديا، وثقافيا، واجتماعيا. تفقد إسرائيل احتكارها للقوة، وتصبح أكثر فقرا وعزلة، وتتحول إلى كيان هش يعيش على الحروب، فاقدا لبريقه الاقتصادي وتفوقه التكنولوجي، مع استمرار نزيف العقول. هذا السيناريو هو الأقرب للواقع الحالي في ظل استمرار الاتجاهات الديمغرافية والسياسية الحالية.
السيناريو الثاني- الحرب الأهلية والعنف الداخلي:
إذا وصل الاستقطاب حول قضيتي هوية إسرائيل (سواء دينية أو ديمقراطية) وتجنيد الحريديم إلى طريق مسدود، ومع عودة الجنود المحبطين والمسلحين من الجبهات المتعددة، قد تنزلق الأمور إلى عنف داخلي واسع النطاق، فالتاريخ اليهودي (الحشمونائيم) يقدم سابقة أدى فيها الاقتتال الداخلي إلى دمار إسرائيل، وفي العصر الحديث، قد لا يكون تدخلا رومانيا كما في السابق، بل اقتتالا يشل الجيش والمؤسسات الأمنية ويقسم الشارع الإسرائيلي.
السيناريو الثالث- سيطرة "نموذج يهودا" والتحول الثيوقراطي:
ينجح التيار الديني القومي والحريدي، مستفيدا من الديمغرافيا والسيطرة على مفاصل الحكم، في إحكام قبضته النهائية على إسرائيل، دافعا النخبة العلمانية المتبقية للهجرة الجماعية، وتتحول إسرائيل رسميا وعمليا إلى نموذج ديني يتسم بالعدوانية الشديدة والمنفلتة تجاه الفلسطينيين، ضم الضفة وطرد السكان، لكنها تكون أضعف بكثير اقتصاديا، وتكنولوجيا، وعسكريا، وتفقد الحماية والرعاية الغربية والأمريكية. فهذا الكيان قد يستمر لفترة بقوة السلاح والبطش، لكنه يحمل بذور فنائه بداخله لعدم قدرته على الاستدامة الاقتصادية والعسكرية بدون النخبة الليبرالية العلمانية والعمق الدولي.
السيناريو الرابع- الانهيار تحت ضغط العزلة والمقاطعة الدولية:
تستمر إسرائيل في سياساتها الحالية، مما يؤدي إلى تعاظم حملة المقاطعة والعزلة الدولية والعقوبات، بالتوازي مع مقاومة فلسطينية مستمرة، وينهار الاقتصاد تحت وطأة الهروب الجماعي للاستثمارات، ويجبر النظام في النهاية تحت الضغط الداخلي والخارجي على التفكك ونهاية الصهيونية السياسية بشكلها الحالي، وهذا السيناريو سيدفع نحو تغيير أكبر في الموقف الأمريكي والغربي من حيث دعم سياسات الكيان الاستيطانية التوسعية، وهو أمر قد بدأ يلوح في الأفق مع تغير الأجيال والضغوط الجيوسياسية العالمية والتحولات في النظام الدولي.
خاتمة- لعنة الهزيمة الذاتية من الداخل.. التاريخ يعيد نفسه:
في الختام فإن القراءة المتفحصة للأدلة الموثقة من الداخل الإسرائيلي تقود إلى استنتاج مفاده أن "لعنة العقد الثامن" ليست قدرا ميتافيزيقيا محتوما، بقدر ما هي توصيف دقيق وعميق لأزمة بنيوية تتكرر في التاريخ السياسي اليهودي، وفي بنية المشروع الصهيوني ذاته. إن التزامن "المثالي" بين التفسخ الاجتماعي (صراع القبائل)، والانهيار المؤسسي (تفكك الجيش وفقدان الثقة)، والنزيف الاقتصادي (هروب العقول ورأس المال)، يخلق عاصفة كاملة تهدد وجود إسرائيل.
إن التهديد الوجودي الحقيقي والحاسم لإسرائيل اليوم يكمن في المهندس الذي يحزم حقائبه مهاجرا عكسيا، وفي الطيار الحربي الذي يتردد في الخدمة، وفي الحاخام الذي يفضل الدراسة الدينية على سلامة إسرائيل، وفي السياسي الذي يفضل مصلحته الشخصية وبقاء ائتلافه على مصالح الكيان.
وتبدو إسرائيل اليوم كأنها تسير بوعي كامل وبخطى حثيثة نحو تحقيق نبوءتها السوداء بيدها لا بيد غيرها، فبينما تحاول تحصين نفسها بجدران من الأسمنت والتكنولوجيا والليزر ضد الخارج، يتآكل "الجدار الحديدي" الداخلي ممثلا في العقد الاجتماعي، بفعل التناقضات التي لم يعد بالإمكان تأجيل انفجارها، وكما قال المؤرخون والقادة الإسرائيليون أنفسهم في لحظات صراحة نادرة: لم تسقط الممالك اليهودية السابقة بفعل ضربات الخارج فقط، بل لأنها تآكلت وتعفنت من الداخل حتى أصبحت جثة هامدة تنتظر من يدفنها.
والسؤال المطروح اليوم في أروقة تل أبيب والقدس المحتلة ليس "هل" ستواجه إسرائيل أزمة العقد الثامن، بل "كيف" ستنجو منها؟، وهل ستكون التكلفة في ذلك تغييرا يحمل في طياته بذور النهاية المحتومة؟
المراجع:
Institute for National Security Studies (INSS).(2025, October). Trust in Leaders and Institutions: October 2025 Survey. Tel Aviv University. https://2h.ae/CzgNP
Innovation Israel Authority.(2025). The Israeli High-Tech Sector: Exports and Trends Report 2025. https://2h.ae/PiHUU
Swechinsky, T., et al.(2025). Israel’s brain drain: Self-reported non-return rates among medical graduates. BMC Medical Education, 25(1). https://2h.ae/FEmbS
Gallup.(2025, September). Israeli Life 2025 in 7 Charts: Life Evaluation and Trust. Gallup News. https://2h.ae/Ptbvp
DellaPergola, S.(2025, January 17). Israel’s Jewish Demography is Changing, and So are Diasporas. Institute for Jewish Policy Research (JPR). https://2h.ae/lkvGt
S-Cube.(2025, February 10). 2024 High-Tech: Local Sector Detached from U.S. Trend for First Time. https://2h.ae/Yiodg
Rubin, M.(2025, April 24). Muslim Brotherhood Branch in Egypt Threatens Jordanian State (Analysis of Mohamed Kamal's Strategy). Foundation for Defense of Democracies (FDD). https://2h.ae/qeEzW
Hermann, T., et al.(2024). The Israeli Democracy Index 2024. The Israel Democracy Institute (IDI). (المصدر الأساسي لجدول الثقة في المؤسسات). https://2h.ae/ePIfj
Ater, I., Bergman, N., &Zamir, D.(2024, October). Brain Drain: 90,000 Israelis left in 2023-2024. Tel Aviv University. (Cited in Calcalist&The Times of Israel). https://2h.ae/PpowL
Institute for National Security Studies (INSS).(2024). Societal and National Resilience in Israel during the Iron Swords War. Tel Aviv University. https://2h.ae/wHsNH
Rise Israel.(2024). The State of Israeli High-Tech Annual Report 2024. https://2h.ae/NUwaL
Sarmusokov, A.(2024). Demographics of Israel: A Ticking Bomb in Today’s One-State Reality. Vienna International Institute for Middle East Studies (VIIMES). https://2h.ae/qnzWA
Harel, A.(2024, September). The hidden cost of war: 125,000 Israelis emigrated between 2022 and 2024. The Times of Israel. https://2h.ae/QCkTL
Palestine Chronicle Staff.(2024, June 8). Hamas Has Defeated Us: Ret. Israeli Maj. Gen. Brik Speaks of ‘Collective Suicide’. The Palestine Chronicle. https://2h.ae/BKpYI
Herzog, I.(2023, March). Address to the Nation: Civil War is Within Touching Distance. Office of the President of Israel. (تغطية The Guardian). https://2h.ae/zxTH
Pappe, I.(2023, October). Is Israel on the Brink? The State of Judea vs. The State of Israel. CounterCurrents. https://2h.ae/qKQso
Scheindlin, D.(2023, February). The Wounded Jewish Psyche and the Divided Israeli Soul. The Times of Israel. https://2h.ae/GXkxz
Al Jazeera.(2023, October 28). لعنة العقد الثامن: إسرائيل ومخاوف الزوال. الجزيرة نت. https://2h.ae/KmQbo
Barak, E.(2022, May 7). The Curse of the Eighth Decade. YediothAhronoth. (مترجم ومقتبس في Al Mayadeenو Middle East Monitor). https://2h.ae/FucnS
Balawi, M. M.(2022, May 12). The curse of the eighth decade and the end of Israel. Middle East Monitor. https://2h.ae/GZDXR
Taub Center.(2021). Population Projections for Israel 2017–2040. Taub Center for Social Policy Studies in Israel. https://2h.ae/EpXJO
Shelef, N.(2010). Evolving Nationalism: Homeland, Identity, and Religion in Israel. Cornell University Press. (Cited in POMEPS Studies regarding "State of Judea"). https://2h.ae/ytOoA
Albright, W. F.(1945). The Chronology of the Divided Monarchy of Israel. Bulletin of the American Schools of Oriental Research. https://2h.ae/QkqNU