تحليلات

سوريا ولبنان على مفترق التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد إيران

طباعة

 

تحظى إسرائيل على حدودها الشمالية ببيئة استراتيجية فريدة لا تتوافر في قطاع غزة، إذ توفر الجغرافيا الشاسعة عمقًا آمنًا يتيح الاعتماد على القوة الجوية ودعم العمليات البرية. لذلك تسعى تل أبيب عبر هذه الميزة إلى توسيع تحركاتها في سوريا لمواجهة النفوذ الإيراني وقطع خطوط إمداده، وفي لبنان لممارسة الضغط على حزب الله والحد من قدراته العسكرية، مما يمنحها ورقة نفوذ استراتيجية لأمننة النفوذ الإيراني وتهيئة الساحة للتصعيد القادم.

ديناميكيات التصعيد في سوريا:

تسود في سوريا خلال الأشهر الأخيرة ديناميكيات تصعيدية غير مسبوقة، إذ تعمل إسرائيل على منع الجيش السوري من الانتشار في جنوب هضبة الجولان، بالتوازي مع تنفيذ ضربات متكررة ضد المجموعات المسلحة المعادية التي تسعى إلى ترسيخ وجودها هناك.

وفي الوقت نفسه عادت المفاوضات المرتبطة بتوسيع وتطوير الترتيبات الأمنية لاتفاقية "فك الاشتباك" لعام 1974، إلى الواجهة، بما يعكس تغيرًا ملحوظًا في حسابات الأطراف الإقليمية والدولية. وقد تناولتُ في مقالة سابقة، بعنوان "الاتفاق الأمني الإسرائيلي مع سوريا وتداعياته على العمق الجيواستراتيجي الإيراني"(23 سبتمبر 2025)، الخيارات المتاحة أمام دمشق وكيفية انعكاسها على التموضع الإيراني داخل سوريا.

غير أن التطور اللافت خلال الأشهر الثلاثة الماضية جاء مع ما نشرته صحيفة معاريف العبرية في (2 ديسمبر 2025)، بشأن كشف وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، خلال جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست عن محادثات جرت في الأشهر الأخيرة لبحث إمكانية إبرام اتفاق أمني مع سوريا. ويهدف هذا الاتفاق، وفق التسريبات، إلى الحد من انتشار القوات السورية الثقيلة قرب خط الحدود، وتقليص وتيرة الضربات الإسرائيلية داخل سوريا.

وبالموازاة دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في اليوم ذاته إلى اتخاذ سلسلة إجراءات أكثر تشددًا، أبرزها جعل جنوب دمشق منطقة منزوعة السلاح، ومنع سوريا من نشر قوات واسعة فيها، من دون تحديد الجهة التي ستتولى التعامل مع الجماعات المسلحة التي قد تتموضع داخل هذه المنطقة.

هنا يبرز سؤال جوهري:ما سبب هذا الحرص الإسرائيلي المتزايد على إعادة اتفاقية فك الاشتباك إلى طاولة المفاوضات؟

الجواب يرتبط بانحسار الدور الروسي. فقد كانت موسكو تاريخيًا الضامن الفعلي لتطبيق ترتيبات فك الاشتباك، وبالأخص منذ 2017، حين أدت دور القوة التي كبحت هامش المناورة الإسرائيلية داخل سوريا.إلا أن تراجع النفوذ الروسي بعد الحرب في أوكرانيا خلق فراغًا أمنيًا في الجنوب، سمح لكلٍ من إيران وإسرائيل بتوسيع نطاق نشاطهما.

وفي هذا السياق لم يكن مفاجئًا أن تتقدم روسيا، في هذا التوقيت تحديدًا، باقتراح إلى دمشق يقضي بعودة الدوريات الروسية إلى المنطقة الحدودية لتعمل كقوة فصل بين القوات السورية والإسرائيلية، وفق ما جاء في تقرير لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD).

هذا السياق يُضيء على التحركات الإسرائيلية الهادفة إلى منع ترسخ النفوذ الإيراني في الجنوب السوري، وقطع طرق الإمداد نحو حزب الله. وهذه التحركات لا يمكن فصلها عن سيناريو أشمل يتمثل في أمننة النفوذ الإيراني تمهيدًا لتصعيد إقليمي محتمل ضد طهران. ويأتي ذلك في لحظة لا ترغب فيها موسكو بفتح جبهة توتر جديدة في الشرق الأوسط بعدما اتجهت إلى مسار سلام نسبي مع أوكرانيا.

وعلى صعيد الداخل السوري، لا تزال عشرات الجماعات المسلحة غير المندمجة تنشط في الجنوب، بما في ذلك مجموعات درزية، وقبلية، وانفصالية، وأجنحة من جماعات إسلامية. ويمثل الوجود العسكري الإسرائيلي في هضبة الجولان عاملًا إضافيًا لزيادة الاحتقان؛ فهو يجمع بين مراقبة مباشرة واحتلال فعلي، مما يعمق الشعور المحلي بانعدام الاستقرار، وهو توصيف يتكرر في الخطاب الإعلامي داخل تلك المناطق.وإذا كانت إسرائيل تسمح جزئيًا بعودة بعض وحدات الجيش السوري إلى مواقع محددة قرب خطوط التماس، بهدف الحد من توسع الجماعات الموالية لإيران، فإن الحكومة السورية الجديدة، التي حازت اعترافًا عربيًا ودوليًا، لا تزال تتعامل بريبة مع النوايا الإسرائيلية، مع وعيها في الوقت نفسه بأن أي خطوة نحو تل أبيب قد تُثير حساسية طهران

في موازاة ذلك تزايد الحديث عن أن شبكات الإمداد الإيرانية السرية في سوريا لم تُكتشف بالكامل حتى الآن، خاصة بعد أن ضبطت الحكومة السورية الجديدة شحنات أسلحة كبيرة إبريل ومايو 2025؛ بعضها كان في طريقه إلى محافظة السويداء، وأخرى خارجة من ريف دمشق باتجاه لبنان. هذا التطور يعزز الانطباع بأن طهران لا تزال تحافظ على شبكاتها اللوجستية.

شبح الحرب يهدد أمن لبنان:

تُظهر التطورات السياسية والأمنية في لبنان أن احتمالات انزلاق البلاد إلى صراع واسع باتت أكثر حضورًا، خاصة في ظل التحركات الإسرائيلية-الأمريكية الرامية إلى "أمننة النفوذ الإيراني في المنطقة". فقد دفعت تل أبيب وواشنطن، بيروت، للمرة الأولى في تاريخها، إلى تبني مبدأ جمع أسلحة التنظيمات غير الحكومية، وعلى رأسها حزب الله وبعض الجماعات الفلسطينية.

ويستند هذا الدفع إلى اعتبارات أمنية وسياسية متشابكة، إذ يفترض أن يؤدي الضغط العسكري الإسرائيلي وتهديدات توسيع المواجهة إلى فرض مسار يجبر رئاسة الجمهورية اللبنانية على التخلي عن سياسة الحوار مع حزب الله والانتقال نحو مواجهة مباشرة معه.

ومع ذلك تُظهر الضغوط العسكرية الإسرائيلية مفارقات عملية وسياسية واضحة؛ فإسرائيل تعتمد أساسًا على الغارات الجوية داخل الأراضي اللبنانية، بينما تُبقي في الوقت نفسه على خمسة مواقع ميدانية في الجنوب تستخدمها كورقة تفاوضية في أي مباحثات مقبلة مع بيروت. في المقابل تحظى أهمية هذه المواقع اللوجستية باهتمام الإعلام الإيراني، وأبرزهم "مشرق نيوز" الأصولي، والذي صنف المواقع على النحو التالي:

1- ارتفاعات الحمامص:تقع جنوب بلدة الخيام، على الجبهة الشرقية، على بعد كيلومتر واحد من الخط الأزرق (خط الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000)، وتتيح مراقبة التحركات في المنطقة الشرقية وخطوط الإمداد المحتملة.

2- المناطق الحدودية المتنازع عليها حول بلدة حولا ومركبا: قرب مقر اليونيفيل، على الجبهة الوسطى، وتمثل نقاطًا حاسمة لمراقبة المنطقة الوسطى الجنوبية والتحكم بالوصول إلى الخط الأزرق، وتأمين خطوط الدفاع الوسطى ومراقبة الحدود الجنوبية.

3- منطقة جل الدير: تقع في بلدة عيترون، على الجبهة الوسطى، وتسمح بمراقبة الحدود الجنوبية وتأمين خطوط الدفاع في تلك المنطقة.

4- المنطقة الجبلية بلاط:بين بلدتي رامية والزلوطية، على الجبهة الغربية، وتوفر تغطية كاملة للمنطقة الغربية ونقاط انطلاق محتملة لأي هجوم أو دفاع.

5- ارتفاعات لبونة:بين بلدتي علما الشعب والناقورة، على الجبهة الغربية، وتسيطر على طرق المرور الرئيسية باتجاه الشمال الغربي، مع تعزيز قدرات الدفاع والمراقبة.

احتمال اندلاع حرب أهلية في لبنان:

رغم تأكيد نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أن قرار مجلس الأمن رقم 1701 الصادر في أغسطس 2006، ينص بوضوح على أن الجيش اللبناني وقوات الأمن هما الجهتان الوحيدتان المخولتان بالعمل العسكري جنوب نهر الليطاني، دون أن يفرض القرار أي التزام على الحزب بالتخلي عن سلاحه شمال البلاد أو القبول بمنطقة منزوعة السلاح، إلا أن الدولة اللبنانية تبنت تفسيرًا أوسع لنص القرار، عبر الاعتراف بمبدأ "توحيد السلاح" تحت سلطة الدولة، بما يشمل جمع السلاح في جميع المناطق وتفكيك منشآت التصنيع العسكري التابعة لحزب الله.

وقد شدد رئيس الجمهورية اللبنانية، في لقائه مع علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، على تمسكه بهذا المبدأ وعلى أهمية دور طهران في دعم بيروت ودفع حزب الله إلى التعاون.

وفي تحليل نشره الموقع الإسباني المعروف "Atalayar" بعنوان: (Lebanon: between the disarmament of Hezbollah and the risk of a new civil war)يرى أن بيروت تُظهر إدراكًا واضحًا لما قد يعنيه توسيع نطاق الحرب الإسرائيلية. فاندلاع مواجهة شاملة مع حزب الله يزيد من احتمال انفجار توترات طائفية بين مكونات المجتمع اللبناني، وقد يؤدي ذلك إلى موجات نزوح داخلية أو عودة نزوح جماعي من الجنوب والبقاع، الأمر الذي قد يعيد إنتاج ظروف مشابهة لتلك التي سبقت الحرب الأهلية. كما أن أي محاولة لفرض نزع سلاح حزب الله عبر الجيش اللبناني ستواجه رفضًا من شرائح اجتماعية واسعة، مما قد يضع الدولة أمام معادلة أمنية مدنية غير مستقرة.

وبناءً على المعطيات السابقة، إذا كانت العمليات الإسرائيلية تستهدف تسريع تنفيذ القرار1701، فإن ذلك يعكس ثقة تل أبيب بقدرة الجيش اللبناني على تولي هذه المهمة، مع العلم أن المطلوب هو فقط قرار سياسي من الحكومة -وقد سبق اتخاذه ويحظى بدعم شعبي-.

ومع ذلك يثير تهديد إسرائيل بتوسيع نطاق الحرب تساؤلات جدية حول مدى قدرتها الفعلية على فرض نزع سلاح الحزب بالقوة، خاصة أن تصريحات وزير الخارجية اللبناني(6 ديسمبر 2025)، بأن حزب الله لا يستطيع تسليم سلاحه من دون قرار إيراني، وهمه اليوم شراء الوقت والمحافظة على نفسه بالداخل لاستعادة سلطته، يثبت أن تحقيق نزع شامل للسلاح دون اتفاق سياسي شامل يبقى أمرًا شبه مستحيل.

خاتمة:

تكشف التحركات الإسرائيلية الأخيرة في لبنان وسوريا عن نوايا واضحة لخلق بيئة ملائمة لتصعيد محتمل ضد إيران. ولعل ذلك يفسر تحذيرات المبعوث الأمريكي، توماس باراك، لرئيس وزراء العراق بشأن احتمال شن هجوم إسرائيلي وشيك على لبنان، مع التأكيد على أن أي تدخل من فصائل عراقية موالية لإيران قد يواجه ردًا إسرائيليًا قد يشمل الأردن وسوريا.

وبذلك تصبح مؤشرات "أمننة النفوذ الإيراني"، كما أوردت في مقالة سابقة بعنوان "مؤشرات أمننة النفوذ الإيراني في المنطقة.. ساعة الصفر تقترب"، في طور التنفيذ، بهدف زيادة الضغط على الجمهورية الإسلامية والحد من قدرتها على المناورة. تأتي هذه التحركات ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى تغيير نظام ولاية الفقيه وإضعاف هيكله المركزي، بما يؤكد أن الولايات المتحدة تنتهج بالفعل ما ورد في الوثيقة الاستراتيجية (أكتوبر 2025) للمعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي (JINSA).

 

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية