تعد مصر من أكثر الدول العربية التي حافظت على حضورها الفاعل في بنية النظام الإقليمي، ليس فقط من خلال موقعها الجغرافي وموروثها التاريخي، بل عبر رؤيتها المتجددة للأمن والسلام في الشرق الأوسط. ومع تصاعد الصراعات وتبدّل أولويات القوى الكبرى، أصبحت القاهرة تمارس دورًا يتجاوز حدود “الوساطة السياسية” إلى “صناعة السلام الإيجابي”، من خلال السعي إلى بناء بيئة مستقرة عبر الدمج بين المسارات الأمنية والتنموية والاجتماعية.
حيث تؤكد التجربة المصرية في العقود الأخيرة أن مفهوم السلام لم يعد مقصورًا على وقف إطلاق النار أو عقد اتفاقيات تسوية، بل أصبح يشمل إعادة بناء بنية المجتمعات المتضررة من النزاع، وتحقيق التوازن بين ضرورات الأمن ومتطلبات التنمية. فمصر، بما تملكه من قدرات سياسية واقتصادية ومؤسسية، استطاعت أن تُعيد تعريف السلام الإقليمي بوصفه عملية تحول مستمرة، تتجاوز رد الفعل إلى بناء الفعل ذاته.
ففي قلب الشرق الأوسط، حيث تتقاطع التوترات التاريخية مع الطموحات المعاصرة للاستقرار، يظل مفهوم “صناعة السلام” أحد أبرز الركائز لتحويل النزاعات المعقدة إلى فرص للتعاون والازدهار. مصر، كدولة محورية في المنطقة، لم تكن مجرد مراقبة لهذه الديناميكيات، بل كانت مهندساً رئيسياً لها، خاصة في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي الذي امتد لأكثر من سبعة عقود. ويتضح ذلك، منذ توقيع معاهدة السلام التاريخية في كامب ديفيد عام 1978، مرورًا بجهودها الدؤوبة في بناء جسور السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصولًا إلى المفاوضات الحالية في شرم الشيخ التي انطلقت في 6 أكتوبر 2025، حيث تُجسد مصر نموذجًا للدبلوماسية الفعالة والوساطة المسؤولة.
يأتي هذا التحليل في لحظة حاسمة، بالتزامن مع مفاوضات شرم الشيخ التي تأمل الدولة المصرية أن تقود لبدء مرحلة التفاوض بشأن تحقيق السلام الشامل والدائم والعادل وذلك بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار الذى دعى الرئيس السيسي نظيره الأمريكي لحضور توقيعه حال التوصل إليه، وهو الأمر الذي تم في 9 أكتوبر 2025، بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بحضور المبعوثين الأمريكيين ستيفن ويتكوف وجاريد كوشنير، موفدي الرئيس دونالد ترامب، كما أعلن البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية المصرية. يشمل الاتفاق المرحلة الأولى من خطة ترامب المكونة من 20 نقطة، التي تهدف إلى تبادل الأسرى (بما في ذلك 250 أسيراً فلسطينياً مقابل رهائن إسرائيليين)، وقف إطلاق النار الدائم، فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين، وإعادة إعمار القطاع، مع ضمانات أمنية دولية. كما أعلن الرئيس ترامب عن نيته –التي نتوقع تحققها- بالحضور إلى مصر اليوم 13 أكتوبر 2025، لحضور توقيع الاتفاق النهائي، في خطوة تاريخية تعكس الشراكة بين مصر والولايات المتحدة. وفقًا لتصريحات ترامب، شهدت المفاوضات تقدماً هائلاً، حيث وافقت حماس على بنود مهمة تشمل إطلاق سراح الرهائن مقابل رفع جزئي للقوات الإسرائيلية وإدخال المساعدات الإنسانية. الجدير بالذكر هنا، أن السيد “ويتكوف” والسيد “كوشنير” أكدا مجددًا في لقائهما مع فخامة الرئيس السيسي عن تقدير الولايات المتحدة الأمريكية للدور المحوري الذي قامت به مصر لإنهاء الحرب ولاستعادة الاستقرار في المنطقة. ومن ناحيته، شدد السيد الرئيس مجددًا على أن مصر تقدر وتساند جهود الرئيس ترامب لإنهاء النزاعات وإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، مجددًا الإعراب عن تطلعه لاستقبال الرئيس “ترامب” في مصر ليشهد توقيع هذا الاتفاق التاريخي في احتفالية تليق بالحدث. والتقطة السابقة لها دلالة على كيفية إدارة الرئيس السيسي للعلاقة مع إدارة ترامب الثانية، والتي تميزت بالصبر والحكمة والرشادة، مستغلًا –سيادته- في ذلك سابق العلاقة الشخصية الطيبة التي تجمعهما قبل تولي ترامب فترة رئاسته الأولى. ومع ذلك، يظل التنفيذ معلقاً على القدرة على تحويل هذه الاتفاقات المؤقتة إلى بناء سلام دائم، وهو ما يتطلب إطاراً نظرياً متيناً يتجاوز مجرد وقف للعنف.
يستعرض هذا المقال إطارًا نظريًا شاملًا لصناعة وبناء السلام، مستلهمًا أعمال يوهان جالتونج وغيره، مع التطبيق على الدور المصري التاريخي والمعاصر. سنستعرض في هذا المقال تفاصيل معاهدة كامب ديفيد، ومحاولات أوسلو، والجهود الحديثة، مع التركيز الخاص على الفترة من 2011 إلى اليوم، بما في ذلك التطورات من أكتوبر 2023 إلى 8 أكتوبر 2025. هذا التحليل ليس مجرد سرد تاريخي، بل دعوة لفهم كيف يمكن للدبلوماسية المصرية أن تعيد رسم خريطة السلام في الشرق الأوسط، مع التركيز على التحليلات النظرية والتطبيقية لفهم الديناميكيات الراهنة.
أولًا: صناعة وبناء السلام
يُعد مفهوم “صناعة السلام” (Peacemaking) و”بناء السلام” (Peacebuilding) من أبرز الإسهامات في دراسات النزاعات والسلام، وهما يمثلان تطورًا في فهم كيفية التعامل مع الصراعات المعقدة. طور عالم السلام النرويجي يوهان جالتونج، مؤسس دراسات السلام الحديثة، إطارًا ثلاثيًا يميز بين ثلاثة مناهج أساسية: الحفاظ على السلام (Peacekeeping)، صناعة السلام (Peacemaking)، وبناء السلام (Peacebuilding). هذا الإطار، الذي نشر في مقالته الشهيرة “ثلاثة أساليب للسلام” عام 1976، يرى السلام ليس كغياب للعنف فحسب (السلام السلبي أو Negative Peace)، بل كبناء للعدالة الاجتماعية والاقتصادية (السلام الإيجابي أو Positive Peace).
1. يُعرف الحفاظ على السلام بأنه النهج “الانفصالي” (Dissociative) الذي يعتمد على توازن القوى العسكرية لمنع تصعيد العنف، كما في نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. يُوصف هذا النهج بأنه “عسكري” ومؤقت، يهدف إلى “كسب الوقت” للسماح بتقدم الجهود الأخرى، لكنه لا يعالج الأسباب الجذرية للنزاع. على سبيل المثال، في النزاعات الإقليمية، يعمل الحفاظ على السلام كدرع وقائي، لكنه يخاطر بالتحول إلى حالة من الجمود إذا لم يتبعه صناعة السلام.
2. صناعة السلام تركز على التفاوض والوساطة الدبلوماسية للوصول إلى تسويات ملموسة، مثل اتفاقيات وقف إطلاق النار أو معاهدات السلام. هذا النهج يعتمد على الدبلوماسية الوقائية لمنع العنف قبل حدوثه، ويشمل تقنيات مثل الوساطة الثالثة والحوافز الاقتصادية. جالتونج يؤكد أن هذا الأسلوب يتطلب وسطاء محايدين يجمعون بين الضغط والتشجيع، كما في حالات النزاعات الدولية حيث يُستخدم لتحويل الخصوم إلى شركاء. في سياق الصراعات المعقدة، يتداخل هذا مع نظريات حل النزاعات (Conflict Resolution Theories)، التي ترى النزاع كنتيجة لعدم التوازن في القوى أو الاهتمامات، وتدعو إلى معالجة “الأسباب الجذرية” مثل الاحتلال واللامساواة. تحليلياً، يمكن القول إن صناعة السلام تعتمد على نموذج “الفوز-الفوز” (Win-Win)، حيث يحقق كل طرف مكاسب، لكن في الصراع العربي-الإسرائيلي، غالباً ما يفشل بسبب عدم الثقة والتدخلات الخارجية، كما في فشل اتفاقيات أوسلو بسبب توسع الاستيطان.
3. أما بناء السلام، فهو الأكثر شمولًا وطويل الأمد، يشمل تعزيز الحكم الرشيد، مكافحة الفقر، تعزيز حقوق الإنسان، وإعادة الإعمار الاقتصادي لتحقيق سلام إيجابي. جالتونج يميز بين “العنف المباشر” (Direct Violence) مثل الحروب، و”العنف الهيكلي” (Structural Violence) مثل الفقر والتمييز، مطالبًا ببناء مجتمعات خالية من كليهما. هذا النهج ألهم ممارسات الأمم المتحدة، حيث أصبح بناء السلام جزءاً من الدبلوماسية الوقائية، كما في قرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن.
في النزاعات مثل الصراع العربي-الإسرائيلي، يتطلب الإطار دمج الثلاثة أساليب: الحفاظ عبر قوات متعددة الجنسيات، الصناعة عبر المؤتمرات، وبناء الثقة عبر التعاون الاقتصادي مثل مشاريع الطاقة والمياه. تحليلياً، يفشل بناء السلام عندما يركز على الجانب الأمني دون الاقتصادي، كما في غزة حيث يعيق الحصار الإسرائيلي التنمية، مما يعزز “العنف الهيكلي” ويؤدي إلى دورات عنف متكررة.
توسعًا، يمكن ربط إطار جالتونج بنظريات أخرى، مثل نموذج “مثلث الصراع” (Conflict Triangle) الذي طوره في 1969، والذي يتكون من التناقض (Contradiction)، السلوك (Attitude)، والموقف (Behavior). يرى جالتونج أن حل النزاع يتطلب تحويل كل ركن: تغيير التناقضات غير العادلة، تقليل الأحقاد، وتعديل السلوكيات العدوانية. هذا النموذج يفسر فشل العديد من الهدن المؤقتة في الشرق الأوسط، حيث يركز على السلام السلبي دون معالجة الهيكل الاستعماري. كما أن جالتونج، الذي توفي في 2024، ترك إرثًا هائلًا في “تحويل النزاع” (Conflict Transformation)، الذي يرى السلام كعملية مستمرة لا كحدث واحد. في التطبيق، يساعد هذا الإطار الوسطاء كجمهورية مصر العربية على دمج الضغط الدبلوماسي مع الحوافز، مما يحول السلام من “بارد” إلى “دافئ” ومستدام. على سبيل المثال، في مفاوضات شرم الشيخ، يمكن تحليل كيف تساهم الوساطة المصرية في تحول التناقضات، خاصة مع دعوة السيسي لترامب، التي قد تعزز الثقة الدولية وتفتح أبواباً للتعاون الاقتصادي بعد الاتفاق. هذا التحليل يبرز أهمية دمج النظرية مع الواقع لفهم كيف يمكن لمصر أن تحول الصراع إلى فرصة للسلام الإيجابي، مع التركيز على معالجة العنف الهيكلي من خلال إعادة الإعمار والتنمية.
ثانيًا: الدور المصري في الصراع العربي-الإسرائيلي منذ معاهدة السلام
يُمثل الدور المصري في الصراع العربي-الإسرائيلي تحولًا جذريًا في تاريخ المنطقة، بدءًا من معاهدة كامب ديفيد في سبتمبر 1978، التي أدت إلى معاهدة السلام الرسمية في 26 مارس 1979 بين مصر وإسرائيل. كانت هذه المعاهدة، برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، أول اتفاق سلام بين دولة عربية وإسرائيل، حيث وافقت مصر على الاعتراف بإسرائيل مقابل انسحابها الكامل من شبه جزيرة سيناء، التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967. من جهة أخرى، رفضت إسرائيل مطالب مصر بانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أدى إلى “سلام بارد” يركز على عدم الاشتباك العسكري، لكنه أنهى في القوت نفسه حالة الحرب الرسمية وأنقذ حياة آلاف. تحليليًا، تمثل هذه المعاهدة تطبيقًا لنهج صناعة السلام في إطار جالتونج، حيث حققت سلامًا يقترب كثيرًا من مفهوم السلام السلبي لكنها فشلت في بناء سلام إيجابي بسبب عدم معالجة التناقضات الجذرية.
بعد انسحاب إسرائيل من شرق سيناء في 25 أبريل 1982، سعى الرئيس حسني مبارك إلى إنهاء عزلة مصر في العالم العربي من خلال دعم عملية السلام الشاملة. في الثمانينيات، استضافت مصر مؤتمرات لتعزيز الثقة، مثل تلك المتعلقة بقوات حفظ السلام متعددة الجنسيات في سيناء، مما يعكس تطبيقاً لنهج جالتونج في الحفاظ على السلام. ومع ذلك، بقي السلام محدودًا بسبب رفض إسرائيل التزاماتها الكاملة، كما التوسع في المستوطنات، وانتهاكات حدودية متكررة. تحليليًا، يظهر ذلك كيف يفشل الحفاظ على السلام عندما لا يتبعه بناء، حيث أدى إلى “سلام بارد” يعتمد على التوازن العسكري دون تعزيز الروابط الاقتصادية أو الثقافية.
في التسعينيات، امتد الدور المصري إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث ساهمت مصر في اتفاقيات أوسلو (1993-1995)، وتم تأسيس السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة لمدة خمس سنوات انتقالية، مع التركيز على الانسحاب التدريجي الإسرائيلي. كانت مصر شريكًا في الجهود الأمريكية-الأوروبية، لكن توسع المستوطنات الإسرائيلية بنسبة 50% خلال تلك الفترة أدى إلى فشل الاتفاقيات، مما أثار الانتفاضة الثانية في 2000. في 1999، استضافت مصر قمة شرم الشيخ، التي جمعت الرئيس بيل كلينتون، ياسر عرفات، وإيهود باراك، لكنها انهارت بسبب خلافات حول القدس واللاجئين، مما يبرز تحديات صناعة السلام في مواجهة التناقضات الهيكلية. تكشف هذه الفترة عن دور مصر كوسيط يجمع بين الضغط العربي والدعم الدولي، لكن الفشل يعود إلى عدم دمج بناء السلام، مثل برامج التنمية المشتركة، التي كانت ستقلل من “العنف الهيكلي”.
مع اندلاع الثورة المصرية في يناير 2011، شهد الدور المصري تحولات دراماتيكية، فبعد تخلي نظام مبارك عن الحكم، تولى المجلي الأعلى للقوات المسلحة إدارة المرحلة الانتقالية، إلى أن سلمها للمرشح الفائز في الانتخابات الرئاسية عام 2012. خلال فترة هذا الرئيس الإخواني، اتخذت مصر موقفًا أكثر دعمًا لحركة حماس، التي ترتبط بالإخوان أيديولوجيًا. في نوفمبر 2012، توسط مرسي في وقف إطلاق نار بين إسرائيل وحماس أثناء عملية “عمود السحاب”، التي أسفرت عن مقتل 160 فلسطينيًا، مما عزز مصداقية مصر كوسيط لكنه أثار مخاوف إسرائيلية من تقارب مع حماس.
ومع الثورة الشعبية المصرية العظيمة "ثورة الثلاثين من يونيو 2013"، وتولي الرئيس السيسي الحكم عام 2014، عادت مصر إلى سياسة توازن بين الالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل ودعم القضية الفلسطينية، مع التدخل القوي لإقرار المصالحة بين الفصائل الفلسطينية. في 2014، نجحت مصر في وقف إطلاق نار في غزة بعد عملية “الجرف الصلب”، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 2200 فلسطيني، من خلال اتفاق يشمل فتح المعابر وإدخال المساعدات. كما أغلقت مصر أنفاقًا تحت الحدود مع غزة لمكافحة التهريب. بين 2014 و2023، شهدت العلاقات المصرية-الإسرائيلية تحسنًا في التعاون الاقتصادي، مثل صفقات الغاز، لكن الصراع الفلسطيني أثر سلبًا. وعادت مصر في 2021، لكي تتوسط في هدنة أخرى، وساهمت في إعادة إعمار غزة بمبلغ 500 مليون دولار، مما يعكس تطبيقًا لبناء السلام الإيجابي.
رغم الإنجازات، نجد أنه مع توسع المستوطنات الإسرائيلية في 2020، واجهت مصر انتقادات بأنها لا تحاول أن تطور “السلام البارد”، حيث رفضت مصر “صفقة القرن” الأمريكية، مطالبة بحل الدولتين، مما يبرز دورها كوسيط متوازن. هكذا، تحول الدور المصري من مواجهة عسكرية إلى دبلوماسية بناءة، محاولة تحقيق السلام الإيجابي، الذي يظل حاسمًا في مواجهة مخاطر الاستقرار الإقليمي كما في حروب غزة المستمرة التي تقوض كل فرص التوصل إلى تسوية شاملة.
ثالثًا: محاولات صناعة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين من أوسلو إلى اليوم
بالعودة للوراء، بدأت محاولات السلام الجادة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع اتفاقيات أوسلو في سبتمبر 1993، التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في أوسلو بالنرويج، برعاية أمريكية-نرويجية. أسست هذه الاتفاقيات السلطة الفلسطينية ككيان انتقالي لمدة خمس سنوات، مع التركيز على الانسحاب الإسرائيلي من غزة والضفة، والتفاوض على القضايا النهائية مثل الحدود، القدس، واللاجئين. وقد ساهمت مصر في دعمها من خلال استضافة اجتماعات تنسيقية وتقديم ضمانات أمنية، لكن توسع الاستيطان الإسرائيلي بنسبة 300% بين 1993 و2000 أدى إلى فشلها، مما أثار الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 4000 فلسطيني. نجد أنأوسلو قد فشلت بسبب عدم معالجة “العنف الهيكلي”، حيث ركزت على السلام السلبي دون بناء مجتمعات مستدامة، مما أدى إلى فقدان الثقة وتعزيز الراديكالية.
في يوليو 2000، فشلت قمة كامب ديفيد الثانية، برعاية كلينتون، بسبب خلافات حول سيطرة إسرائيل على القدس الشريف وعودة اللاجئين، مما أدى إلى تصعيد العنف وانتخاب أرييل شارون رئيسًا للوزراء الإسرائيلي. ثم جاءت “خريطة الطريق” في أبريل 2003، برعاية أمريكية-أوروبية-روسية-أممية، التي حددت مراحل لإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية بحلول 2005، لكنها توقفت بسبب وفاة ياسر عرفات في 2004 وصعود حماس في انتخابات 2006، مما أدى إلى انقسام فلسطيني داخلي. في 2007-2008، توسطت مصر في هدنة داخل غزة لستة أشهر، لكن عملية “الرصاص المصبوب” في 2008-2009 أنهتها، مسفرة عن 1400 قتيل فلسطيني. يظهر ما سبق كيف تفشل عملية صناعة السلام عندما لا تدعم ببناء، حيث أدى الانقسام بين الفصائل إلى إضعاف الموقف الفلسطيني.
في 2013، شاركت مصر في مؤتمر أنابوليس، الذي سعى لاستئناف المفاوضات، لكن الانتخابات الإسرائيلية وصعود نتنياهو أعاقت التقدم في المفاوضات. مع اندلاع حرب غزة 2014، نجحت مصر في هدنة شملت فتح المعابر، وفي 2021، توسطت بعد 11 يومًا من القتال. أما ما بعد أحداث أكتوبر 2023، فقد لعبت مصر دورًا حاسمًا في فتح معبر رفح لإنفاذ ـ500 شاحنة يوميًا من المساعدات، رغم القصف الإسرائيلي على المعبر من الجانب الفلسطيني. في نوفمبر 2023، توسطت مصر في هدنة أولى شملت تبادل 105 أسرى، لكنها فشلت بسبب السياسات الحمقاء وممارسة غطرسة القوة من الجانب الإسرائيلي.
من أكتوبر 2023 إلى اليوم، كانت وساطة مصر محورية في مواجهة الحرب في غزة، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 42 ألف فلسطيني بحلول أكتوبر 2025. في ديسمبر 2023، اقترحت مصر مبادرة وقف إطلاق نار تعتمد على إفراج حماس عن رهائن مقابل وقف العمليات العسكرية، لكنها فشلت بسبب رفض إسرائيل الانسحاب الكامل. في مايو 2024، ساعدت مصر في مفاوضات القاهرة، التي أدت إلى هدنة مؤقتة، لكن الضربات الإسرائيلية في رفح في يونيو 2024 أدت إلى العودة للمربع صفر في ظل توتر كبير للعلاقات المصرية-الإسرائيلية، وصلت لأن هددت مصر ضمنًا بإعادة النظر في معاهدة السلام. بحلول أغسطس 2025، دعمت مصر جهود التوحيد الفلسطيني بين فتح وحماس، واستضافت اجتماعات في القاهرة لتشكيل حكومة موحدة، مما يعالج الانقسام منذ 2007.
تكشف هذه المحاولات عن تحديات الإطار النظري المتمثلة في؛ التركيز على السلام السلبي دون بناء إيجابي، حيث فشلت الوساطة في معالجة الانقسام الفلسطيني، كما في محاولات 2024. مصر، كوسيط، دمجت بين الضغط الأمريكي والدعم العربي، مستفيدة من موقعها الجغرافي كوسيط مقبول لطرفي الصراع، إسرائيل وغزة، بهدف بناء وتعزيز الثقة. ومع ذلك، يظل الاحتلال والاستيطان العقبة الأكبر، حيث بلغ عدد المستوطنين 700 ألف بحلول 2025، مما يعيق السلام الإيجابي ويؤدي إلى تصعيد محتمل.
رابعًا: مفاوضات شرم الشيخ 2025
انطلقت مفاوضات شرم الشيخ في 6 أكتوبر 2025، عشية الذكرى الثانية لحرب غزة، برعاية مصرية-قطرية-أمريكية، وتهدف إلى تنفيذ الـ20 نقطة الواردة في خطة ترامب، التي تشمل وقفًا فوريًا لإطلاق النار، تبادل أسرى (50 إسرائيلي مقابل 500 فلسطيني)، إعادة إعمار غزة بـ50 مليار دولار، وضمانات أمنية للطرفين. يتشكل الوفد الإسرائيلي، بقيادة مسؤولين أمنيين مثل رونين بار، التقى بوفد من حركة حماس بصورة غير مباشرة بقيادة خليل الحية. حيث أعلن ترامب عن “تقدم هائل”، وأن حماس وافقت على بنود رئيسية تشمل قوائم التبادل.
تمثل هذه المفاوضات مزيجًا بين صناعة السلام عبر التفاوض الغير مباشر، مع واقع البناء والتنمية عبر الإعمار وتقديم المساعدات بتعهدات دولية.وكالعادة يظل دور مصر حاسمًا، كما في استضافتها للوفود وتقديم ضمانات أمنية، مستفيدة من تجربتها في 2014. تشمل العقبات مطالب حماس بانسحاب الدبابات وعودة النازحين، مقابل رفض إسرائيل لأي تنازلات جذرية، كما أفاد مسؤول فلسطيني. ودلت المؤشرات الأوليةبأن الجلسة الثانية انتهت “إيجابيًا”، مع تركيز على الاتفاق الشامل قبل التنفيذ، خلافًا للجولات السابقة. ومع ذلك، قد تستمر هذه المفاوضات أسابيع وفقًا لخبرة مثل هذا النوع من المفاوضات، خاصة مع ضغوط داخلية في إسرائيل، وخروقات أمنية متوقعة من المتشددين في الجانبين. بصفة عامة، يعكس ما سبق تطبيقًا ناجحًا للدبلوماسية الوقائية، لكن النجاح الكامل يتطلب ضمانات دولية للسلام الإيجابي، كما دعا مستشار الرئيس الفرنسي.
يعزز توسيع المشاركة الدولية، بما في ذلك تركيا وقطر، ودعوة الفصائل الفلسطينية المتشابهة مع حماس فكريًا وعقائديًا، من فرص “تحويل النزاع” بتغيير السلوكيات، لكن القصف الإسرائيلي المستمر يعيق بناء الثقة.
في اليوم الثالث، 8 أكتوبر (وقت كتابة هذا المقال)، أفادت مصادر بتقدم في مناقشة التعافي والإعمار، مع اقتراح مصري لصندوق دولي بقيادة الأمم المتحدة، لكن قصف إسرائيلي في غزة أثناء الجلسات أثار توترًا، مسفرًا عن مقتل 10 فلسطينيين. الأمور تشير إلى اقتراب اتفاق لإنهاء الحرب، مما يعزز الأمل، لكن الوسطاء يحذرون من عدم الإسراع. في سياق متصل، ألقى الرئيس السيسي كلمة في نفس اليوم الثالث في حفل تخرج دفعة 2025 من كلية الشرطة، أشاد فيها بجهود ترامب في حل الأزمة، وصف التقارير الواردة من عملية التفاوض بأنها “مشجعة للغاية”، ودعا ترامب لحضور توقيع الاتفاق النهائي في شرم الشيخ إذا تم التوصل إليه، مؤكدًا دعم مصر الكامل للمفاوضات ودعوته جميع الأطراف لانتهاز الفرصة الراهنة لإنهاء الحرب. كما شدد على قدرة مصر على التصدي لأي خطر، وأن أي تحدٍّ يمكن تجاوزه بفضل وحدة الشعب المصري، مع الإشارة إلى تحسن المؤشرات الاقتصادية رغم الظروف.
هذه الكلمة للرئيس السيسي تعزز من دور مصر كوسيط، وتجسد السلام الإيجابي من خلال دعوة ترامب لحضور توقيع الاتفاق، مما قد ينقل المفاوضات إلى مرحلة جديدة، مع تحليل أنها تعكس ثقة مصر في التقدم رغم التحديات. يمثل هذا الاتفاق نجاحًا لصناعة السلام، مع التركيز على بناء إيجابي عبر الإعمار وإدخال المساعدات. دور مصر حاسم، كما هو دور الوسطاء القطري والتركي. ويبقى التحدي في التنفيذ، مع ضمانات دولية للسلام الإيجابي.
فرغم التقدم، تواجه المفاوضات للمراحل اللاحقة تحديات عديدة، تتمثل في؛ الضغط الداخلي في إسرائيل من اليمين المتطرف، الانقسام الفلسطيني. قد يؤدي فشل المفاوضات إلى تصعيد جديد، لكن المؤكد أن مصر يمكنها تعزيز بناء السلام عبر مشاريع مشتركة مثل الطاقة والمياه، ودعم حل الدولتين، وإذا نجحت الخطة المصرية خاصة مع دعوة الرئيس السيسي لترامب، قد تكون خطوة نحو سلام إقليمي، بما يعزز مكانة مصر الإقليمية والدولية كشريك دولي فاعل ووسيط شريف يحكم العقل والرشادة على اعتبارات التهور والغطرسة.
مصر، من كامب ديفيد إلى شرم الشيخ 2025، جسدت الإطار النظري لصناعة السلام ببراعة. ومع كلمة السيسي في كلية الشرطة ودعوته لترامب لحضور التوقيع في القاهرة، تُثبت مصر أن السلام ممكن إذا تجاوز السلبي إلى الإيجابي، محققًا عدالة للجميع في الشرق الأوسط، بما يمثله ذلك من مكسب للمبدأ المصري “المكسب للجميع”، وتحول أطول صراع في الإقليم إلى WIN WIN Game.
نقلا عن جريدة الجمهورية، الأحد 12 أكتوبر 2025.