من المجلة - ملف خاص: 50 عامًا على انتصار أكتوبر 73

حرب أكتوبر والتغير فى التخطيط العسكرى العالمى

طباعة

وصف العالم حرب أكتوبر المجيدة بالإعجاز العسكرى، لتغلبها على أعظم مانع دفاعى مركب من قناة مائية عرضها لا يقل عن 100م وعمقها من 50 إلى 60 قدما وساتر ترابى على جانبها الشرقى بارتفاع يصل إلى 20م بزاوية حادة على سطح الماء، بالإضافة إلى الألغام والموانع الصناعية والدشم ونقاط الخط الدفاعى الحصين المدعومة بالصواريخ بأنواعها والمدفعية. كما رفعها الخبراء والمحللون العسكريون إلى مرتبة المرجع التاريخى العسكرى، لأنها بنيت على فكر وتخطيط استراتيجى عسكرى وسياسى عظيم أثر فى الفكر الاستراتيجى العالمى فيما بعد، حيث اتخذت مصر من العلوم الاستراتيجية الحديثة وخبرة الحروب والمعارك فى الحرب العالمية الثانية منهاجا للإعداد والتحضير والتنفيذ، وكانت عناصر قوى الدولة الشاملة حاضرة أمام المخططين لها فكانت النتيجة المبهرة.
لمعرفة تأثير حرب أكتوبر فى الفكر الاستراتيجى عموما، لا بد من عرض الفكر الاستراتيجى الذى بنى عليه التخطيط لهذه الحرب، والنتائج التى تحققت نتيجة استخدام وتنفيذ هذا الفكر، سواء فى التخطيط والإعداد للحرب أو فى أثناء القتال والحرب ذاتها، ثم بعد الانتهاء من القتال ووقف إطلاق النيران الثابت. 

أولا- الفكر الاستراتيجى لمجابهة هزيمة يونيو 1967:

بعد رفض الشعب تنحى القيادة السياسية والإصرار على استكمال الحرب لاستعادة وتحرير الأرض تحت القيادة نفسها وتأييدها فيما تتخذه من قرارات لاستعادة ما سلب من الأراضى المصرية، اجتمعت هذه القيادة واستقرت على تحديد الأهداف الاستراتيجية لمعالجة آثار الهزيمة والعمل على تحرير الأرض من خلال ما يأتى:
أ- تجهيز مسرح العمليات الجديد غرب وشرق القناة، مع ما يلزمه من التجهيزات لعبور القناة.  ب- إعادة بناء وتنظيم القوات المسلحة من جديد وإعادة تجميعها بعد عودة القوات من اليمن. ج- وضعت القيادة السياسية مبدأً عامًا وهدفًا رئيسيًا، هو «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».   د- العمل على تجميع الصف العربى ومعالجة الآثار السلبية للحرب فى اليمن. ﻫ- إنشاء المؤسسات التشريعية لشئون الدفاع وتنظيم أسلوب القيادة والسيطرة على القوات المسلحة، ليكون قرار الحرب مؤسسيًا. و- تجهيز المسرح السياسى الدولى والإقليمى لما ستقدم عليه مصر والعرب لتحرير الأرض. ز- استغلال تأثر المجتمع الدولى بغلق قناة السويس وما يتحمله من خسائر وزيادة فى تكاليف النقل والتجارة العالمية.

إعادة بناء وتنظيم القوات المسلحة: 

بعد توقف الحرب فى 10 يونيو عام 1967، بدأت مصر فى تعديل أوضاعها ووضع الأسس والمبادئ السياسية والعسكرية السليمة لإعادة تنظيم وبناء القوات المسلحة على أسس علمية لتقود مسيرتها الشاقة المقبلة.  كانت أولى الخطوات هى البدء فى إعادة بناء القوات والإعداد المعنوى والعملى للمقاتل، وكذا إعداد الجبهة الداخلية. وأصدرت القيادة العسكرية المصرية توجيهات، قبل انتهاء شهر يونيو 1967، جاء فيها: «إن مرحلة إعادة التنظيم بنيت على أساس عزيمة وإيمان المقاتل فى جيشنا وقدراته على القتال، معتمدًا على الضبط والربط والأخلاق، والروح القتالية تمهيدا لإعادة سيناء بالكامل. وقد ألغى بند الانسحاب من قاموس التدريب أو العمليات وأن نموت جميعا فى مواقعنا الدفاعية أشرف لنا من وصمنا بالعار، ووصمة الشرف العسكرى الذى نتحلى به». كان هذا الأمر تصحيحا للعرف السائد منذ عام 1956 بارتداد الجيش، على أن تتولى السياسة تصحيح الأوضاع.  سارعت القوات المسلحة المصرية على امتداد الجبهة بتنظيم الدفاعات بما تيسر لها من قوات وإمكانيات. مثلا، الدبابات لا تزيد على 100 دبابة، ومدفعية الميدان 150 مدفعا، وهكذا باقى الأسلحة القتالية أو المعاونة. وفى 10 يونيو 1967، أخذت فى التزايد من خلال المساعدات من الدول العربية والصديقة، التى سارعت بإرسال أسلحة ومعدات، بالإضافة إلى تنفيذ الاتحاد السوفيتى بعض عقود صفقات أسلحة قديمة، ما مكَّن من إنشاء وحدات فرعية ووحدات وتشكيلات ميدانية جديدة لتصل كفاءة القوات المسلحة إلى نحو 50% من الكفاءة المقررة لها فى نهاية عام 1967. كما أن التصالح العربى فى مؤتمر قمة الخرطوم ساعد على سحب القوات المصرية من اليمن لتتولى مسئوليتها الوطنية على الجبهة المصرية فى القناة بعد إعادة رفع كفاءتها القتالية والفنية. وقامت القيادة العامة للقوات المسلحة بإعادة التنظيم على النحو التالى:

أ- على مستوى الوحدات الفرعية والوحدات والتشكيلات: تم تعديل التنظيم للوحدات الفرعية والوحدات والتشكيلات بما يتناسب مع المهام التى حددت لها، فدُعمت بالأسلحة، إما بضمها ضمن صلب التنظيم أو الإلحاق الدائم، مثل الوحدات الفرعية للمشاة التى أُلحق بها وإليها عناصر مضادة للدبابات ودفاع جوى، وكذلك الوحدات المشاة او الميكانيكية بضم وحدات فرعية من الدبابات والمدفعية والمضادة للدبابات، وهكذا الوحدات المدرعة وإعادة تنظيم التشكيلات المشاة الميكانيكية، لتصبح وحدتي مشاة ميكانيكية ووحدة مدرعات، بالإضافة لوحدات المدفعية والدفاع الجوى والأسلحة المتخصصة.

ب- على المستويين التعبوى والاستراتيجى: انتهت القيادة العامة للقوات المسلحة من إعادة التنظيم لعناصرها على المستويين التعبوى والاستراتيجى كالآتى:

- على المستوى التعبوى: أُعيد تنظيم جبهة قناة السويس بإلغاء قيادة المنطقة الشرقية وتشكيل قيادتين تعوبيتين جديدتين، هما الجيش الثانى الميدانى والجيش الثالث الميدانى ولكل منهما التجميع القتالى المناسب لتنفيذ المهام المحددة لكل منهما، سواء كانت الدفاعية أو الهجومية المنتظرة، مع توفير الدعم اللازم تحت قيادة كل منهما وفى نطاق مسئوليتهما. كما شُكِّلت أربع مناطق عسكرية إقليمية، هى المنطقة المركزية، والمنطقة الشمالية، والمنطقة الغربية، والمنطقة الجنوبية.

- على المستوى الاستراتيجى: شُكِّل فرع رئيسى من أفرع القوات المسلحة، هو قيادة قوات الدفاع الجوى وتكونت لها قيادة استراتيجية بعد أن كانت تتبع إدارة المدفعية تنظيميا والقوات الجوية فى إدارة أعمال القتال، وهى مسئولة عن الدفاع الجوى عن الدولة، والتشكيلات البرية. كما شُكلت قيادة قوات الدفاع الشعبى التى تتولى الحماية المدنية للأهداف الحيوية بالمحافظات، بالتعاون مع الشرطة المدنية، بالإضافة إلى وحدات فنية وإدارية وطبية على مستوى القيادة العامة لدعم أعمال الجيوش والمناطق العسكرية فى أثناء الإعداد للحرب أو فى أثناء العمليات الحربية، وكذا إنشاء وتوسع المنشآت التعليمية والتدريبية لاستيعاب حجم وتخصصات المجندين الجدد طبقا لمتطلبات الإدارات التخصصية وميادين التدريب المركزية اللازمة.

مبدأ ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة:

وضعت القيادة السياسية لمصر مبدًأ عامًا وهدفًا رئيسيًا وهو «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، أى أن مصر لا تعترف بالهزيمة المطلقة التى تؤدى إلى الاستسلام كما تريد الدولة الصهيونية والدول الداعمة لها وإملاء شروطها وهى المنتصرة كما فعل الحلفاء مع دول المحور فى نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالتالى، فرض أمر واقع هو أن الصراع فى المنطقة سيظل مستمرا، وتحويل مفهوم حرب يونيو إلى أنها ما هى إلا معركة من معارك الصراع العربى-الإسرائيلى، وأن الحرب بمفهومها الواسع لا تزال قائمة، وذلك لتدعيم العقيدة العسكرية المصرية التى ستبنى عليها العقائد التخصصية للقوات المسلحة بأفرعها المختلفة، وفى مجالاتها المختلفة أيضا، مثل التدريب والتسليح وما يلزم ذلك من إجراءات تنفيذية.

  تجميع الصف العربى: 

عقد مؤتمر قمة لدول الجامعة العربية بالخرطوم تحت رعاية سودانية فى الفترة من 29 أغسطس إلى أول سبتمبر1967، وقد خصص المؤتمر بأكمله بغرض إجراء مصالحة بين دول عربية جرت بينها خلافات أدت إلى قطيعة تامة وانقسامات متباينة فى رؤاها وسياساتها. تدارس الملوك والرؤساء وممثلوهم أبعاد العدوان الذى تعرضت له الدول العربية فى الخامس من يونيو 1967، وقرروا أن إزالة آثار العدوان من الأراضى العربية، وهى مسئولية جميع الدول العربية، تحتم تعبئة الطاقات العربية، وهى كفيلة بإزالة آثار العدوان، ويجب أن تكون حافزا قويا لوحدة الصف العربى. وقد عرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاث وهى «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيونى قبل أن يعود الحق لأصحابه». وحضرت كل الدول العربية المؤتمر باستثناء سوريا. 

المؤسسات التشريعية لشئون الدفاع وتنظيم أسلوب القيادة والسيطرة على القوات المسلحة:

إن غياب المؤسسات التشريعية لشئون الدفاع عن الدولة، وتنظيم أسلوب القيادة والسيطرة على القوات المسلحة أوجد فارقا كبيرا ومؤثرا بين الاستراتيجية السياسية، التى كان يتبعها رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، والاستراتيجية العسكرية التى كان يخطط لها ويديرها وزير الحربية. هذا الأمر أخل بالتوازن بين المستويين وهبط بالاستراتيجية العسكرية وجعلها دون مستوى الاستراتيجية السياسية وفشل فى مساندتها أو عرض وبيان مطالبها الضرورية للموافقة على قرار الحرب من عدمه. لذا، حدث تحول فى الفكر الاستراتيجى الجديد عندما رأت القيادة السياسية المصرية تطوير أسلوب اتخاذ القرارات الاستراتيجية باتباع النهج العلمى المؤسسى واتباع أحدث ما وصلت إليه العلوم الاستراتيجية، وذلك بإنشاء آليات جديدة لاتخاذ قرار الحرب، وهى:
أ- إصدار قرار جمهورى بقانون رقم4/1968 بشأن القيادة والسيطرة وسلطات رئيس الجمهورية، ووزير الدفاع، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة، وإنشاء مجلس الدفاع الوطنى، وإنشاء مجلس أعلى للقوات المسلحة. ب- إصدار قرار جمهورى رقم 86/86 بتحديد اختصاصات مجلس الدفاع الوطنى.   ج- إصدار قرار جمهورى رقم 128/68 وتعديله رقم 446/70 بتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
إن ما سبق من إصدار تلك التشريعات المؤسسية، خاصة مجلس الدفاع الوطنى، قد حدد تكوينه ومهامه ليكون المسئول عن وضع السياسة العسكرية لمصر، ودراسة التحديات والتهديدات، وتقييم المخاطر ودرجاتها وأنسب أسلوب لمواجهتها (إعداد دولة وقوات مسلحة، وتكاليف الحرب المنتظرة ماديا وبشريا، وتوقيتها ومدتها اللازمة، والوضع السياسى المناسب) واتخاذ قرار الحرب فى الوقت المناسب، وتأكيد ان قرار الحرب أصبح مؤسسيا وليس فرديا.

المسرح السياسى قبل حرب أكتوبر: 

نتيجة لانتصار إسرائيل فى حرب يونيو عام 1967، نجحت تل أبيب والولايات المتحدة فى تحقيق أهدافهما الاستراتيجية التى سعت إليها، وهى حصار مصر داخل حدودها وضمان التفوق العسكرى لإسرائيل التى هى أداة التنفيذ والحفاظ على المصالح الغربية، وإطلاق يد واشنطن فى الشرق الأوسط وتحجيم حركة عدم الانحياز.  أصرت إسرائيل على رفض الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة، ما تسبب فى استمرار حالة الحرب، وظل اعتقادها بأن القوة العسكرية هى الحاسمة لتحقيق الأهداف. وبدأت فى توسيع استيطانها فى الأراضى المحتلة، ودعم وتطوير قدراتها العسكرية، متخذة من نظرية الأمن الإسرائيلى شعارا لتحقـيق أهدافها التوسعية، ووسيلة لخداع الرأى العام العالمى. بدأ النشاط السياسى العربى بإزالة الخلافات العربية-العربية بعقد مؤتمر الخرطوم، الذى جاءت قراراته داعمة لمصر (عودة قواتها من اليمن - الدعم المالى عوضا عن إغلاق قناة السويس)على كلا المستويين العربى والدولى، حيث كان صدور القرار رقم 242 عن مجلس الأمن. لم ترفض مصر جهود الحل السلمى، بل سمحت للاتحاد السوفيتى بالقيام بكل ما يراه مناسبا فى هذا المضمار، وإجراء اتصالاته مع جميع الأطراف بشرط عدم التفاوض مع إسرائيل إلا بعد الانسحاب من الأراضى التى احتلتها، مع عدم التنازل عن أى جزء منها.  كان منهج السياسة الخارجية المصرية مبنيا على أساس رفض الهزيمة العسكرية وعدّ ما حدث جولة من الجولات وليست نهايتها، ولا استسلام، ما تطلب أسلوبا من العمل وفق الخطوات الآتية:
1- العمل السياسى لكسب الوقت دون الوصول إلى حل كغطاء حتى تتم إعادة واستكمال القدرة العسكرية المصرية لتكون داعمة فى الوصول لحل المشكلة. 2- إقناع الرأى العام العالمى بأننا لا نريد الحرب من أجل الحرب، وإنما من أجل استعادة الأرض المغتصبة بالقوة وتحقيق أهداف الشعب الفلسطينى.
كان منهج ووسيلة العمل السياسى العربى، على الصعيدين الدولى والدبلوماسى، فى الفترة ما بين حربَى 1967 و1973، أن أى مباحثات أو مفاوضات لمبادرات لحل الأزمة تتعامل من قاعدة الأساس، وهو قرار مجلس الأمن رقم 242، الصادر فى 22 نوفمبر 1967. وقد قبلته، آنذاك، كل من مصر والأردن, ورفضته سوريا, وعين الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثا شخصيا له، هو السفير السويدى جونار يارنج Gunnar Jarring، ليقوم بالاتصالات مع مصر والأردن وإسرائيل من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن، واستمر هذا الوسيط الدولى فى اتصالاته حتى نشبت حرب 1973. بالإضافة إلى مهمة الوسيط الدولى وجهوده، نشطت وساطات ومبادرات متعددة، باءت جميعها، ومعها جهود الوسيط الدولى، إلى الفشل، بسبب تعنّت إسرائيل، وتهربها من الالتزام بأحكام القرار رقم242، خاصة ما يتعلق بالانسحاب من الأراضى المحتلة. دعا ذلك الأمر مصر إلى اللجوء إلى مجلس الأمن فى يوليو 1973، لمناقشة المأزق الذى وصلت إليه المساعى لحل الأزمة، وكانت تأمل استصدار قرار من المجلس، يوضح ويعدل القرار 242، فى شأن الانسحاب من الأراضى المحتلة وحقوق الشعب الفلسطينى. غير أن مشروع القرار، رغم الأكثرية اللازمة، سقط بحق النقض «Veto»، الذى استخدمته أمريكا.

تجهيز مسرح العمليات الجديد غرب وشرق القناة: 

استطاعت القوات المصرية أن تحشد فى نوفمبر 1967 خمسة ألوية مشاة ولواءيْن مدرعيْن وخمس كتائب صاعقة، على طول القناة، وأن توالى التعبئة والحشد حتى أصبح النسق الدفاعى الأوّل بطول 170كم، وعمق 60كم. وقد انضم إلى هذا النسق قوة جزائرية رمزية، زاد حجمها فيما بعد، حتى أصبحت فى حجم لواء مشاة وأقيم الخـط الدفاعى غربى القناة.  كان جهد القيادة المصرية منصبا على إعادة بناء القوات المسلحة وتدريبها وتسليحها. وكانت أولى المهام التالية لدحر العدو وهزيمته وعدم تمكينه من عبور القناة غربا باحتلال القوات للمناطق الدفاعية لها هى العمل بالتجهيز الهندسى ابتداء بحفر ما يسمى الحفر البرميلية لكل فرد لتأمينه ضد نيران مدفعية وقذف طائرات العدو وبإيواء وتأمين الأسلحة وإنشاء الخنادق الدفاعية ومرابض الاشتباك للأسلحة أولا، ثم أماكن التأمين للأفراد. وبعد توافر المواد الهندسية اللازمة لإنشاء التحصينات وبتدفق القوات طبقا للخطة الدفاعية، تقوم بإضافة التجهيزات الهندسية المطلوبة وذلك لحين انتهاء المهندسين العسكريين من إنشاء وإقامة الموانع والألغام المطلوبة للخطة الدفاعية. تم البدء على المستوى الاستراتيجى بإقامة وإنشاء التجهيزات الميدانية لكتائب الصواريخ ورادارات الإنذار لوحدات وتشكيلات قوات الدفاع الجوى، وكذلك كل متطلبات القوات الجوية الخاصة بالمطارات والقواعد الجوية من تحصينات ودشم للطائرات، خاصة الجديدة وتطوير الممرات وكل ما يلزم القوات الجوية.

استغلال تأثر المجتمع الدولى بإغلاق قناة السويس:

تأثر المجتمع الدولى من جراء آثار حرب يونيو 67، حيث أغلقت قناة السويس وتأثرت حركة التجارة العالمية وما تسببت فيه من آثار سلبية على الاقتصاد العالمى، خاصة فى مجال النفط نتيجة زيادة طول خطوط المواصلات وتعرضها للمخاطر، وزيادة تكلفة الشحن، ما دفع المجتمع الدولى إلى إجراء محاولات كثيرة لتحقيق السلام بين الأطراف المتصارعة. فقدمت الأمم المتحدة مبعوثها الخاص جونار يارنج الذى بذل جهودا كبيرة لتقريب وجهات النظر، غير أنه فشل بسبب التعنت الإسرائيلى. كما قدم عبد الناصر مبادرة ورفضت أيضا، وقدمت الولايات المتحدة مقترحاتها للحل وبعثت وزير خارجيتها روجرز وظل يعمل بين فشل ونجاح حتى استطاع الوصول إلى وقف إطلاق النيران فى أغسطس 1970، ثم تجمد الموقف فى «حالة اللاسلم واللاحرب» بسبب الوفاق بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة، ومن ثم، تراجعت قضية الشرق الأوسط للأولوية الثالثة من الاهتمام الدولى، ووفقت الدول الغربية أوضاعها على تحمل آثار إغلاق قناة السويس، ما دفع إسرائيل للاستمرار فى التعنت ورفض السلام.
ثانيا- الفكر الاستراتيجى فى حرب أكتوبر 1973:
اعتمدت مصر على نفسها، وعلى الدعم العربى ووضعت استراتيجيتها لتنفيذ قاعدة «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، فانتهجت حرب الاستنزاف منهجا وطريقا لإعادة بناء القوات المسلحة، تنظيما وتدريبا ومعنويا، وبناء الدفاعات غرب القناة مع استمرار القتال، كما استخدمت الدبلوماسية (المجال السياسى) لإثبات أنها تسعى إلى الانسحاب الإسرائيلى وتحقيق أهداف الشعب الفلسطينى وإقناع العالم بصفة عامة والاتحاد السوفيتى بصفة خاصــة بأنها لا تريد الحرب من أجل الحرب، مع المحافظة على صلابة الجبهة الداخلية والتضامن العربى، لتهيئة المسرح السياسى الدولى والإقليمى لاسترداد الحقوق المشروعة.
مراحل الإعداد التى سبقت حرب أكتوبر 1973:

أ- مرحلة الصمود: امتدت من يونيو 1967إلى أغسطس 1968. ويمكن تلخيص أهم الأحداث المؤثرة فى هذه المرحلة فى الآتى:
- معركتا رأس العش (يومى 1 و 2 يوليو 1967) جنوب بور فؤاد (8 يوليو 1967) وخسرتهما إسرائيل عند محاولة استكمال احتلال شرق بورسعيد بالاستيلاء على بورفؤاد.  - الاشتباكات الجوية يومى (14و 15 يوليو 1967)، والهجمة الجوية المصرية العنيفة على التجمعات الإسرائيلية شرق القناة، وبث الرعب فى قلوب الإسرائيليين، وقد اعترفت إسرائيل بأن خسائرها كانت كبيرة فى الاشتباكات. - تكرار التراشقات بالأسلحة الصغيرة والمدفعية وزادت حدتها خلال سبتمبر 1967، ما أدى إلى قيام إسرائيل بقصف مدن القناة قصفا وحشيا بالمدفعية وقتل عدد كبير جدا من المدنيين. - إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات فى 21 أكتوبر 1967 التى اقتربت من بورسعيد فأطلقت البحرية المصرية صواريخها وبلغت خسائر إسرائيل نتيجة لذلك نحو 300 فرد. وقد غيرت هذه الواقعة المفاهيم البحرية وأصبح الاعتماد على الوحدات الصاروخية الصغيرة الحجم أفضل من السفن الكبيرة مثل البوارج والفرقاطات.  - قصف معامل تكرير البترول المصرية فى السويس فى 23 أكتوبر 1967 (بعد 3 أيام من تدمير إيلات) بصورة انتقامية حيث أحدثت بها إسرائيل أضرارا بالغة.

ب- مرحلة الردع (الدفاع النشط)، واستمرت من سبتمبر 1968 إلى فبراير 1969: تمكنت مصر خلال هذه المرحلة من إعادة تنظيم قواتها المسلحة حتى دفعت هذه الوحدات إلى خط القتال وبدأت تستعد لمنع العدو من تقوية دفاعاته على الضفة الشرقية، ورفع معنويات القوات المصرية وتدريبها على العبور الحقيقى، وتمثلت أهم الأحداث فى هذه الفترة فى الآتى:
- معركتا المدافع (8 سبتمبر 1968) و(26 أكتوبر 1968) وقد تميزت الثانية، بعبور دورية مصرية للضفة الشرقية وتمكنت من خطف «أسيرين» عادت بهما خلال الليل، وذلك جنوب البحيرات المرة.  - الإغارة الإسرائيلية على نجع حمادى ليلة (31 أكتوبر/أول نوفمبر 1968) وكوبرى قنا وتدخل الطيران الإسرائيلى بصورة فعالة بعد ما تبين لإسرائيل زيادة فاعلية المدفعية.

ج- مرحلة الاستنزاف، وامتدت من مارس 1969 إلى يوليو 1970: تطورت التراشقات وأعمال الدوريات خلال هذه المرحلة، وأدى نجاح هذا النوع من العمليات إلى تشجيع القيادة المصرية على استمرار تنفيذها بغرض إنهاك إسرائيل وجرها إلى حرب طويلة لإرهاق اقتصادها ومضاعفة خسائرها بما عرف باسم حرب الاستنزاف.  وتمكنت القيادة المصرية خلال هذه المرحلة من استغلال أسلوب التراشق بنيران المدفعية والأسلحة الصغيرة من حرمان القوات الإسرائيلية من تحصين النقاط القوية التى أنشأتها على الضفة الشرقية للقناة. كما برز خلال هذه المرحلة أهمية وجود نظام متكامل للدفاع الجوى وأسلوب إنذار محكم.

د- مرحلة إيقاف إطلاق النار واستمرت من أغسطس 1970 إلى أكتوبر 1973: وتواصلت خلالها الجهود الدبلوماسية والسياسية الدولية، خاصة الأمم المتحدة، لإيجاد فرصة للسلام عن طريق التفاوض المباشر أو غير المباشر، ولكن ظل كل طرف متمسكا بموقفه المتشدد حتى قيام الحرب فى أكتوبر 1973. إن الإعداد لحرب أكتوبر 1973 تم فى عدة اتجاهات فى وقت واحد وتحت ضغط أعمال العدو اليومية. وكما ذكرت سابقا، فقد بدأ من إعادة تنظيم القوات المسلحة وتجميع القوات المتيسرة فى منطقة القناة وعلى ضفتها الغربية من 10كم شمالا إلى السويس جنوبا، وعلى الضفتين الشرقية والغربية للقناة من 10كم شرق وغرب القناة إلى مدينتى بورسعيد غرب وبورفؤاد شرق وبعمق 10كم شرقا حتى قطع بورفؤاد اتصال بحيرة الملاحة بالبحر المتوسط. كما تم تجهيز مسرح العمليات بما هو متاح من تجهيزات هندسية للمعدات والأسلحة والأفراد. وهذان البندان تم تنفيذهما بأسرع ما يمكن، وكانت الأولوية الأولى لتمكين القوات من العمل ضد أو الرد على أعمال العدو العدائية وأطماعه. بدأ تطوير تلك الأعمال تباعا، لكن إعداد الأفراد المقاتلين والفنيين استغرق وقتا طويلا، لأنه إعداد مستمر من أجل حرب التحرير التى لم يتحدد توقيتها بعد، ودُرست المشكلات والمصاعب التى ستواجه أى خطة لتحرير الأرض المغتصبة، فهى لا بد أن تبدأ بعبور القناة وقتال العدو فى الضفة الشرقية للقناة. هنا، ظهر عدد من المشكلات الكبيرة، من أهمها الآتى:

أ- مانع قناة السويس: تعد قناة السويس مانعا مائيا كبيرا وعريضا، حيث يتراوح عرضها ما بين 180م إلى 200م، وأن ارتفاع منسوب المد والجزر يتغير ما بين 80 سم فى القطاع الشمالى من القناة و2م فى القطاع الجنوبى للقناة، إضافة إلى سرعة التيار التى تتغير أربع مرات فى اليوم الواحد ما بين 18م/الدقيقة فى القطاع الشمالى و90م/الدقيقة فى القطاع الجنوبى، ما يؤثر فى سرعة واتجاه قوارب ومعدات العبور. كما أن أجناب القناة لها تكسية مكونة من ستائر حديد من العمق حتى سطح المياه، ثم تعلوها تكسية خرسانية مسلحة ارتفاعها يغطى فرق المد والجزر، ثم تكسية بالدبش ارتفاعها نحو متر حتى سطح الأرض. زاد من مشكلات العبور إقامة العدو لساتر ترابى ارتفاعه ما بين 16م إلى 20م بزاوية من 45 إلى 65 درجة وأنشأ عليه خطا دفاعيا أُطلق عليه «خط بارليف»، وهو من أكبر وأصعب الخطوط الدفاعية على مستوى العالم، حيث إنه مكون من نقاط دفاعية حصينة مساحة النقطة تصل إلى 400م2 مدعومة بالمدفعية والدبابات والصواريخ م/د. والخط مكون من 22 موقعا يحتوى على 31 نقطة حصينة من قطع بورفؤاد شمالا حتى الشط بالسويس جنوبا. كانت تقديرات الخبراء الروس لخسائر العبور فقط 30% من القوات العابرة.

ب- الاحتياطيات المحلية: مكونة من سرايا دبابات ومشاة ميكانيكية (13 دبابة + 4 عربات مدرعة) تتمركز على محاور الاقتراب إلى النقاط الحصينة وخلف الخط الحصين بمسافة تمتد من500م إلى 3كم ويمكنها التدخل فى معركة النقاط الحصينة عند مهاجمتها خلال 20 إلى 30 دقيقة، إما باحتلال مرابض نيران على الساتر الترابى مجهزة سابقا بفاصل 100م بين المرابض لضرب وتدمير القوات المحتشدة لعبور القناة، أو القيام بهجوم مضاد على القوات التى نجحت فى العبور إلى الشرق لتدميرها أو صدها لحين وصول الاحتياطى التكتيكى بقوة كتيبة دبابات مدعومة خلال ساعة إلى ساعة ونصف الساعة. وقدرت الخسائر من الخبراء الروس لهذه المعركة بنحو 30%، أى أن الخسائر المتوقعة للعبور والقضاء على الخط الحصين ودعمه تقدر بنحو 60%. والمعروف عالميا فى قوانين القتال أن الوحدة التى تخسر 40% من قوتها تخرج من المعركة لاستعادة كفاءتها. هناك مشكلات أخرى يمكن إجمالها فى أسلوب تأمين القوات عند الحشد للعبور (قوات جديدة ومعدات العبور) من نيران المدفعية وطيران العدو المتفوق، ومشكلة التنظيم والتنفيذ والسيطرة على تدفق القوات والعبور طبقا لجداول العبور، ومشكلة استمرار السيطرة على أعمال قتال شرق القناة فى ظل السيطرة الجوية والإعاقة الإلكترونية التى يمتلكها العدو، فضلا عن مشكلة كيفية فرض الحصار البحرى على إيلات وإشعار الشعب الإسرائيلى فى الداخل بالحرب، بالإضافة إلى كيف نثبت للعالم أن مصر والعرب ليسا جثة هامدة، وكيف نحمى الجبهة الداخلية من تلقى أى خسائر فى الأرواح أو البنية الأساسية للدولة. كل تلك المشكلات بُحثت ودُرست للخروج بالحلول المناسبة. وفى جميع المشكلات، فإن الفرد هو الأساس، فكان المبدأ التدريبى الشهير وهو التدريب على كل ما هو ضرورى للحرب هو الشعار والهدف. فكان التدريب الشاق وتم ضغط العام التدريبى من سنة كاملة إلى ستة أشهر فقط، أى استمرار التدريب ليلا ونهارا وفى أرض مشابهة ونماذج مصنوعة لقطاعات من الخط الحصين على النيل والترع الكبيرة لتدريب القوات حتى الوصول إلى المستوى المطلوب الذى نفذت به الحرب. لقد أنتج الفكر الاستراتيجى المصرى الحلول العظيمة وبدأ التخطيط من مستوى الفرد والجماعة والفصيلة والسَّرية على القناة بسؤال: ماذا تريد للعبور إلى الشرق ومناقشة ذلك بكل شفافية حتى المستويات التالية العليا؟ فكانت فكرة مضخات المياه وسلالم الحبال للتغلب على الساتر الترابى وفتح الثغرات فيه، وفكرة القفز فى المياه بالمركبات البرمائية وفكرة التغلب على ارتفاع الأرض عن منسوب سطح مياه القناة لعمل ساحات الإسقاط حتى تستطيع المعدات النزول إلى المياه لإنشاء الكبارى والمعديات، وفكرة إنشاء المصاطب العالية غرب القناة لمرابض النيران للدبابات وصواريخ م/د، والملاحظة وإدارة نيران المدفعية والتى باحتلالها يمكن صد وتدمير الاحتياطيات المحلية للعدو، ولحماية القوات العابرة، وقبل كل ذلك اختيار توقيت العبور لتحقيق الهجوم مع القوات السورية فى توقيت واحد والتغلب على الخصائص الطبيعية لقناة السويس من مد وجزر وسرعة تيار.

الفكر الاستراتيجى لحرب أكتوبر:

خططت الاستراتيجية العسكرية لتكون استراتيجية هجومية تستهدف هزيمة التجمع الرئيسى للقوات الإسرائيلية فى سيناء، طبقا للإمكانيات المتاحة للقوات المسلحة وفى تنسيق تام مع سوريا. وتم تحديد الأهداف الاستراتيجية للحرب على النحو التالى:
1- هزيمة التجميع الرئيسى لقوات العدو فى سيناء و الجولان السورية.

2- الاستيلاء على الخطوط والمناطق الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية لتهيئة أنسب الظروف لاستكمال تحرير الأراضى المحتلة.

3- وضع خطة الخداع الاستراتيجى لمنع العدو من التعبئة العامة قبل بدء الهجوم المنتظر.

4- القيام بعمليات قتال تهدف إلى عبور قناة السويس، والاستيلاء على الضفة الشرقية، وتأمينها بعمق كاف يحقق العبور فى قناة السويس وفتحها للملاحة الدولية.

5- تحريك القضية سياسيا، بحيث تخرج من مرحلة «حالة اللاسلم واللاحرب».

فى هذا الصدد، اجتمع الرئيس السادات مع رئيس المخابرات العامة والمخابرات الحربية ومستشار الأمن القومى والقائد العام للقوات المسلحة فى يوليو 1972 لوضع خطة خداع استراتيجى تسمح لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجى والتسليحى الإسرائيلى عن طريق إخفاء أى علامات للاستعداد للحرب، حتى لا تقوم إسرائيل بضربة إجهاضية للقوات المصرية فى مرحلة الإعداد على الجبهة، أو إجراء التعبئة العامة قبل بدء الحرب. بنيت الخطة على أساس تكوين الجيش الإسرائيلى من 25% عاملا و75% احتياطيا، أى أن الأعمال الرئيسية لا تتم إلا بالتعبئة العامة. لذا، فأساس خطة الخداع الاستراتيجى أن تتم الإجراءات المصرية اللازمة للحرب على أنها إجراءات روتينية دائمة على مدى السنوات السابقة للحرب، مثل المشروع الاستراتيجى التعبوى، ودفع القوات المهاجمة إلى منطقة القناة كما لو سيتم عبورها فتتم التعبئة بإسرائيل وتخسر تكلفة التعبئة أكثر من مرة فتوقفها اعتقادا أن مصر تلهى شعبها. كان آخر مشروع ينتهى يوم الخميس 4 أكتوبر 1973. وقد ذكر ذلك فى أوراق محاكمة القيادة الإسرائيلية (السياسية والعسكرية) بما يسمى محكمة أجرانات، حيث كان السؤال الأول لرئيسة الوزراء جولدا مائير: لماذا لم تصدرى أمر التعبئة العامة؟ فكانت الإجابة: «هكذا رفض رجال المخابرات جميعهم». تضمنت خطة الخداع الاستراتيجى عدة إجراءات تمثلت فى الآتى:

أ- إجراءات تتعلق بالجبهة الداخلية: وشملت استيراد مخزون استراتيجى من القمح، والترويج لفضيحة إعلامية بأن أمطار الشتاء غمرت صوامع القمح، وأفسدت ما بها، وإخلاء المستشفيات تحسبا لحالات الطوارئ بتسريح ضابط طبيب من الخدمة وتعيينه بمستشفى الدمرداش، ليعلن اكتشافه تلوث المستشفى بميكروب، ووجوب إخلائه من المرضى لإجراء عمليات التطهير، وتأكيد الأعمال الروتينية لوزارة الدفاع والحكومة. 

ب- إجراءات خداع ميدانية: ومنها توفير المخابرات لمعلومات حيوية سمحت باستمرار بناء نماذج لقطاعات خط بارليف فى الصحراء الغربية للتدريب عليها، وخداع الأقمار الصناعية بملء المعسكر بالخيام البالية والأكشاك الخشبية المتهالكة، ولافتات قديمة لشركات مدنية. وصدر قرار بتسريح 30 ألفا من المجندين منذ عام 1967، كان معظمهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية، وفى مواقع خلفية.  كما تم التمويه برفع درجة الاستعداد القصوى للجيش وإعلان حالة التأهب فى المطارات والقواعد الجوية من 22 إلى 25 سبتمبر، ضمن المشروع الاستراتيجى «تحرير 23»، حيث استبدلت بخرائط التدريب خرائط العملية (بدر)، وتم إعلان عن فتح باب رحلات العُمْرة لضباط القوات المسلحة والجنود، وشوهد الجنود المصريون على الضفة الغربية للقناة صبيحة يوم الحرب، وهم فى حالة استرخاء وخمول، ويتظاهر بعضهم بمص القصب وأكل البرتقال.  ولإخفاء نية إغلاق مضيق باب المندب، نشر خبر صغير، فى سبتمبر 1973، عن توجه ثلاث قطع بحرية مصرية إلى أحد الموانئ الباكستانية لإجراء العمرات وأعمال الصيانة الدورية لها.

ج - إجراءات خداع سيادية: ومنها اختيار موعد هجوم تحتفل فيه إسرائيل بعيد الغفران اليهودى، وتغلق خلاله المصالح الحكومية، بما فيها الإذاعة والتليفزيون، كما اختير على أساس الظروف المناخية والسياسية المواتية، كما كان المجتمع الإسرائيلى منشغلا بالمعارك الانتخابية التشريعية.  وتم إعلان زيارة قائد القوات الجوية، اللواء حسنى مبارك، إلى ليبيا يوم 5 أكتوبر، ثم تقرر تأجيلها لعصر اليوم التالى 6 أكتوبر 1973. ووجه المشير أحمد إسماعيل الدعوة إلى وزير الدفاع الرومانى لزيارة مصر يوم الإثنين 8 أكتوبر، وأعلن رسميا أنه سيكون فى استقباله شخصيا لدى وصوله إلى مطار القاهرة، كما أعلن رسميا الاستعداد لاستقبال الأميرة مارجريت صباح الأحد 7 أكتوبر. كانت المفاجأة الكبرى الهجوم المصرى السورى فى وقت واحد على الجبهتين فى 6 أكتوبر 1973، وأعلنت الحرب وكانت الهزيمة الكبرى للجيش الإسرائيلى وتحقيق تحرير الأراضى المحتلة فى سيناء والجولان. ومع الدعم الأمريكى غير المحدود، تمكنت إسرائيل من إحداث ثغرة على الجبهة المصرية واستعادت الجولان من سوريا.  أحدث حجم الخسائر الضخمة فى القوات الإسرائيلية انزعاجا مهولا لأمريكا التى قامت بالإمداد المباشر لإسرائيل وعلى جبهات القتال بالمعدات والأسلحة لتعويضها عن خسائرها، بل بأكثر مما كانت تحلم به. وسارع كيسنجر بالحضور إلى القاهرة ودمشق وتل أبيب حتى يمكن احتواء الموقف وإنقاذ إسرائيل من الهزيمة الكاملة.

الخلاصة:
 يعكس الفكر الاستراتيجى لحرب أكتوبر 1973 الاستفادة من دروس هزيمة 67، فتم التخطيط وأعمال التنسيق على المستوى الاستراتيجى وتبعية القيادة العسكرية للقيادة السياسية فى مجال الإعداد والإدارة للصراع المسلح، فى ظل تقييم شامل للتهديدات والظروف الدولية المحيطة والمؤثرة فى الصراع وقدرات الدولة الشاملة. وظهرت بوضوح الأهداف القومية، كما ظهر القرار السياسى للحرب، وانعكاس ذلك بشكل إيجابى على تحديد الهدف السياسى/العسكرى، وبالتالى الاستراتيجية العسكرية المصرية لإدارة الصراع وتحقيق أهدافه السياسية/العسكرية. كما تتضح أهمية الدراسة الدقيقة للعدو، وتحديد مراكز ثقله على المستوى الاستراتيجى/التعبوى الذى بالتأثير فيه يحدث التغيير الاستراتيجى المطلوب لإدارة الصراع، مثل توقيت بدء التعبئة الإسرائيلية. فكانت المواجهة الإيجابية لنظرية الأمن الإسرائيلى، وكذا بتحقيق الخداع والمفاجأة والمبادأة الاستراتيجية، فكان النجاح الواضح لإدارة الحرب. كما برز مفهوم «الحرب المحدودة» كمفهوم استراتيجى عسكرى لخدمة الأهداف القومية المحدودة، وطبقا للإمكانيات المتاحة والتقييم الدقيق للقدرات العسكرية للعدو والدعم العسكرى الخارجى له، وكذلك أهمية أعمال التنسيق مع سوريا بشكل خاص والدول العربية بشكل عام للدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى، بما يحقق التوازن المطلوب مع إسرائيل، فكان الدور الإيجابى العسكرى لسوريا وحرب البترول الاقتصادية من دول الخليج العربى.  

طباعة

    تعريف الكاتب

    لواء أ.ح / محمد الغباري

    لواء أ.ح / محمد الغباري

    مدير كلية الدفاع الوطنى الأسبق