مقالات رأى

اتفاقيات جنيف الأربع فى عالم متغير

طباعة

عندما بدأت قواعد القانون التقليدى فى الظهور فى القرن السابع عشر لم تكن هناك قيود على أساليب القتال بين الدول المتحاربة سوى تلك القيود التى أوردها بعض المحاربين اختيارا على تصرفاتهم، وذلك لوقف أعمال السلب والنهب فى المدن، ومنح النساء والأطفال نوعا من الحماية، أو ما كانت تختلج به نفوس الفرسان من محاربى القرون الوسطى من عواطف إنسانية نمت فى ظلها القواعد الخاصة بمواساة الجرحى والمرضى ووجوب العناية بهم، وعدم التعرض لغير المقاتلين والآمنين من سكان دول العدو.

ومع بداية القرن التاسع عشر أخذت هذه القواعد تكتسب صفة الإلزام بوصفها قواعد قانونية عرفية؛ حيث انتقلت من دائرة الأخلاق غير الملزمة إلى دائرة القواعد القانونية الملزمة خاصة بعدما شهده النصف الثانى من القرن التاسع عشر من طفرة فى مجال تدوين عادات وأعراف الحرب على شكل اتفاقيات، أو تصريحات دولية، أو على شكل تعليمات موجهة من الحكومة إلى جيوشها فى الميدان.

وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى، وقصور القواعد القانونية فى توفير الحماية اللازمة لضحايا الحرب، انعقد فى جنيف فى عام 1929 مؤتمر دبلوماسى حضره ممثلو 47 دولة لإعادة النظر فى القواعد المتعلقة بحماية ضحايا الحرب وتقرير مزيد من القواعد لحماية هؤلاء الضحايا. وأسفرت أعمال هذا المؤتمر عن وضع ثلاث اتفاقيات خاصة بحماية ضحايا الحرب من العسكريين، الأولى تتعلق بتحسين حال الجرحى والمرضى من العسكريين فى الميدان، والثانية بتحسين حال الجرحى والمرضى والغرقى من القوات المسلحة فى البحار، وقد اهتمت الاتفاقية الثالثة بمعاملة أسرى الحرب.

لكن الفظائع الإنسانية التى ارتكبت فى أثناء الحرب العالمية الثانية لفتت النظر إلى ضرورة سد أوجه النقص فى هذه الاتفاقيات، ما أدى إلى عقد مؤتمر دولى فى جنيف حضرته وفود 59 دولة عام 1949، وبعض الهيئات غير الدولية، لتسفر أعمال هذا المؤتمر عن عقد أربع اتفاقيات إنسانية تمثل حاليا الجانب الأكبر من قانون الحرب، وهى اتفاقيات جنيف الأربع. وقد عالجت هذه الاتفاقيات معظم المسائل المتعلقة بقواعد خوض الحرب والنزاعات المسلحة، وكفلت الحماية القانونية للجرحى والمرضى والأسرى والسكان المدنيين والملكية العامة والخاصة بما فيها الموجودة فى المناطق المحتلة.

فى ظل ما تتعرض له البشرية اليوم من حروب وصراعات متنوعة ومتعددة، ومع التطور المخيف فى أساليب الحرب المعاصرة، تبرز لنا اتفاقيات جنيف الأربع كمرجعية دولية للحماية بكل أنواعها وإضفاء الطابع الإنسانى على النزاعات المسلحة المعاصرة. وفى إطار هذه التحديات المعاصرة -التى من أهمها عدم تنظيم استخدام الأسلحة التقليدية وظهور ما يسمى بالإرهاب العصرى والتقنيات الحديثة فى الحروب وغيرها-فإننا نجد أن تلك الاتفاقيات لها أثرها البالغ فى الحد من آثار تلك الصراعات وذلك من خلال آلياتها التنفيذية الداخلية والدولية، ورغم ما يؤخذ على تلك الآليات من انتقادات أبرزها الواقع المعاصر فإنها ما زالت تمثل الحد الأدنى من المحافظة على الواقع الإنسانى.

وفى إطار آخر، نجد أن هناك توجهات حديثة من المجتمع الدولى لإيجاد الحلول المناسبة لمظاهر انتهاك تلك الاتفاقيات،والوقوف بحزم لتطبيق تلك الاتفاقيات والسعى لتخفيف حدة النزاعات المعاصرة بكل الوسائل والطرق من أجل عالم ينعم بالحرية والسلام والاستقرار.

الأصل أن احترام قواعد القانون الدولى الإنسانى - ممثلا باتفاقيات جنيف الأربع وغيرها من الاتفاقيات -وتنفيذه فى النزاعات المسلحة، أمر فعال لتجنب الكثير من المآسى، ولكن تبرز فى الساحة الكثير من التحديات التى تجعل من القانون الدولى الإنسانى عموما واتفاقيات جنيف خصوصا فى حيز التأثير غير الفعال.

إن الملامح الجديدة والأشد خطورة فى العنف المعاصر تفرض تحديات شديدة الصعوبة فى مجال حماية المدنيين وتطبيق قواعد القانون الدولى الإنسانى، فقد صارت النزاعات المعاصرة أكثر تعقيدا وبات تحقيق السلام المنشود أمرا شديد الصعوبة، كما أن استخدام الاختلافات العرقية والدينية صار شعارا لكثير من النزاعات ما أدى إلى ظهور أطراف جديدة قادرة على مباشرة العنف والانخراط فيه، وهذا قد أدى بدوره إلى ظهور أعداد مضاعفة من الفرق المسلحة.

إن ظهور أنواع جديدة من التقنيات الحديثة فى ساحات القتال والتطور السريع فى الفضاء الإلكترونى أبرز نوعا جديدا من أنواع الحروب المعاصرة، الذى أدى بدوره إلى ظهور منظومات عسكرية تتحكم بها الدول وغيرها عن بعد، ما يشكل تحديا شديد الصعوبة أمام قواعد القانون الذى يضبط سير تلك الحروب وينظم كيفية استخدامها.

ومن التحديات المخيفة التى تواجه قواعد القانون الدولى الإنسانى وخصوصا اتفاقيات جنيف الأربع انتشار العمليات العدائية التى تقوم بها الجماعات المسلحة من غير الدول، كما هو حاصل فى النزاعات الدائرة فى كل من اليمن وسوريا وليبيا وغيرها؛حيث تمارس تلك الجماعات أعمالها العسكرية ضد القوات الحكومية فى مناطق مأهولة بالسكان المدنيين، كما سمح لها ذلك الوضع باستخدام وسائل عسكرية أكثر تفوقا تحت غطاء التستر بالضحايا من المدنيين، وقد أدى هذا الوضع إلى تنصل بعض الجيوش من واجبها فى اتخاذ التدابير الاحترازية الممكنة لتقليل المخاطر بين صفوف المدنيين على الوجه المطلوب فى القانون الدولى الإنسانى.

وفى إطار تنوع التحديات المعاصرة لهذه الاتفاقيات، فعدم تنظيم استخدام الأسلحة التقليدية وسوء استخدامها أصبح تحديا أمام توفير الحماية للمدنيين، كما أن انتشار تلك الأسلحة وتوفرها فى مناطق النزاعات المسلحة أتاح المجال أمام تجار الحروب لنشر سمومهم المميتة فى أوساط المجتمعات المتحاربة.

ومن الملامح الجديدة التى تتحدى اتفاقيات جنيف الأربع وقواعد القانون الدولى الإنسانى اعتماد القوات المسلحة فى النزاعات المعاصرة على تجنيد المدنيين والتعاقد معهم لتنفيذ مهام عسكرية بحتة.

وإضافة إلى التحديات السابقة، فظهور ما يسمى بالإرهاب العالمى،وصعوبة تصنيف المنتمين إليه، وبيان القواعد الواجبة التطبيق،يعد تحديا بالغ الصعوبة أمام قواعد القانون الدولى الإنسانى واتفاقيات جنيف الأربع، وفى كيفية التعامل مع المُغرر بهم والمنتمين إلى هذه الجماعات، ومقدار تطبيق قواعد الحماية مع هذه الجماعات.

إن القانون الدولى الإنسانى عموما لا يزال يعانى التحديات المستمرة والمتجددة فى كل وقت وحين، كما أنه لم يسلم من التطور الحديث فى التحديات التى تصيب أسسه العامة بالانتهاكات المباشرة، ومنها استمرار العمليات العدائية، والهجمات المباشرة، واستهداف كل ما هو مدنى، وعدم التمييز بينها وبين الأهداف العسكرية، وانتهاك مبدأ التناسب والتنصل عن استخدام التدابير الاحترازية، وقتل المدنيين واستهدافهم.فجميع ما ذكر يمثل تحديا أمام قواعد القانون الدولى الإنسانى، وآليات تنفيذه، وتحسين الالتزام بقواعده فى ظل استمرار النزاعات ذات الطابع الدولى وغير الدولى.

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، فما زال هناك أمل كبير فى تجاوزها، وإبراز أهمية هذه الاتفاقيات وتنفيذها؛ لأنها تسعى لصلاح البشرية، وتحافظ على الكرامة الإنسانية. وهذا يتطلب تكثيف جهود المجتمع الدولى من أجل جعل تلك الاتفاقيات قيمة عليا ملزمة للجميع، واحترام قواعد القانون الدولى الإنسانى، والالتزام بنشر تلك القواعد على المستوى الوطنى، والسعى لإعداد العاملين المؤهلين لمباشرة تطبيقها، وإلزام الجماعات المسلحة بوجوب التقيد، واحترام المبادئ العامة للمعاملة الإنسانية فى أوقات الحروب.

كما يجب ألا ننسى الدور الكبير والمهم الذى تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وتصنيفها كصمام أمان لتطبيق قواعد القانون الدولى الإنسانى، وقدرتها على معالجة النزاعات المعاصرة، وتجاوز كل التحديات بصورة ملائمة، مع قدرتها على توفير الحماية اللازمة لضحايا تلك النزاعات.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    عمرو وجدى

    عمرو وجدى

    باحث فى مجال حقوق الإنسان