تحليلات

رسالة «العلمين» فى مواجهة التطرف الإسرائيلى

طباعة

إذا كانت ومازالت القضية الفلسطينية هى قضية العرب الأولى، فإنها تظل قضية «حياة أو موت» للشعب الفلسطينى نفسه الذى لايزال يعانى منذ 75 عاما حتى الآن.
75 عاما مضت منذ تم زرع «إسرائيل» فى المنطقة، وتأسيس الدولة العبرية فى 1948، والتى لم تكتف بحدودها التى أيدتها قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، بل التهمت كامل الأراضى الفلسطينية فى 1967، ولاتزال تمارس هوايتها فى زرع المستوطنات كل يوم، و«خنق» الفلسطينيين، و«التضييق عليهم»، وتهجيرهم من مساكنهم، وممارسة أبشع أنواع سياسات الفصل العنصرى ضدهم.
ارتضى الفلسطينيون بالسلام، وتمت بلورة ذلك بتوقيع اتفاقيات أوسلو فى حضور الزعيم التاريخى للشعب الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، ورئيس الحكومة الإسرائيلية رجل السلام الراحل إسحق رابين، وبرعاية الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون، وذلك فى سبتمبر 1993.
ثلاثون عاما سوف تمر على ذكرى توقيع اتفاقيات أوسلو فى الشهر المقبل. وعلى الرغم من ذلك، فإن ما فعله رجل السلام الإسرائيلى الراحل إسحق رابين اغتالته أفعال الحكومات الإسرائيلية المتطرفة اللاحقة، بعد أن اغتال المتطرفون إسحق رابين نفسه بعد مرور ما يقرب من عامين على توقيعه تلك الاتفاقية، وذلك فى 4 نوفمبر 1995.
بعد اغتيال إسحق رابين، تنامى التطرف داخل الأوساط الشعبية والحزبية الإسرائيلية، وتوالت الحكومات المتطرفة التى تراجعت إلى الخلف فى ملف السلام، وتعتبر الحكومة الإسرائيلية الحالية هى أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفا فى تاريخ الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة منذ عهد حكومة رئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة جولدا مائير.
ولأن مصر هى «قلب العروبة النابض» والشقيقة الكبرى، فهى دائما تقف إلى جانب الشعب الفلسطينى فى كل معاركه، خاضت لأجله العديد من الحروب، بدءا بحرب 1948، مرورا بحرب 1967، وانتهاء بحرب أكتوبر المجيدة فى 1973.

لم تتخل مصر عن القضية الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، بل إنها ظلت الصوت القوى، والمدافع المخلص عن القضية الفلسطينية فى كل المحافل الدولية، والسند الداعم للشعب الفلسطينى فى كل الأوقات والظروف.
هذا العام، وخلال أقل من 6 أشهر، استضافت مصر حدثين مهمين يتعلقان بالقضية الفلسطينية.
الأول كان فى فبراير الماضى، حينما استضافت جامعة الدول العربية فى القاهرة مؤتمر «دعم القدس» الذى تجاوبت معه كل الدول العربية من أجل التصدى للهجمة الإسرائيلية الشرسة على «هوية القدس العربية».

فى قمة القدس، جاء خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسى قويا وواضحا، ووضع النقاط على الحروف، مؤكدا أن القدس هى عصب القضية الفلسطينية، ومجددا موقف مصر الثابت والدائم فى دعم الشعب الفلسطينى، وحقه المشروع فى إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود الرابع من يونيو 1967، ورفض كل القرارات الإسرائيلية المخالفة لقواعد الشرعية الدولية، وتحميل دولة إسرائيل المسئولية كاملة عن أى تغيير يطرأ على ذلك، باعتبارها قوة احتلال ليست لها أى صلاحية قانونية.
بعد مرور أقل من 6 أشهر على مؤتمر القدس، احتضنت مدينة العلمين مؤتمر أمناء الفصائل الفلسطينية، الذى حضره قادة وأمناء ١٤ فصيلا فلسطينيا، وعلى رأسهم الفصيلان الأكبر «فتح»، بقيادة الرئيس الفلسطينى محمود عباس، و«حماس»، بقيادة رئيس المكتب السياسى للحركة إسماعيل هنية.

جاءت دعوة مصر إلى هذا الاجتماع لحرصها الشديد على لم شمل الفصائل الفلسطينية، وإعادة وحدة الشعب الفلسطينى، وإنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، باعتبار ذلك هو خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية فى ظل أزمات غير مسبوقة تشهدها هذه القضية داخليا وخارجيا.
داخليا بسبب وجود حكومة يمينية إسرائيلية متطرفة تتلذذ بمص دماء الشعب الفلسطينى، وقتل رجاله وأطفاله ونسائه دون هوادة ولا رحمة، وخارجيا بسبب تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية عالميا، بعد اشتعال الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وتوجيه اهتمام العالم كله صوب تلك الأزمة المشتعلة التى تهدد بنشوب حرب عالمية ثالثة، مما أسهم فى تراجع الاهتمام الدولى بالقضية الفلسطينية فى جدول أولويات القضايا الدولية.
فى ظل تلك الظروف الداخلية والخارجية «المعقدة»، فإن السبيل الوحيد لتحقيق طموحات الشعب الفلسطينى فى حريتهم واستقلالهم يظل بأيدى الفلسطينيين وحدهم، ولن يتحقق ذلك سوى بوحدتهم، وإعادة توحيد صفوفهم تحت قيادة شرعية واحدة فى الضفة وغزة، وكل الأراضى الفلسطينية.

منذ نحو 17 عاما، وبالتحديد فى 2006، انفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية فعليا، وأصبحت الضفة خاضعة لسيطرة حركة «فتح» والسلطة الفلسطينية الشرعية برئاسة الرئيس الفلسطينى محمود عباس، فى حين خضع قطاع غزة لسلطة «حماس» وحكومتها برئاسة إسماعيل هنية.
منذ ذلك الحين، أصبحت هناك سلطة فلسطينية ورأسان: واحدة فى الضفة الغربية، والأخرى فى غزة، ودفع الشعب الفلسطينى الثمن غاليا جراء هذا الانقسام، وشهدت القضية الفلسطينية مزيدا من التراجع على جميع الأصعدة داخليا وخارجيا، واستغلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ذلك بدعوى عدم وجود شريك واحد قادر على التفاوض واتخاذ القرارات التى تسرى على الجميع.

ولأن مصر تضع القضية الفلسطينية نصب أعينها، فإنها، ومنذ وقوع تلك الأزمة، بذلت وتبذل جهدا كبيرا فى لم الشمل الفلسطينى، والتوفيق بين الفصائل المتنازعة، وتلعب الأجهزة الأمنية المصرية دورا حيويا ورئيسيا فى التنسيق والتوفيق بين الفصائل، وفض الاحتقانات أولا بأول، والعمل على إيجاد أرضية مشتركة فيما بين الفصائل، بهدف زيادة مساحات المشتركات وتقليل مساحات الاختلافات فى ظل الهجمة الإسرائيلية المسعورة على حقوق الشعب الفلسطينى، وتنامى اليمين الإسرائيلى المتطرف، وسيطرته على مفاصل الدولة الإسرائيلية.
مؤتمر العلمين، الذى عقد فى الأسبوع الماضى، كان الخطوة الأحدث فى هذا المضمار، حيث اجتمع فيه نحو 14 فصيلا من الفصائل الفلسطينية، فى مقدمتها حركتا «فتح» و«حماس».
المؤتمر بحث سبل إنهاء الملفات العالقة فى الحوار الفلسطينى، وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، واتفقت الفصائل الفلسطينية على تشكيل لجنة لهذا الغرض، بهدف حل «الملفات الخلافية»، تمهيدا لعقد لقاء آخر قريبا على أرض مصر، لإعلان «انهاء الانقسام واستعادة الوحدة الفلسطينية»، طبقا لما جاء فى البيان الختامى لاجتماع الفصائل الذى أكد أيضا أن الاجتماع كان «خطوة أولى ومهمة لاستكمال حوارنا الذى نتمنى أن يحقق الأهداف المرجوة فى أقرب وقت ممكن».

أعتقد أنه لم يعد هناك وقت يمكن أن يضيع فى ظل الأوضاع العالمية والإقليمية المعقدة، ومن المهم أن تستغل الفصائل الفلسطينية تلك اللحظة التاريخية التى تتمسك فيها مصر بتحقيق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، استنادا لدورها التاريخى والمحورى فى هذا الإطار على مدى 75 عاما، وحتى الآن.
أتمنى أن تصل رسالة «العلمين» إلى كل الفصائل الفلسطينية، وأن تتم بلورتها على أرض الواقع، لينتهى مسلسل الانقسام الفلسطينى، ويقف الشعب الفلسطينى على قلب رجل واحد فى مواجهة التطرف الإسرائيلى المتنامى والمتصاعد منذ أحداث الانقسام الفلسطينى الممتد منذ 17 عاما حتى الآن.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ا. عبد المـحسن سـلامة

    ا. عبد المـحسن سـلامة

    رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام