تحليلات - شئون اقتصادية

العملة الرقمية الصينية: أبعاد ودلالات الإصدار في الاقتصاد العالمي

طباعة

تجري الصين اختبارات تجريبية لعملتها الرقمية الرسمية مع احتمالية اتساع رقعة انتشارها مع بدء دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في بكين عام 2022. كان بنك الشعب الصيني- المركزي (PBOC) قد أصدر عملة رقمية أطلق عليها اسم E-CNY بهدف تعزيز توجهات الصين نحو عصر الاقتصاد الرقمي[1]، مما يثير تساؤل حول أبعاد هذا الإصدار وانعكاسه على طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية.

تشهد الأصول الرقمية السيادية اهتماماً متصاعداً لدى الاقتصادات الكبرى التي تدرس إمكانية إصدار عملتها الرقمية. وقد تشكل الصين انعطافا حقيقيا في طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية بعد أن سبقت الدول الكبرى في ذلك، بالإضافة لتعزيز تنافسيتها بين الاقتصادات المتقدمة.

من العملة النقدية إلى الرقمية:

لم يكن مستبعداً أن تكون الصين أول الاقتصادات الكبرى التي تصدر عملة رقمية؛ فرغم أزمة فيروس كوفيد-19 وانعكاساتها على الاقتصاد الصيني والعالمي، إلا أن الصين استطاعت التعافي سريعا. وبحسب توقعات البنك الدولي، فقد نما الاقتصاد الصيني من 8.1% فى العام الماضي 2020 إلى 8.5% عام 2021[2].

كما أن امتلاكها للتكنولوجيا اللازمة والبنية التحتية الرقمية مكنها من الانطلاق نحو رقمنة اقتصادها بخطوات ثابتة وريادية. ووصلت الصين للاختبارات التطبيقية الحالية بعد رحلة دامت ست سنوات، مرت خلالها بالمراحل الرئيسية التالية:

التطوير والإصدار: بدأت أولى خطوات إصدار عملة رقمية في عام 2014، حيث شكل بنك الشعب الصيني المسئول عن إصدار اليوان الرقمي فريقا لدراسة التقنيات الرئيسية المتعلقة ببيئة الإصدار وطريقة التداول والتكنولوجيا المستخدمة. وفي عام 2016، أنشأ البنك معهد العملات الرقمية، وقام ببناء النموذج الأولي لمفهوم هذه العملة واقتراح التصاميم الأساسية لها.

الاختبار والتحقق: في نهاية عام 2017، وافق مجلس الدولة الصيني على العمل مع المؤسسات التجارية في تطوير واختبار العملة الرقمية، كما أجرت الحكومة الصينية اختبارات افتراضية للعملة، ووزعت يوانا رقميا لبعض المواطنين من خلال مسابقات، وقد فاز 50 ألف شخص وقاموا بتنزيل تطبيق Digital Rmb App[3]. وبدأ التداول لأول مرة في أبريل 2021 في مدن محددة[4] تم اختيارها لإجراء الاختبارات، وهي قابلة للتوسع بحسب تصريحات الحكومة الصينية.

خلال تلك الاختبارات نشر بنك الشعب الصيني مسودة أولى لقانون العملة الرقمية في 23 أكتوبر 2020 تهدف لمواءمة الوضع القانوني للعملة الرقمية، واقترحت المسودة بأن تكون العملة الرقمية بنفس الوضع القانوني للعملة النقدية[5]. على الرغم من أن بعض التفاصيل لم تقرر بعد، إلا أن الاختبارات التطبيقية تتسارع من حيث النطاق والحجم[6].

حتى نهاية يونيو 2021، تم تفعيل أكثر من 20.87 مليون محفظة شخصية، و3.51 مليون محفظة للشركات بقيمة معاملات تبلغ نحو 34.5 مليار يوان (5.39 مليار دولار)، خلال 70.8 مليون معاملة[7]، مكنت البنك المركزي من إجراء الاختبارات اللازمة للبرمجيات والتصاميم وأدوات الأمان الرقمي المتعلقة بعملية التداول.

الانتشار والتوسع: تسعى الصين إلى توسيع نطاق تداول العملة الرقمية، ومن المنتظر أن تكون دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في عام 2022 التجربة التالية في هذا التوسع[8]. وتمهيداً لتداول العملة الرقمية في الأوليمبياد، ذكر بنك الشعب الصينى "ان المقيمين الأجانب المسافرين مؤقتا إلى الصين يمكنهم فتح محفظة إلكترونية لتلبية احتياجات الدفع اليومية دون فتح حساب بنكي"[9].

أظهرت الاختبارات أن آلية إصدار وتوزيع العملة يساعد على خفض التأثير السلبي فى القطاع المصرفي وتتوافق مع النظام المالي الصيني.في حين تواصل الصين تحسين أنظمتها الرقمية والحالة الأمنية وموثوقية عمليات التبادل في إطار قانوني وتشريعي ملائم. وذكرت وكالة الأنباء الصينية "سينخوا" في 24 فبراير 2021 أن البنك المركزي الصيني يبحث مشروع جسر العملات الرقمية ودراسة مشروع الدفع العابر للحدود مع تايلاند والإمارات العربية المتحدة، وكذلك سلطة النقد في هونغ كونغ، وسيقوم المشاركون بتقييم جدوى تطبيق العملات الرقمية وتسوية التجارة الدولية والمعاملات بالنقد الأجنبي[10].

انتهجت الصين سياسة داخلية لتعزيز مكانة اليوان الرقمي، حيث شنت حملة على عمليات تعدين العملات المشفرة غير الرسمية. كما حثت الحكومة البنوك والشركات الكبرى الصينية على اتخاذ إجراءات صارمة ضد تداول هذه العملات. تعزز تلك السياسات من قدرة الصين على التحكم في تداول العملات الرقمية ومتابعة عملياتها من جهة، وتسريع انتشار عملتها من جهة أخرى.

اليوان الرقمي .. المزايا والعيوب:

يمتلك اليوان الرقمي الصفة الرسمية والقانونية التي تميزه عن غيره من العملات الرقمية الأخرى الموجودة خارج النظام المالي العالمي. صممت الصين النقد الرقمي ليكون نسخة إلكترونية من ورقة نقدية؛ فهو يعيش فقط في محفظة رقمية على هاتف ذكي، بدلاً من المحفظة المادية. وبحسب، فإن النقد الرقمي أسرع وأسهل في الاستخدام من طرق الدفع التقليدية "الكاش والتحويلات البنكية"[11].

وصف المسئولون الصينيون اليوان الرقمي بأنه "مجهول يمكن التحكم فيه"، مما يعني أن المعاملات بين الأفراد مجهولة، ولكن مرئية للبنك المركزي، وذلك يجعل جميع المعاملات الرقمية قابلة للتتبع من قبل الحكومة. علاوة على ذلك، فإنه يمنح الحكومة السيطرة على كيف ومتى ينفق الناس أموالهم[12]. قد ينظر بعض المستخدمين على أن هذه السيطرة تعتبر تجاوزا لخصوصيتهم. في حين أن العملة الرقمية تمنح الحكومة مزيدا من أدوات الرقابة لاقتصادها الوطني.

أشار البنك إلى إمكانية وضع حدوداً لبعض المعاملات، ويتساءل بعض المراقبين عما إذا كان من الممكن ربط المدفوعات بنظام الائتمان الاجتماعي الناشئ؛ بحيث يتم "إدراج المواطنين ذوي السلوك المثالي" في القائمة البيضاء للحصول على الامتيازات، في حين يجد أصحاب المخالفات الجنائية وغيرها من المخالفات أنفسهم مستبعدين[13].

رقمنة العملة في الاقتصاد العالمي:

من الواضح أن مسيرة التحول الرقمي للأنظمة المالية تتقدم بشكل متسارع، مما يعني أن هنالك تغيرات كبرى سوف تحدث، تتجاوز الاقتصادات المحلية لتؤثر في الاقتصاد العالمي. ويبدو أن عزم ((Facebookإطلاق عملته الرقمية (Libra) شكل حافزاً رئيسياً للصين نحو تسريع إطلاق عملة رقمية خاصة بها.

في يونيو 2021، قدم بنك التسويات الدولية BISتوصياته لتطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية، موضحاً أنها ضرورية لتحديث التمويل وضمان عدم سيطرة شركات التكنولوجيا الكبرى على الأموال[14]. وفقًا لـ CBDC Tracker، هناك أكثر من 60 دولة في مرحلة دراسة أو تطوير عملة رقمية لها[15].

على الرغم من أن جمهورية جزر البهاما أول دولة تطلق عملة رقمية حكوميةSand Dollar  للتداول الرسمي في أكتوبر 2020، إلا أن تبعات إطلاق الصين لعملتها الرقمية كثاني اقتصاد عالمي يعتبر خطوة متقدمة عن الدول الأخرى، وإجراءها لاختبارات العملة الرقمية محلياً فتح الباب أمام اختبارها دولياً، ومن شأن تلك الاختبارات تعزيز تداول العملة الرقمية، وهو ما يعزز أيضا مكانة الصين على سلم الاقتصاد العالمي.

رغم ريادة الصين في إطلاق عملتها الرقمية، إلا أنها أوضحت عدم سعيها للإطاحة بالدولار باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم. وقد صرح نائب محافظ بنك الصين لي بو، إن الهدف من تدويل العملة الجديدة، ليس استبدال الدولار أو العملات الدولية الأخرى، وإنما "هدفنا هو السماح للسوق بالاختيار، لتسهيل التجارة والاستثمار الدوليين"[16]. في المقابل، صرح جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن إمكانية رقمنة الدولار للحفاظ على تفوق الولايات المتحدة، وأضاف"إن مشروع رقمنة الدولار ذو أولوية عالية، ولسنا بحاجة لأن نكون أول من يسك العملة، نحن بحاجة إلى القيام  بذلك بشكل صحيح"[17].

ومع ذلك، لم تنف الصين سعيها لاعتماد العملة الرقمية في المعاملات التجارية الدولية؛ ففي كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ التي ألقاها في قمة مجموعة العشرين في 21 نوفمبر 2020، شدد على ضرورة مشاركة الصين في تطوير المعايير والقواعد العالمية المتعلقة بالعملات الرقمية، ودعا المنظمات إلى "مناقشة تطوير معايير ومبادئ العملات الرقمية للبنك المركزي بموقف منفتح وملائم، والتعامل بشكل صحيح مع جميع أنواع المخاطر والتحديات مع الضغط بشكل جماعي من أجل تطوير النظام النقدي الدولي"[18].

الخلاصة:

أدت اختبارات الصين لعملتها الرقمية إلى تغير حقيقي في اتجاهات تتعلق بتسريع وتيرة بحث الدول وبنوكها المركزية عن إصدار عمله رقمية، ومقدار تغيير النظام المالي العالمي جراء إصدار العملات الرقمية وتداولها في التجارة الدولية. ورغم الإشكاليات التي تتحدث عنها الدراسات والأبحاث المتعلقة بـ "العملة الرقمية الصينية" إلا أنها شقت طريق التطبيق الفعلي.

المصادر:

[1]China’s Digital Currency Could Challenge Bitcoin and Even the Dollar, Bloomberg News, Jun 1, 2021, https://bloom.bg/2TTaVlg

[2]China: Economic Activity Continues to Normalize though Some Risks Remain - World Bank Report, the World Bank, June 29, 2021, https://bit.ly/2UDRYmr

[3]China’s Digital Yuan: Development Status and Possible Impact for Businesses, China Briefing, May 12, 2021, https://bit.ly/3hXrXGS

[4]Xiong’an, Shenzhen, Suzhou, and Chengdu

[5]Revised bank law set to give green light to digital RMB, ENGLISH.GOV.CN, Oct 27,2020, https://bit.ly/3BgmJ1w

[6]What Will Be the Impact of China’s State-Sponsored Digital Currency?, Carnegie, July 01, 2021, https://bit.ly/3ilaTuB

[7]Progress of Research & Development of E-CNY in China, Working Group on E-CNY Research and Development of the People's Bank of China , July, 2021, p13

[8]China digital currency: overseas visitors free to use e-yuan at 2022 Winter Olympics in Beijing, China Macro Economy, 16 Jul, 2021, https://bit.ly/2UW3idD

[9]Ibid. Progress of Research…p5

[10]الصين تنضم إلى تايلاند والإمارات في مشروع بحثي بشأن العملة الرقمية، Xinhua News Agency، 24 شباط 2021، https://bit.ly/3r29WuU

[11]Ibid, China’s Digital Currency…

[12]Why China Is Making a Bold Gamble With Digital Currency, mind matters, April 20, 2021, https://bit.ly/3xwnwt3

[13]Ibid, China’s Digital Currency…

[14]Annual Economic Report, BIS, June 2021, p70

[15]Watch list, https://bit.ly/3y16wLz, July23, 2021.

[16]China Says It Has No Desire to Replace Dollar With Digital Yuan, Bloomberg News, April 19, 2021, https://bloom.bg/3e6MQOF

[17]China Creates Its Own Digital Currency, a First for Major Economy, The Wall Street Journal, April 5, 2021, https://on.wsj.com/3i711V9

[18]Ibid, China’s Digital Yuan..

طباعة

    تعريف الكاتب

    يحيى قاعود -  سعيد الأغا

    يحيى قاعود - سعيد الأغا

    يحيى قاعود: باحث في العلوم السياسية والسياسات العامة، سعيد الأغا: باحث اقتصادى