كيف يفكر العالم

"الشعبوية":| تعود إلى المجتمعات الغربية

الشعبوية - داخلي
طباعة

اتجه اهتمام كبار المحللين ومؤسسات الفكر أخيرا لدراسة الحركات الاحتجاجية الجديدة التي ظهرت في المجتمعات الغربية، والموصوفة "بالشعبوية"، والتداعيات المترتبة علي ظهورها. فعلي سبيل المثال، تصدرت دراسة عن أثر صعود حركة "حفل الشاي" علي السياسة الخارجية الأمريكية غلاف عدد مارس/أبريل 2011 من مجلة فورين أفيرز الأمريكية، كما أعلنت مؤسسة بروكينجز عن تنظيم حلقة نقاش في مارس من العام نفسه بعنوان "صعود الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة"، وذلك بالتعاون مع مؤسسة هينريك بويل الأوروبية. ورغم أن الاهتمام بدراسة الحركات "الشعبوية" (Populism) ليس جديدا علي الصعيد الأوروبي، فهو اهتمام جديد نسبيا علي دوائر السياسة الخارجية في الولايات المتحدة.

وبحسب دراسة أعدها لمعهد الدراسات الاستراتيجية الأمريكي الباحث ستيف روب في عام 2005، بعنوان "التداعيات الاستراتيجية لصعود الشعبوية في أوروبا وأمريكا الجنوبية"(1)، أشار الباحث إلي أن ما يطلق عليها "الحركات الشعبوية" لم تنل حظها من الاهتمام في دوائر السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي. وأرجع الباحث ذلك لعدة أسباب، من ضمنها سيطرة الرؤية التحليلية القائمة علي أن التطور الديمقراطي يسير حتميا في اتجاه تصاعدي. يؤدي ذلك إلي تجاهل هشاشة بعض النظم الديمقراطية الحديثة - في أوروبا الشرقية علي سبيل المثال - كما يصعب من رصد نمو الحركات الشعبوية التي تتميز بالديناميكية وعدم الثبات، داخل هذه النظم. يري الباحث ضرورة دراسة الحركات الشعبوية بوصفها تهديدا خارجيا للقوة الأمريكية، حيث يمكن أن تقوض القاعدة السياسية للنظم الأوروبية الغربية، التي ترتكز عليها الولايات المتحدة في استخدام قوتها العسكرية للتدخل في مختلف أنحاء العالم، كما فعلت لاحتواء الاتحاد السوفيتي وفي أزمة البلقان.

ويعزو الكثير من المحللين تصاعد قوة ونفوذ الحركات الشعبوية خلال السنوات القليلة الماضية، في أوروبا والولايات المتحدة نفسها، إلي تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة. وقد أشارت دراسة عن القطاع البنكي والأزمة المالية العالمية إلي أثر هذه الأزمة في خلق فجوة من عدم الثقة بين المجتمعات الغربية ونخبها الاقتصادية والسياسية(2).

فبحسب الدراسة، استندت عمليات الإشراف علي العمليات المالية وتنظيمها - علي المستويات القومية والعالمية - إلي رؤية ضيقة مفادها أن ربحية البنوك تعتبر في حد ذاتها مؤشرا علي فعالية النظام المالي. ولم يكن هناك نقاش حول التداعيات الاجتماعية لهذا النظام، وما يترتب عليه من توزيع غير عادل للثروة.

ولهذا السبب، كان هناك ميل شعبي عام لعدم تصديق دعاوي الحكومات عن الحاجة الملحة لإمداد قطاع البنوك بالمبالغ الضخمة من الأموال، والتي جاءت علي حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة. وبالتالي، فقد انفجر الغضب الشعبي تجاه النخبة الحاكمة التي اتهمت إما بالتواطؤ مع القطاع المصرفي، أو بالعجز عن الوقوف أمام نفوذه.

فاقم من الأزمة السياسية بين النخب والشعوب الغربية اضطرار معظم الحكومات الأوروبية - وستتبعها في ذلك قريبا الولايات المتحدة - لاتخاذ إجراءات تقشفية شديدة للتعامل مع أزمتها المالية الحادة. وقد أظهرت دراسات حديثة أن نسبة ديون هذه الحكومات قد بلغت معدلات غير مسبوقة وغير محتملة.

فقد ارتفعت نسبة عجز الموازنة الفيدرالية في الولايات المتحدة من 1.2% من الناتج القومي عام 2007 إلي نحو 9.9% من الناتج القومي عام 2009، بما يوازي 1.4 تريليون دولار(3). ومن المنتظر أن تبلغ نسبة إجمالي الدين الأمريكي إلي إجمالي الناتج القومي 344% بحلول عام 2050، وأن تبلغ هذه النسبة 337% بالنسبة لفرنسا، و 221% بالنسبة لألمانيا، و 560% بالنسبة لبريطانيا بحلول العام ذاته.

وبالتالي، فإن الحكومات الأوروبية وحكومة الولايات المتحدة تواجهان خيارات كلها صعبة علي المستوي السياسي، وهي تنحصر في رفع معدل الضرائب أو تخفيض الإنفاق الحكومي علي الخدمات الاجتماعية والصحية أو الاثنتين معا. وكلها سوف تزيد من مستوي الغضب الشعبي، وعدم الثقة في النخب الحاكمة، وبالتالي ازدهار الحركات "الشعبوية".

تعريف الحركات "الشعبوية":

تعتبر الخطوة الأولي في دراسة الحركات الشعبوية هي التوصل إلي تحديد مفهوم "الشعبوية" نفسه، وللخصائص التي تميز هذه الحركات. وقد قدمت الباحثة كريستا ديويكس في دراسة بعنوان "الشعبوية" استعراضا لتطور المفهوم النظري في الأدبيات المختصة، خلصت فيه إلي تحديد المعالم الرئيسية للحركات التي يطلق عليها "شعبوية"(4).

وحسب هذه الدراسة، فإن الميزة الأساسية لهذه الحركات هي إيمانها بمحورية دور الشعب في العملية السياسية، التي يجب أن تعكس بشكل مباشر الإرادة الشعبية. ولذلك، فإن لدي هذه الحركات معارضة ونفورا من النخب والمؤسسات السياسية المختلفة التي تقف حائلا بين هذه الإرادة الشعبية، وتحقيق أهدافها. ويري الكثير من المحللين أن ظهور الحركات الشعبوية يعتبر إفرازا طبيعيا للنظام السياسي الديمقراطي نفسه، حيث إنها مرتبطة بحركة الشد والجذب بين وجهي الديمقراطية: الوجه "البراجماتي" - الذي تمثله المؤسسات الديمقراطية من أحزاب وانتخابات وجماعات ضغط، والتي يتم صنع القرار فيها من خلال توافقات وتفاعلات أعداد كبيرة من الفاعلين السياسيين - والوجه "المثالي"، الذي تمثل فيه الديمقراطية طريقا لحياة أفضل من خلال تحقيق إدارة الشعب لأموره، وتنفيذ إرادته في تحديد مستقبله.

وعندما تعجز العملية السياسية عن تحقيق عالم "أفضل وأكثر عدالة" للشعوب، أو عندما ترفض النخبة الحاكمة تحقيق الإرادة الشعبية، تظهر الحركات الشعبوية التي تسعي لأن تستبدل بالنخب السياسية أخري أكثر تحقيقا لإرادتها. وفي هذا الإطار، فإن ظهور هذه الحركات مؤشر علي وجود خلل في العملية الديمقراطية، يجب علي النخب أن تنتبه إليه وتتعامل معه.

يتميز الخطاب الشعبوي بالتبسيط الشديد لقضايا معقدة، حيث إنه يتوجه إلي رجل الشارع العادي، كما يتميز بطغيان الجانب العاطفي، إذ إن هذه الحركات تتغذي علي مشاعر الغضب والخوف عند عامة الناس. يقوم هذا الخطاب أيضا علي وجود حالة من الاستقطاب بين "الشعب" الذي تمثله الحركة، وطرف "آخر" يشكل هدفا للوم والغضب، بوصفه السبب في المشاكل التي يعانيها الأول.

ويختلف تعريف "الشعب" بين الأنماط المختلفة للحركات الشعبوية، فقد ينصرف التعريف إلي مجموع سكان دولة ما، وقد ينصرف إلي جزء منه تجمعه روابط عرقية أو إثنية أو ثقافية. وفي الحركات الشعبوية اليسارية، ينصرف مفهوم الشعب إلي طبقة أو قاعدة اجتماعية معينة، مثل الطبقة العمالية، كما يختلف مفهوم "الآخر" أيضا. فرغم أن هذا المفهوم ينصرف عادة إلي النخبة السياسية والاجتماعية والثقافية، فإنه قد ينصرف أيضا إلي أقليات عرقية أو إثنية أو ثقافية.

وتعد إحدي المشاكل المرتبطة بظهور الحركات الشعبوية هي إمكانية انزلاقها إلي العنصرية والتحيز، حيث تحمل جماعة ما، بدون أسس عقلانية، مسئولية المشاكل التي يواجهها المجتمع.

تظهر هذه الحركات بشكل عام أثناء فترات الاضطراب والتغيير، سواء كانت أزمة اقتصادية لها تداعيات اجتماعية واسعة، أو بسبب سيطرة نخبة فاسدة تهتم بتحقيق مصالحها الخاصة علي حساب المصلحة العامة، كما قد تظهر في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية. وكثيرا ما تصعد هذه الحركات قيادات سياسية جديدة تتميز بالكاريزما والجاذبية، تنجح في إقناع أنصارها بأن وصولها إلي الحكم سوف يؤدي إلي تحقيق الإرادة الشعبية الحقيقية.

"الغضب الاقتصادي" وتصاعد الشعبوية:

يرصد روبرت ريش، وزير العمل الأمريكي الأسبق، وأستاذ السياسات العامة بجامعة كاليفورنيا، في مقاله "صعود الشعبوية"(5)، مظاهر وأسباب تصاعد الغضب الشعبي ضد النخبة السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. ويبرز ريش في هذا المقال ازدياد الفجوة في الدخل والنفوذ بين النخبة والطبقة المتوسطة الأمريكية، وما يراه تواطؤا بين النخب السياسية والاقتصادية يؤدي إلي إلحاق الضرر بالمصالح الأساسية للطبقة المتوسطة، ويحد من قدرتها علي تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

يعزو الكاتب تصاعد مشاعر الغضب والتوتر في المجتمع الأمريكي، عقب الأزمة الاقتصادية، إلي تزامن التراجع الاقتصادي العام، مع إحساس الطبقة الوسطي بالحرمان النسبي. فرغم تلقي الأغنياء في الولايات المتحدة ضربة موجعة عام 2008، فإن معظمهم قد استرد عافيته بحلول عام 2010 ، بينما ظلت الطبقات المتوسطة والفقيرة تعاني البطالة والحاجة. وبذلك، عادت الفجوة بين الأغنياء وباقي المجتمع الأمريكي في الاتساع مرة أخري.

وعلي سبيل المثال، حققت مؤسسة جولدمان ساكس أرباحا في عام 2009، مكنتها من دفع 16.7 مليار دولار مكافآت لموظفيها، بينما قدمت مؤسسة جي بي مورجان تشيس 27 مليار دولار كمكافآت لموظفيها في العام نفسه. وقد انفجر الغضب الشعبي في مارس 2009، بعد أن اتضح أن شركة AIG، التي تكلفت الحكومة الأمريكية أكثر من 150 مليار دولار لإنقاذها، قد دفعت لقياداتها العليا 165 مليار دولار مكافآت.

وقد توجه مواطنون إلي منازل قيادات هذه الشركة للتعبير عن غضبهم، كما أمطروهم بوابل من الخطابات الغاضبة. ويرجع غضب الطبقة المتوسطة الأمريكية إلي أنها فقدت معظم قيمة أهم الأصول التي تمتلكها - وهي المنازل - نتيجة للتدهور الذي أصاب سوق العقارات، بل وخسر الكثير منهم هذه المنازل لعدم قدرتهم علي سداد الأقساط، وذلك كنتيجة مباشرة لسوء تصرف البنوك والمؤسسات المالية وشركات التأمين.

يرى ريش أن تركيز الدخل والثروة في الشريحة العليا من المجتمع الأمريكي أصبح يضع قيودا علي إمكانية الطبقات الأقل حظا في تحقيق التقدم الاجتماعي. فأبناء الطبقة العليا هم الأكثر حظا في الحصول علي التعليم الجيد في الجامعات الخاصة ذات المصاريف الباهظة، مما يعزز من فرصهم في الحصول علي أفضل الوظائف بأعلي الرواتب. وتاريخيا، لم تؤد هذه الفروق الكبيرة في مستوي المعيشة والدخل إلي حدوث اضطرابات اجتماعية في الولايات المتحدة، نظرا لإيمان غالبية الأمريكيين بأن لديهم الفرصة، من خلال العمل الجاد، للحصول علي حياة أفضل ومزايا اقتصادية أكبر لهم ولأبنائهم. لكن الأمريكيين باتوا يشعرون بالقلق الشديد، نظرا لاجتماع الثروة مع القوة السياسية، واستخدام الثروة لشراء النفوذ السياسي.

وفي هذا الإطار، يشير الكاتب إلي التبرعات الضخمة التي تضخها مؤسسات وول ستريت في خزائن كل من الحزب الجمهوري والديمقراطي. فقد تبرعت مؤسسات وول ستريت ومديروها لأعضاء الحزبين بنحو 42 مليار دولار في الفترة ما بين نوفمبر 2008 ونوفمبر 2009، خاصة لأعضاء اللجان البرلمانية المختصة بالقضايا المالية. وقد تبرعت مؤسسات وول ستريت، أثناء الحملة الانتخابية لعام 2008، بنحو 88 مليون دولار لمرشحي الحزب الديمقراطي، و 67 مليون دولار لمرشحي الحزب الجمهوري. في هذا الإطار، يري الرأي العام الأمريكي استعداد النخبة السياسية لإنفاق الأموال الطائلة لإنقاذ البنوك من الإفلاس، ثم تغاضيها عن عودة البنوك لنفس ممارساتها السابقة، بعد أقل من عام دون أي تدخل، تواطؤا بين الطرفين.

يرصد ريش تجلي رد الفعل الشعبي لكل هذه الممارسات في ظهور خطاب سياسي يتميز بالمرارة والغضب، يهاجم بشدة النخب التي تنظر بتعال إلي الأمريكيين "العاديين" من أعضاء حركة "حفل الشاي"، ويسعي إلي الخلاص منها. كما اتخذ رد الفعل شكل الهجوم علي فكرة "التعددية الثقافية"، واتهام المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة بتهديد القيم الأمريكية المستمدة من التراث المسيحي - اليهودي. وبسبب هذا المناخ المتوتر، أصبح الكثير من الأمريكيين علي استعداد لمساندة إجراءات اقتصادية تسبب ضررا للنخبة الاقتصادية، حتي وإن عادت بالضرر عليهم أيضا. وفي هذا المناخ غير العقلاني، يتم الهجوم علي التوسع في نشاط الحكومة في إدارة المجتمع من ناحية، وعلي مؤسسات وول ستريت من ناحية أخري. وإذا استمر تفاقم الغضب الشعبي، نتيجة لامتداد فترة الأزمة الاقتصادية، فقد يتم تصعيد زعامات ديماجوجية تسعي للحصول علي سلطة مطلقة، وتتبني سياسات سوف تضر بالولايات المتحدة داخليا وخارجيا.

"الشعبوية" الأمريكية وتداعياتها علي السياسة الخارجية:

في مقاله "حزب الشاي والسياسة الخارجية الأمريكية"، يرصد والتر رسل ميد، أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير، الجذور التاريخية للحركة الشعبوية الأمريكية(6)، والتي تعود إلي المرحلة الاستعمارية. وبحسب ميد، عادة ما تعاود هذه الحركات ظهورها عند انتشار شعور عام بالاستياء من النخبة المميزة اجتماعيا واقتصاديا، مع تفاقم الشكوك تجاه دوافع وممارسات النخبة الحاكمة. وينسب هذا التيار الشعبوي الأمريكي المسمي "بالجاكسونية" إلي الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، الذي استغل الزخم الشعبوي السائد في عام 1830 في إعادة تنظيم النظام الحزبي، وتوسيع رقعة المشاركة الشعبية في الانتخابات.

تعتمد الجاكسونية رؤية تتميز بالإيمان الشديد بالتفرد والتميز الأمريكي، وبرسالة الولايات المتحدة العالمية. يقوم النظام العالمي، وفق هذه الرؤية، علي التنافس بين دول تسعي في المقام الأول لتحقيق مصالحها الخاصة. ولهذا، فهي لا تؤمن بإمكانية قيام نظام عالمي ليبرالي. وفي حالة وقوع أي اعتداء علي الولايات المتحدة، فإن أنصار هذا التيار يؤيدون القيام بحرب شاملة، هدفها إلحاق الهزيمة الشاملة بالعدو وتحقيق استسلامه غير المشروط.

وعبر التاريخ، واجه الرؤساء الأمريكيون مشكلة في إقناع هذا التيار بدعم سياساتهم الخارجية. واجه الرئيس فرانكلين روزفلت هذه المشكلة، عندما كان يحاول تحقيق الدعم الداخلي للتدخل ضد قوي المحور أثناء الحرب العالمية الثانية، وإن كان وقوع الاعتداء الياباني علي بيرل هاربور قد قدم له مخرجا في ذلك الوقت. وقد لجأ الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، ووزير خارجيته دين أشيستون، إلي خلق "فزاعة" الخطر الشيوعي لحشد الدعم لسياسات تهدف إلي مساعدة أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها مشروع مارشال علي سبيل المثال. وفي إطار الدفاع عن الولايات المتحدة ضد الخطر الشيوعي، ساند التيار الجاكسوني ميزانيات الدفاع العالية، والتدخل الأمريكي العسكري في الخارج. وقد استغلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة فكرة التنافس مع الاتحاد السوفيتي لحشد الدعم لعديد من السياسات التي أسهمت في تشكيل نظام عالمي ليبرالي يضم الدول غير الشيوعية.

وبعد 11 سبتمبر 2001، سادت قناعة بأن الولايات المتحدة تتعرض لخطر داهم وشديد. لذلك، فإن الرأي العام كان علي استعداد لبذل المال والدماء لدرء هذا الخطر. وقد كان أمام إدارة الرئيس جورج بوش الابن الفرصة لتبني سياسة خارجية نشيطة لدعم نظام عالمي ليبرالي في ظل هذا الدعم الشعبي. وسوف يتناقش المؤرخون لسنوات طويلة قادمة حول الأسباب التي أدت بهذه الإدارة لتفويت هذه الفرصة.

 وعند توليه السلطة، قررت إدارة الرئيس باراك أوباما انتهاج منهج مختلف، حيث تخلت عن "الحرب علي الإرهاب" كمظلة لعملها الخارجي. ولذلك، تواجه إدارة أوباما عقبات حقيقية في بناء دعم داخلي لسياساتها الخارجية، في إطار مناخ سياسي يتميز بالاستقطاب الشديد، حيث تمر الولايات المتحدة اليوم بلحظة جديدة من الزخم "الجاكسوني"، نتيجة لتضافر عدة عوامل داخلية وخارجية. فهناك استمرار لخطر الإرهاب من جانب متطرفين من الداخل والخارج، وهناك خطر الصعود الصيني الذي يمثل تهديدا علي صعيد الأمن الدولي في آسيا، وعلي صعيد المنافسة الاقتصادية التي ترتبط في أذهان التيار الجاكسوني بمشاكل الطبقة الوسطي الاقتصادية. وهناك أيضا أزمة الدين الفيدرالي التي تهدد أمن واستقرار البلاد. وعلي الصعيد السياسي، هناك تصاعد لخطاب تصادمي بين رجل الشارع الأمريكي والنخب الأمريكية التي يراها متعالية، وتعتمد أفكارا تستعصي علي الفهم.

يرى ميد أنه من الصعب التنبؤ بتداعيات هذا الزخم الشعبوي الجديد، والذي يتجسد في حركة "حفل الشاي" علي السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن يمكن القول إن هناك إجماعا في هذا التيار علي أن أمن الولايات المتحدة الداخلي لا يمكن تحقيقه بدون نشاط أمريكي واضح في الخارج. وكلما زاد شعور الجاكسونيين بالخطر، سواء من الصعود الصيني أو من الإرهاب، سوف يزيد إصرارهم علي توفير الإمكانيات، وتكوين التحالفات لمواجهة هذا الخطر. وسوف يؤدي تنامي النفوذ الجاكسوني إلي زيادة الدعم الأمريكي لإسرائيل، حيث لا يؤمن أنصار هذا التيار بأن العرب يشكلون حلفاء يمكن الاعتماد عليهم. كما أنهم سوف يتقبلون استخدام إسرائيل لمستويات عالية من العنف ضد الفلسطينيين، في إطار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". كما يجعل تنامي قوة هذا التيار من اتخاذ إجراءات عسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني أمرا أكثر احتمالا.

وبرغم المصاعب التي يشكلها صعود هذا التيار بالنسبة للدور الخارجي الأمريكي، فإن ميد يري أن النسخة المعاصرة من التيار الجاكسوني تعتبر أقل عنصرية وتحيزا من التيار الانعزالي الذي تعاملت معه إدارة الرئيس ترومان منذ عدة عقود، وأكثر انفتاحا علي ثقافات ورؤي مختلفة. كما يؤكد ميد أنه حتي لو فقدت حركة "حفل الشاي" زخمها، فإن أصواتا شعبوية معارضة أخري سوف تظهر. ولذلك، فمن واجب صانعي السياسات داخل الولايات المتحدة وخارجها دراسة وفهم هذا التيار الذي أصبح يشكل قوة رئيسية في الحياة السياسية الأمريكية.

الهوامش:
 

1- Steve C. Ropp، The Strategic Implications of the Rise of Populism in Europe and South America، Strategic Studies Institute، June 2005. available at www.carlisle.army.mil/ssi.

2- Ben Thirkell-White، Dealing with the Banks: Populism and the Public Interest in the Global Financial Crisis. International Affairs، vol. 85، No. 4، July 2009، pp. 689-7111.

3- Douglas J. Besharov & Douglas M. Call، The Global Budget Race. The Wilson Quarterly، Autumn 2010. available at www.wilsonquarterly.com/printarticle.cfm?aid=1709.

4- Christa Dewiks، Populism، Living Reviews in Democracy، vol. 1 (2009). available at http://democracy.livingreviews.org.

5- Robert Reich، Populism Risig، The American Interest، Nov./Dec. 2010. available at www.the-american-interest.com.

6- Walter Russel Mead، The Tea Party and American Foreign Policy، Foreign Affairs، March/April 2011، pp. 28-44.

طباعة

    تعريف الكاتب

    كارن أبو الخير

    كارن أبو الخير

    مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام