مقالات رأى

ليس «الأولتراس» وحدهم: السلطة والشباب في عالمين منفصلين

طباعة

لم يفعل شباب «أولتراس أهلاوي» فى إحيائهم ذكرى قتل أكثر من 72 من زملائهم أكثر من توجيه رسالة لم تصل بعد إلى من تفصلهم عن الأجيال الجديدة مسافات شاسعة. وليس في هذه الرسالة أكثر مما تضمنته سابقاتها، وأخرها إلحاق هزيمة كاسحة بالقائمة المدعومة من السلطة فى انتخابات اتحادات طلاب الجامعات، والانصراف عن انتخابات مجلس النواب وإدارة الظهر لها.

تفيد هذه الرسالة أن الترحيب لن يجدى مع أغلبية الشباب، وخاصة الجيل الذى تفتح وعيه على ثورة 25 يناير، وأن الترهيب لا يؤدى سوى إلى صنع "ديكور" شبابي شديد الهشاشة لا يفيد من يصنعونه في شئ، بل يضرهم لأنه يوحى لهم بأنهم قادرون على "الاحتواء".

لم تختلف رسالة "أولتراس أهلاوي" إلا في أن التعبير عنها حدث فى مشهد مهيب فى ستاد "مختار التتش"، وعبر هتافات حمل بعضها معنى أنه ليس كل ما يفوت يموت، وأن الثورة خلقت وعياً بأن العدالة لابد أن تتحقق مهما تأخرت. وتندرج مسيرة "أولتراس جرين إيجلز" الحاشدة فى بورسعيد ضمن هذا الإطار أيضاً لأن الصراع بين "الأولتراسين" تفاقم بفعل فاعل مازال بعيداً عن المساءلة والمحاسبة، كما هو الحال فى كل الحالات التى راح ضحيتها شباب لا يريدون إلا الحرية (ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها).

بحر من الإحباط

والحال أن المسافة بين سلطة الدولة والشباب تزداد كل يوم، وأن مراكز القوة فى هذه السلطة قادرة على تفريغ أية محاولة لوضع حد لهذا التباعد من محتواها، حتى إذا كانت صادرة من رئيس الجمهورية. فالأزمة بين هذه السلطة والشباب ليست جديدة، ولكنها تفاقمت بشدة خلال العامين الأخيرين عندما بدا للشباب الذى يحلم بمصر حرة أن ما حدث بعد 30 يونيو لا يحقق ما تطلعوا إليه، وهو استعادة ثورة 25 يناير لمسارها الذى انحرفت به جماعة "الإخوان".

ولم يكن إصدار قانون يمنع التظاهر، وتطبيقه بطريقة شديدة الخشونة لا تخلو فى بعض جوانبها من نزعة انتقامية تجاه شباب الثورة، إلا نقطة فى بحر الإحباط الذى أخذ يفيض تدريجياً.

ورغم أن العلامات الأولى لهذا الإحباط كانت ظاهرة بما يكفى، ولفتت الانتباه بالفعل، إلا أن القوى المعادية لثورة 25 يناير تمكنت من إفشال أية محاولة لوضع حد لفيضانه فى أوساط الشباب.

وكان هذا الموضوع قد أُثير رسمياً بمناسبة المؤشرات التى دلت على إنصراف قطاع يُعتد به من الشباب عن الاستفتاء على الدستور الحالى فى 14 و 15 يناير 2014. ونشرت كثير من الصحف تقارير خبرية عن نقاش دار حول هذا الموضوع فى اجتماع مجلس الوزراء يوم 18 يناير 2014 تضمنت، بين ما شملته، أن هذا النقاش تطرق إلى مخاوف قطاع من الشباب من عودة نظام مبارك وأن وزير الدفاع (وقتها) عبد الفتاح السيسى أكد أنه لا عودة لما أسماه "الوجوه القديمة". وكان هذا الكلام المنسوب إليه هو "مانشيت" بعض الصحف فى اليوم التالى (19 يناير 2014).

ويعنى ذلك أن المشكلة ليست جديدة رغم أن مداولات مجلس الوزراء بشأنها وفق ما نُشر عنها اختزلتها فى جزء صغير من الشباب. فالمشكلة ليست عودة نظام قديم، بل استمرار سياسات قديمة أو إعادة إنتاجها فى صورة أخرى على نحو يُحبط قطاعات واسعة من الشباب معظمهم ليسوا منتمين سياسياً أو أيديولوجياً أو تنظيمياً.

وهؤلاء تحديداً هم الذين اكتسحوا القائمة المدعومة من السلطة فى انتخابات اتحادات طلاب الجامعات، وهم الذين ألغت هذه السلطة نتائج انتخاب اتحاد الجمهورية بعد أن فشلت فى وضع أتباعها على مقاعده.

ولكن أحداً فى مجلس الوزراء أو غيره لم يهتم بمتابعتها، بل مضت الأمور فى اتجاه يؤدى إلى تفاقمها. وبعد أن كانت المؤشرات الإحصائية والمستند بعضها على استطلاعات رأى عام تدل على أن نسبة المشاركة فى الفئة العمرية من 18 إلى 30 عاماً لم تتجاوز 25% فى الاستفتاء على الدستور، واصلت هذه النسبة انخفاضها فى انتخابات مجلس النواب ووصلت إلى معدلات تدل على أن قطاعاً واسعاً من الشباب يعيش الآن فى عالم منفصل عن ذلك الذى تقيم فيه سلطة الدولة فى "عليائها".

عواقب الاستخفاف بالأزمة

ومع ذلك يتواصل الاستخفاف بالأزمة. فكلما سمعتُ أحد أركان السلطة التنفيذية يتحدث عن الشباب، أو قرأتُ تصريحاً منسوباً لهذا أو ذاك منهم عن أهمية "احتواء" الأجيال الجديدة حيناً، والتواصل معها حيناً آخر، بدا لى أنهم منفصلون عن الواقع، بل عن معطيات أسياسية يمكن الإلمام بها بسهولة حتى بدون انخراط فى هذا الواقع.

صار الحديث عن الشباب فى هذا السياق كأنه جزء من الواجبات الروتينية التى يؤديها كبار المسئولين فى السلطة بطريقة نمطية لا تؤدى إلى التواصل الذى يتحدثون عنه بعضهم بل إلى مزيد من الانقطاع، ولا تحقق " التمكين" الذى يقولون إنهم يعملون من أجله بل تعيد إنتاج "دولة العواجيز" مع بعض "الديكورات" الشبابية. أما من يتحدثون عن "الاحتواء" فهم لا يعرفون شيئاً البتة عن أجيال لا تقبل منهج التدجين الذى ينطوى عليه أى "احتواء"، وأن الكثير من أبنائها يريدون أن يكونوا عصافير تغرد وتملأ الحياة أملاً وليس دجاجاً يوضع فى أقفاص.

كما أن بعض المسئولين الذين يتحدثون عن الشباب يسيئون إلى مصر كلها، مثل حديث أحدهم عن (الشباب الكسلان) الذى (يقعد على القهاوى يندب حظه وينتظر الوظيفة الحكومية).

لا يعرف هؤلاء أصلاً كيف يفكر الشباب وخاصة القطاعات الأكثر وعياً وتعليماً وإطلاعا على ما يحدث فى العالم بينهم. وهذه هى تحديداً القطاعات التى يصعب أى بناء حقيقى فى مصر بدون مشاركتها الفاعلة. ولا سبيل إلى مثل هذه المشاركة إلا إذا شعر الشباب بأن المجال العام مفتوح أمامهم، وليس مغلقاً على "الهتيفة" و"المطبلاتية" الذين يعملون فى خدمة مراكز النفوذ الجديدة والقديمة.

دوائر الاغتراب تتوسع

ولذلك لا يستقيم أى حديث عن "مستقبل مصر" أو "مصر المستقبل" فى ظل تعميق الشعور بالاغتراب الذى لا يقتصر على الشباب المسيس، والشباب المحب للكرة وفى مقدمتهم روابط "الأولتراس". فالاغتراب سائد لدى شباب المثقفين، وكثير من دوائر الشباب الأكثر نبوغاً فى أوساط الطبقة الوسطى والفئات الاجتماعية الأدنى بسبب ضعف امكانات الحراك الاجتماعى فى مجتمع يترسخ الانقسام الطبقى فيه. وهذا فضلاً عن الطلاب الذين يدفعون ثمن القبضة الأمنية المفروضة على الجامعات، ويرون أن خنقهم على هذا النحو لا يحل الأزمة مع "الإخوان" بل يؤدى إلى مزيد من تدهور التعليم.

ولا يفكر المسئولون الذين يتحدثون عن الشباب, بينما يعيش بعضهم فى كوكب آخر، فى مشاهدة عمل فنى مثل المسرحية الشبابية الرائعة "1980 وأنت طالع"، التى تقدم رؤية الأجيال الجديدة منذ جيل الثمانينات للأوضاع الراهنة، وتؤكد أن إبداعها المتميز الواضح فى هذه المسرحية لا مكان له فى المنظومة القائمة، وتوجه رسالة العقل التى ترفض وضع الشباب بين مطرقة الإرهاب وسندان القمع بحجة مواجهة هذا الإرهاب.

تفريغ مصر من شبابها النابهين

ولا تدرك سلطة الدولة حجم الأخطار المترتبة على استمرار سياساتها تجاه الشباب، وما تؤدى إليه من سعى الواعدين بينهم علمياً فى مختلف المجالات للسفر إلى الخارج. ولأن الشركات العالمية تعرف ذلك، فهى تقتنص شبابنا الواعد والمحبط واحداً

بعد الآخر. وقد عادت مصر مجدداً لتكون سوقاً لهذه الشركات ولكن ليس لتستثمر فيها بل لتأخذ أفضل أبناءها. وكانت هذه السوق قد تقلصت بشكل ملموس عقب ثورة 25 يناير التى فتحت أبواب الأمل على مصارعيها أمام الشباب.

ولكن الكثير من الشباب الموهوبين يفرون من مصر وهم يتألمون حسرة ليس على مستقبلهم كأفراد لأن فى إمكانهم أن يحققوه فى بلاد أخرى، بل لأن طاقتهم الإبداعية والابتكارية لا مكان لها فى وطنهم الذى يأبى إلا أن يبقى فى تخلفه ويفرض عليهم أن يضعوها فى خدمة تقدم آخرين فى العالم.

فمصر، التى فى خاطرهم ودمهم، لا تحفل حتى الآن بمبدعين وبمفكرين ومنتجين، بل بمصفقين ومطبلين ومهللين.

أما لسياسة "القطيع" من آخر؟

وإذا أرادت سلطة الدولة أن تنقذ مصر من عواقب أزمة الاستخفاف بشبابها، فينبغى أن تدرك أن محاولة تحويلهم إلى "قطيع" يقف فى طابور ويفعل ما يؤمر به، لا تؤدى إلا إلى توسيع المسافة التى أصبحت شاسعة بينها وبين الأجيال الجديدة.

والحال أن هذه السياسة هى أسهل "وصفة" للفشل والتخلف، وليس فقط لمزيد من تفاقم الأزمة مع الشباب.

فالأجيال الأحدث بين الشباب، وخاصة بين 18 و 25 عاماً، ناهيك عن الأصغر منهم، لا تعرف أى معنى للاصطفاف فى طابور ليقولوا كلاماً يُملى عليهم، ويفعلوا ما يؤمرون أو "يُنصحون" به، ويُتهموا بالخيانة إذا لم يجدوا هذا الطابور مناسباً لهم.

فالشباب فى هذا العصر ضد سياسة "القطيع" وثقافته التى تجعل الكلام أهم من العمل، والانصياع مقدماً على الإبداع، والغريزة فوق العقل. ولذلك يبدو كثير من الشباب الآن فى عالم منفصل عن صانعى حالة القطيع الذين لا يعنيهم إلا الاصطفاف فى الطابور وتكرار الكلام الذى يُقال كل يوم بلا وعى أو تفكير. ولا مجال أمام الشباب

بالتالى إلا الانفصال عن هذه الحالة إلى أن يدرك صانعوها عواقبها التى يزخر التاريخ بدروسها.

------------------------------------
* نقلا عن نقلا عن التحرير، 7-2-2016.

طباعة

تعريف الكاتب

د. وحيد عبد المجيد

د. وحيد عبد المجيد

مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام