مقالات رأى

لماذا تعثرت الثورات العربية؟

طباعة
في الإعلانات والتصريحات السياسية الأمريكية والروسية والأوروبية اختفى الكلام عن ربيع عربي وتحول ديمقراطي ليحل محله القلق من أزمات وإرهاب وصراعات، ما يضمر قناعة بنهاية الثورات الشعبية التي انطلقت في العام 2011 وفشلها . ودليلهم على ذلك النفق الدموي الطويل الذي دخلت فيه سوريا وليبيا اللتان مازالتا تتخبطان في حبائل الانتقال السياسي، في حين أن مصر التي تسير بتؤدة وفق خريطة الطريق يهددها الإرهاب الذي لا يميز بين مدني وعسكري .
 
لكن الحقيقة الموضوعية تفرض التريث في إصدار الأحكام، فمسيرة التحول الديمقراطي ليست نزهة في تاريخ الشعوب، والخروج من أنفاق الاستبداد إلى رحاب الحرية لا يحدث بين ليلة وضحاها .
 
بيد أن تجربة التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين في العام 1989 يذهب في عكس هذا التحليل . إذ إن دول هذه المنطقة، باستثناء يوغوسلافيا التي غرقت في أتون حرب أهلية قادت إلى تفككها، تمكنت، في غضون أشهر معدودة، من الانتقال من نظم شيوعية مستبدة إلى نظم أكثر ديمقراطية، من دون ضربة كف واحدة في بعضها وبتكاليف تكاد لا تذكر في بعضها الآخر .
 
فما هي الأسباب التي كانت وراء هذا الانتقال السلس في أوروبا الشرقية وهذا التعثر في الحالة العربية؟
 
نسارع إلى القول إن البيئة الداخلية في بلدان الثورات العربية كانت ملائمة تماماً للتحول، كما كانت عليه البيئة الداخلية في أوروبا الشرقية، بل إن الشعوب العربية انتفضت من ذاتها من دون أي تدخل أو إيعاز خارجي ففاجأت الدول العظمى واستخباراتها ومراقبيها، في حين أن شعوب أوروبا الشرقية كانت تتلقى كل أنواع المساعدات الغربية قبل وخلال وبعد مرحلة التحول الديمقراطي .
 
لنفتش عن السبب، إذاً في العناصر الخارجية، وهنا سوف نجد أنها لم تكن فقط مناسبة للأوروبيين الشرقيين بل كما لو أنها أمسكت بأيديهم لمساعدتهم على العبور من الشيوعية إلى الليبرالية ثم سهرت على تعزيز وترسيخ هذا الانتقال بادخالهم في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي . لقد وضعت ادارة الرئيس ريغان وقتها كل ثقلها لإضعاف الاتحاد السوفييتي عسكرياً (أفغانستان) واقتصادياً (حصار اقتصادي، حرب النجوم . .) وسياسياً (اتفاقية هلسنكي 1957) واعلامياً(صوت أوروبا الحرة) وايديولوجياً(الترويج لقيم الحرية والديمقراطية . .) . ثم تحالفت مع البابا يوحنا بولس الثاني، البولوني الأصل، في سبيل إسقاط بولونيا الحجر الأول في الدومينو الأوروبي-الشرقي . لقد تلقت حركة سوليدارنوسك (تضامن) كل أنواع المساعدات الغربية إلى درجة أنها صارت أغنى مالياً وأقوى سياسياً من نظام الجنرال ياروذلسكي الذي اضطر للخضوع للضغوط الغربية . وعندما سقط حجر الدومينو الأول في بولونيا انهارت وراءه الأحجار الأخرى، من دون مقاومة موسكو التي كان يشق فيها زعيمها الإصلاحي غورباتشيف الطريق الصعب للبريسترويكا والغلاسنوست .
 
كانت شعوب أوروبا الشرقية تتطلع إلى نموذج واضح تريد الانتقال اليه هو النموذج الغربي والأمريكي على وجه الخصوص . كانت مجمعة على ذلك في وقت كانت الولايات المتحدة تسعى لإخراجها من الفلك السوفييتي، والحاقها ب"العالم الحر" الذي تتزعمه . في الحالة العربية لم يكن هناك من نموذج واحد متفق عليه للحلول محل النظام البائد . فقد فتح انهيار هذا الأخير على صراع بين النماذج الإسلامية بتلاوينها المختلفة (إخواني، أصولي، معتدل، سلفي، جهادي . .) والنماذج اليسارية والقومية والعلمانية بتلاوينها المتعددة هي الأخرى . ودخلت المصالح الخارجية على خط هذا الصراع فتعثرت سبل الانتقال السياسي وباتت مزروعة بالألغام والعقبات . هذه المصالح كانت متفقة تماماً في الحالة الأوروبية الشرقية، إذ كان هناك زعماء مثل ريغان ثم جورج بوش الأب قبل كلينتون ومرغريت تاتشر وجيسكار ديستان قبل ميتران وهلموت كول . . إلخ، كلهم انخرطوا لمصلحة التحول الديمقراطي الأوروبي الشرقي في وقت لم تعد موسكو المتعبة تشكل عقبة أمامه .
 
في الحالة العربية كان هناك الفرنسي ساركوزي الذي بدأ بالانحياز للرئيس التونسي زين العابدين بن علي قبل أن يغير رأيه تحت ضغط الرأي العام، والرئيس الأمريكي أوباما المتردد الذي لم تكن الديمقراطية في لائحة اهتماماته . فضلاً عن الطامة الكبرى "إسرائيل" التي لا مصلحة لها البتة في تغيير أنظمة تكيفت معها منذ عقود طويلة خلت، بل إن مصلحتها هي في تعثر التحول الديمقراطي العربي وتحويله إلى أزمات لا أفق لها . و"إسرائيل" كما نعلم تمارس تأثيراً ونفوذاً في القرار الأمريكي لاسيما المتعلق بالشرق الأوسط .
 
من جهته، كان النظام الدولي يعيش انتقالاً من القطبية الثنائية إلى أحادية أمريكية شكلت لحظة مؤاتية للتحول الأوروبي الشرقي . أما اليوم فهو يعيش مرحلة يسودها الغموض والسيلان على خلفية أزمة اقتصادية تهدد الرأسمالية المعولمة، في ظل صعود قوى وأفول قوى وتحولات ليست بالضرورة داعمة موضوعياً للثورات العربية . ولا ننسى العامل النفطي والغازي الذي يشكل سبباً لصراعات نفوذ خارجية على الأرض العربية .
بالطبع هناك الاجتماع السياسي العربي نفسه الذي يعاني معضلات شتى تستفيد منها "إسرائيل" الحاضرة على الدوام لصب الزيت على نار الأزمات العربية في وقت تتفرغ فيه لتصفية القضية الفلسطينية أمام أعين مجموعة دولية، وعربية أيضاً، منهمكة في اهتمامات أخرى .
 
-------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الثلاثاء، 22/7/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

د. غسان العزي