مقالات رأى

أزمة أسوان . . الأسباب والتداعيات

  • 30-4-2014

طباعة
الأزمات لا تنشأ أبداً من فراغ، دائماً ما تكون لها أسبابها، وقد تتعدد الأسباب بين ما هو داخلي وما هو خارجي لتكوين الأرضية الموضوعية لنشوء الأزمة، فإذا ظهر ما يمكن اعتباره المحفز يكون انفجار الأزمة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، عندها يكون الحديث عن وجود مؤامرة هو الهروب بعينه عن مواجهة الحقائق المؤلمة . يكفي أن تكون الدولة متعددة الأعراق والأديان والطوائف لتكون مفعمة بدوافع تفجر الصراعات والأزمات، ويكفي أن يكون هذا التعدد متركزاً في مناطق الأطراف الحدودية للدولة، لتكون هذه الدولة مهيأة بطبيعتها لتكون دولة أزمات وبالذات في تلك المناطق الحدودية، فما بالنا لو أن هذا كله كان متوفراً إضافة إلى الغياب الكامل للدولة، الغياب الاقتصادي والأمني والثقافي .
 
محافظة أسوان، في أقصى جنوب مصر، تعيش هذا كله، ليس منذ عشرين أو أربعين أو خمسين سنة، لكنها تعيش منذ أكثر من مئة سنة، والجديد في الصراع الدامي الذي تفجر في الأسابيع القليلة الماضية أنه وجد البيئة الحاضنة لاشتعال الأحقاد ووجد من يشعلها فحدث ما حدث .
 
فمحافظة أسوان من أكثر محافظات مصر من ناحية التعدد القبلي، فهي تضم قبائل الجعافرة والعبابدة والبشارية والهلالية والأنصار وكلها قبائل عربية هاجرت إلى مصر من عمق الجزيرة العربية . هناك أيضاً الأسوانية من الصعايدة، لكنها إلى جانب التعدد القبلي وسيطرة القبيلة على أنماط التفاعل الاجتماعي، هناك أيضاً تعدد عرقي، هناك النوبيون الذين ينتشرون في جنوب مصر ابتداء من محافظة أسوان وفي شمال السودان، وهؤلاء النوبيون المصريون ينقسمون أيضاً بين قبيلتين: الكنوز وهم نوبيون اختلطوا بالعرق العربي، أما الفرع الثاني للنوبة في أسوان فهم الفاديكا، وهؤلاء يحافظون على نقائهم العرقي من دون اختلاط بالعرق العربي، وكلاهما يتحدث لغة نوبية مغايرة للآخر .
 
هذا التعدد والتنوع العرقي في ظل غياب شبه كامل للدولة أدى إلى تعميق التنوع الثقافي واتساع الفجوة الثقافية بين هذه المكونات، كما أدى إلى سيطرة القبيلة وظهور القانون القبلي والعشائري كبديل لقانون الدولة، وهيمنة سلطة زعماء القبائل على الأفراد، فالقضاء العرفي أصبح هو القضاء الشائع، ولا ينافسه القضاء الشرعي من توغل أنشطة "الإخوان" والجماعات السلفية والجهادية .
 
التعدد العرقي والقبلي قد لا يكون مشكلة في حد ذاته إذا وجدت الدولة، فوجود الدولة بشكل قوي اقتصادياً وثقافياً وأمنياً يحول هذا التعدد إلى قيمة إيجابية في ذاته، لكن مشكلة أسوان تفاقمت بسبب غياب الدولة أولاً، وبسبب كونها محافظة حدودية يصبح فيها الأمن أولوية قصوى، لكن تفاقم الأزمة يرجع بالأساس إلى أسباب أخرى إضافية في مقدمتها المظلومية التي تحولت بمرور الزمن إلى مظلومية تاريخية عند قبائل النوبة الذين تعرضوا لاعتداء الدولة عليهم وتجاهلهم منذ عام 1902 وهو تاريخ الانتهاء من بناء أول خزان للمياه خلف أسوان ما أدى إلى ارتفاع منسوب مياه النيل وغرق مساكن وأراض زراعية في عشر قرى نوبية، وعندما قامت الدولة بتعلية خزان أسوان في الأعوام التالية ست مرات في 1912 و1932 و1933 و1936 و1944 و1947 و1953 كانت المياه تغرق عشرات القرى النوبية من دون تدخل الدولة بتعويض سكان هذه القرى مالياً وبناء قرى بديلة إلا فيما ندر، لكن المظلومية الكبرى وقعت مع بناء السد العالي حيث امتدت بحيرة ناصر لتشمل معظم أراضي وقرى النوبة ولم تستطع الدولة أن تقيم المشروعات التكميلية للسد خاصة بالنسبة للنوبة وأهلها، لأن إنجاز السد تزامن مع نكسة 1967 وتلا ذلك وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، وجاء من خلفه لينتقم من كل إنجازاته، وكانت قبائل النوبة هي ضحايا كل هذا الانتقام .
كان على هذه القبائل النوبية أن تحاول أن تجد البدائل وأن تتحلى بالصبر والوطنية، لكن نظام السادات ومن بعده نظام مبارك تجاهلا معاً كل ما يحمي الأمن الوطني في الأطراف وانشغلا باحتكار السلطة والثروة، واستخدما القبائل، والتنافس القبلي كإحدى أهم أدوات السيطرة، وكان الانحياز واضحاً للقبائل العربية خاصة الهلايل (الهلالية) في أسوان على حساب النوبيين، كل هذا أدى إلى ظهور التمايزات القبلية التي أدت إلى تفاقم الصراعات مع ازدياد الضغوط الاقتصادية والمعيشية .
 
الدولة الغائبة عن حدودها فتحت الأبواب للشيطان، كي يدخل من الأبواب وليس من النوافذ، لذلك لم يكن صادماً أن نعلم أن جامعة السوربون في باريس أنشأت منذ أكثر من أربعين عاماً معهداً خاصاً للدراسات النوبية . هذا المعهد أخذ يركز على تحويل اللغة النوبية من لغة منطوقة فقط إلى لغة مكتوبة، وأن تسعى هولندا إلى إعداد قاموس خاص باللغة النوبية، وأن تهتم جامعات ومراكز بحوث أمريكية بصياغة وبلورة هوية وطنية نوبية في جنوب مصر على حساب الهوية الوطنية المصرية، وإظهار وتميز ما يسمى ب "الأدب النوبي" و"الشخصية" النوبية عن مجمل الأدب المصري والشخصية الوطنية المصرية .
 
وبعد سقوط نظام مبارك في مصر وسقوط نظام القذافي في ليبيا وتحلل الدولة الليبية وانفراط الجيش الليبي وهيمنة حلف الناتو على الدولة الليبية جرى تهريب كميات هائلة من الأسلحة المتنوعة والمتطورة إلى مناطق متفرقة في مصر كان أغلبها متركزاً في مناطق النوبة جنوب أسوان ومحافظة سيناء .
 
أين الدولة من كل هذا؟
 
الدولة غير موجودة، لذلك كان منطقياً أن يحدث كل هذا الارتجال والتخبط والعجز في مواجهة أحداث العنف الدامية بين أبناء أحد بطون قبائل الكنوز النوبية (الدابودية) وبعض بطون قبائل الهلالية في منطقة وادي السيل الريفي خاصة قرية "الشعبية" . كانت أسباب الأحداث تافهة لا تتجاوز صدامات وتناحرات بين شباب مدارس دون العشرين، عجز الدولة كشف حجم الأزمة المتراكمة، لكنه كشف ما هو أهم وهو أن ما خفي كان أعظم ليس فقط في محافظة أسوان بل ربما في محافظة مطروح أي في المحافظات المصرية الحدودية حيث يتركز مخطط إعادة تقسيم مصر .
 
مخطط التقسيم والتفكيك لدول عربية من بينها مصر ليس جديداً وليس غريباً، لكن الجديد والغريب أن الدولة غائبة، وكونها تحولت إلى دولة عاجزة وفاشلة تحت حكم نظام مبارك على مدى العقود الثلاثة الماضية فإن ذلك ينزع عن الدولة كل مبرر للقول إن ما يحدث مؤامرة، فالمؤامرة موجودة والمخطط موجود لكن العيب في من يتغافل عن هذا كله بعجزه وقصوره، ويفرط بسهولة في أمنه الوطني ويترك للعدو أن يخترق هذا الأمن .
 
--------------------
* نقلا عن دار الخليج، الثلاثاء، 29/4/2014.
طباعة

تعريف الكاتب