مقالات رأى

سوريا وكوريا

طباعة

لماذا ينجح التوريث أبا عن جد في كوريا الشمالية ولا ينجح في سوريا؟ وهل كل ما يجري في سوريا اليوم سببه الرئيسي هو التوريث، الذي كان أحد العناصر التي أججت «ربيع العرب» من بين عناصر أخرى في تلك البلدان العربية التي تغيرت تركيبتها السياسية؟

الإجابة عن هذا التساؤل اجتهادية. فسوريا لغتها العربية تُنطق (باختلاف طفيف) مشتركة بين أربعمائة مليون من العرب؛ من طنجة إلى الخليج، وتُكتب بنفس الحروف، أي أن مفردات الحرية والتحرر وقصيدة أبو القاسم الشابي: «إذا الشعب يوما أراد الحياة»، التي ترددت في تونس، وما تردد في ساحة التحرير المصرية، كلها تُفهم بوضوح ودون عناء في المدن السورية، على عكس كوريا الشمالية؛ حيث يتكلم اللغة الكورية نحو 130 مليونا فقط، في كل من الكوريتين وبعض بر الصين، ولا يصل المنتج الثقافي الكوري الجنوبي إلا خلسة للقطاع الشمالي من شبه الجزيرة، كما أن الصين التي تحد كوريا من الشمال أحادية الحزب، ذات حكم مركزي، يختلف، على سبيل المقارنة، عن تركيا ذات الحكم الديمقراطي المحاذية لسوريا، فضلا عن أن كوريا لا تحاذي بلدا مثل لبنان يباع فيه الكثير ويُشترى الكثير متسربا إلى الداخل السوري بضائع وأفكار وممارسات، كما أن الحكم في كوريا على كل عيوبه لم يخلط الخلطة القاتلة، وهي إذابة السياسة في بحر من التجارة، تلك بعض الفروق لا كلها.

ترى هل اقتنع القارئ بأن سوريا غير كوريا، فإن كان الشعب الكوري الشمالي قد قبل بـ«جملوكية» لها مظهر الجمهورية، ومخبر الملكية المطلقة والشاملة والقمعية، فإن الجمهور السوري قبلها على مضض، كان يتوقع أن تتطور الأمور للتخلص من بعض أردانها، فلم يعد هناك مكان «للحزب الواحد» في هذا العالم، مع ما تضربه من عواصف العصرنة الشاملة والتواصل الفضائي غير المسبوق، ولم يعد هناك مكان لتضخم «أدوات الضبط» في الدولة، وضعف شديد في أدوات «التنمية» في الدولة في نفس الوقت، ولم يعد هناك مكان لخلط المصالح العامة مع الخاصة. العالم تجاوز كل ذلك، لقد ذهب العالم بعيدا، وبقي النظام السوري في مكانه لا يريد أن يعترف بأهمية التغيير في آلياته، فضلا عن خطابه، ولم تصل إليه علامات التعجب، إن لم يكن الاستنكار، عند تغيير الدستور في يوم وليلة، من أجل تمكين الابن كي يضع رجله في حذاء أبيه، فوقع الرئيس أسيرا لأفضال من نصبوه!

في مكان آخر، وفي قراءة حديثة للماضي البعيد، وجدت أحد التفسيرات التي جعلت من المسلمين الأوائل يرجحون (بأغلبية) اختيار أبو بكر لقيادتهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) على ابن عمه علي بن أبي طالب بسبب أن العرب لا تصبر أن تكون «الخلافة» في بيت مخصوص (عبد الحسين شرف الدين في «المراجعات» صفحة 117 والكتاب صدر قبل مائة عام). وقد عاد إلى ذلك الكثير من المؤرخين بعد ذلك، إذا كان ذلك التفسير قريبا إلى المنطق في ذلك الوقت الزمني المتقدم، فلماذا لا يكون التوريث اليوم مستنكرا بعد تقدم البشرية وظهور النصوص الدستورية الحديثة وهي في معظمها تنص على أن «الأمة مصدر السلطات»، وانتشار نصوص شرعت حقوق الإنسان، إلى آخره من النصوص والممارسات الكثيرة والغنية التي تعلي من شأن رأي الناس، ومرت بها البشرية في تطوير أنظمة الحكم.

يبدو أن النظام السوري (مع الأسف) قد قرر أن يرفع شعارا غير علني في وجه وفد الجامعة العربية الذي ذهب من أجل التدقيق في الممارسات ضد المواطنين العزل، هذا الشعار يقول «أنتم راقبوا ونحن نقتل»، وإلا كيف يمكن أن يستقيم أمر جهود هذه الجامعة، ونحن كمواطنين نسمع ونرى كل مساء عددا متزايدا من القتلى السوريين في شوارع المدن، يقول المطلعون إن عدد القتلى أصبح يفوق الـ6000 قتيل، فضلا عن المعتقلين الذين يشكلون الآلاف، فما الرقم الذي تريد الجامعة العربية أن يصل إليه من الضحايا السوريين حتى تقول «الكفاية هي الكفاية»!

لا يبدو أن عام 2012 يحمل إلى سوريا إلا الكثير من إراقة الدم الزكي، ولا يوجد في الأفق حل سياسي ما، فما السقف الذي تريد الجامعة العربية - مع تصريحاتها الهزيلة - أن تصل إليه؟

المشهد السوري يلخص اليوم ما يمكن أن يسميه المراقب «التفاؤل بالموت»، أي كلما كثر عدد القتلى ربما اقترب تحقيق هدف النظام؛ بأن الناس سوف تخاف وتنكفئ على نفسها وتنسحب من المقاومة السلمية، في الوقت الذي يؤكد فيه بعض المراقبين أن هدف الناس في سوريا بسيط، فالشعب السوري يرغب في تحقيق هدف واحد هو الحرية، الحرية من سلطة الحزب الواحد، التي تحولت إلى سلطة قلة من الناس، ويرغب في أن يلتحق بهذا السيل العارم في المنطقة المطالب بالديمقراطية التعددية.

لا أحد ينكر أن العلاقة بين السلطة السورية وقطاعات واسعة من الشعب السوري قد زادت مرضا على مرض، والأفق المسدود للخروج من المأزق يزيد من صعوبة عمل بعثة الجامعة العربية، التي يبدو أنها لا تعرف ما تريد ولأي هدف قد ذهبت!

كلما زاد الصراع في سوريا زاد الانقسام الداخلي، وتفاقمت المشكلات إلى حد ينذر بمخاطر حقيقية في المستقبل، كما أن الافتراض المنطقي، أن النظام كما هو - بعد كل هذا الدم - لا يمكن أن يُقبل؛ لا في سوريا ولا في الجوار الإقليمي أو الفضاء الدولي. فلا الجغرافيا ولا التاريخ السوري لهما تماثل مع كوريا الشمالية، لقد أصبح من الواضح أن الشجاعة هي مواجهة الحدث السوري بحلول ناجعة، أولها الكلام العربي الواضح مع النظام بأن التوريث الذي جعل من كل النسيج العربي ينتفض، فقط بسبب النية، آن له أن يزول من منبته الأول.

آخر الكلام:

عربيا كانت سنة 2011 سنة صعبة بكل المقاييس، الأنكى أن عام 2012، كما تقول المؤشرات، سيكون أكثر صعوبة سياسيا واقتصاديا.. الله يستر.

------------------
* نقلا  عن الشرق الأوسط اللندنية، الثلاثاء 3/1/2012.

طباعة

    تعريف الكاتب

    محمد الرميحي